التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ فِي زَمَنِ الْغَيْبَةِ

حديث الجمعة 14 ربيع الآخر 1446هـ .

شبكة مزن الثقافية مسجد المحسن بسيهات
سماحة الشيخ جواد آل جضر
سماحة الشيخ جواد آل جضر

قَالَ تَعَالَى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)  آية 122 سورة التّوبة.

 تَحَدَّثْنَا فِي الجمعةِ السّالفةِ عن موضوعِ هذه الآية المباركة وعرفنا بعض الوجوه فيها وانتهينا إلى خلاصتها في وجود فريقين أو فئتين يرتبطان بمهمة التّفقُّهِ في الدِّين.

 فريقٌ يتعلَّمُ ويَتَفَقَّهُ ثُمَّ ينقل هذا العلم والفقه للفريق الآخر وقد عبّرت الآية عن هذه المهمة بلفظ الإنذار وجعلت التحذير هو الغاية: ( وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .

 الفريقُ الأوّل كانت مصادرُ التّعلُّم والتفقَّهِ لديه هي رسولُ اللهِ صلّى اللہُ علیہِ و آلہِ ثُمّ من بعده الكتاب والعترة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين بحسب نصّ حديث الثّقلين.

 واليوم في زمن غيبة مولانا الحجّة بن الحسن أرواحنا لتراب مقدمه الفداء

1- من هم الفريق الأوّل الذي يتصدى لمهمة التّعلم والتّفقّه ؟ 
2-وماهي مصادرُ التّعلُّمِ والتّفقُّهِ المتاحة لديهم ؟

الجواب في نقاط :

1- علمُ رسولِ اللهِ صلّى اللہُ علیہِ و آلہِ علَّمَهُ أميرَ المؤمنين عليهم السَّلام ثمّ انتقل من بعدهما إلى الأئمة المعصومين ووصلنا من أحكام الدّين الشّيءُ الكثير عبر الرّواةِ الموثوقين والذين بذلوا جهدًا كبيرًا فِي حفظ الأحاديث والرّوايات وهناك قصصٌ كثيرةٌ للرّواة الذين عانوا وضحّوا بل واستشهدوا في سبيل حفظ ما وصلهم من الأحاديث والرّوايات وهكذا وبجهدهم وصلت إلينا، وبسببها تطوّرت علومُ الحديث و الدّراية وعلم الرّجال وشهدت القرون تعاقب العلماء الأفذاذ الذين حفظوا علم الدّين وفقه الدّين ونقّحوا وطوّروا وانْتَقَدُوا ومَحَّصُوا . وبينوا الصّحيحَ من الزّائف والسّليمَ من السّقيم ثمّ أصبح هذا الإرث العلمي الهائل والواسع والمتشعب موجودًا في حواضن علمية يطلق عليها اسم: الجامعة الدّينة أو الحوزة العلمية.

2- تواجدت هذه الجامعاتُ الدّينيةُ والحوزاتُ العلميّةُ وعَبْرَ القرونِ فِي مُختلفِ البلدان والمدنِ وقد تشرّفت بلادُنا في القطيف والأحساء، وكذلك في البحرين باحتضانِ بعضها ولاتزالُ هذهِ المعاهدُ الدّينيةُ موجودةً حتَّى اليوم فيها، ولكن الجامعاتُ الدّينيةُ والحوزاتُ العلمية ( الكُبْرَى والمتخصصةُ ) استقرّتِ اليوم في حاضرتين علميتين في بلدين مُقدَّسين هما: النّجف الأشرف وقم المقـدسة.

3- يَنْقُلُ صَاحِبُ تفسير ( مجمع البيان) الشيخ الطبرسي رحمه الله عن بعض المفسرين تأمُلاً في كلمة (نَفَرَ) وقَالَ: (والمرادُ بالنّفرِ هنا الخروجُ لطلبِ العلمِ وإِنَّما سُمِّيَ ذَلِكَ نفرًا لما فيه من مجاهدةِ أعداءِ الدّين ، قال القاضي أبو عاصم: وفي هذا دليل على اختصاصِ الغُربة بالتّفقّه وأنَّ الإنسان يتفقَهُ في الغربة ما لا يمكنه ذلك في الوطن ) مجمع البيان ج5 ص ١27 .

4- إذًا مصادرُ التّعلُّمِ والتّفقّهِ في الدّين المتاحةُ اليوم هي : الجامعاتُ الدّينيةُ، والحوزات العلمية في النّجف الأشرف وقم المقدسة وغيرهما من البلدان والذين يشدّون الرّحال إليها للتّعلُّم والتَّفقُّه يسمونهم: ( طلاب العلوم الدّينية ).

5- تحتوي الجامعاتُ الدّينيةُ والحوزاتُ العلميةُ على الآلاف من العلماء المجتهدين والكتَّاب والمحققين الذين أنتجوا كَمًا هائلاً من المعارف الدِّينية في حقولٍ وعناوينَ متعددة ورصدُوا ووثقُوا تلك المعارف في عَدَدٍ كبير جدًا من الكتب والدّروسِ والمحاضرات والتّسجيلات الصّوتية والمرئية.

6- مرَّتِ الجامعاتُ الدّينيةُ والمعاهدُ العلمية والحوزات الدِّينية بِسِلْسِلَةٍ من التّطورات في الشّكل والتّرتيب والمناهج والمباني والمخرجات وشروط الالتحاق، وأصبح بعضها اليوم مشابهًا للجامعات العالمية وتعطي الدّرجات الثّلاث : البكالوريوس والماجستير والدكتوراة بل وما فوق الدكتوراة.

7- هذه الحوزات الدّينية هي اليوم المصدرُ الأوّل للراغبين في الدّراسة التخصصية وبعضها يُقدِّم دورات ثقافية وعلمية ودراسية للرّاغبين في ذلك بدونِ الحضورِ وتجشُّمِ عناءِ السّفرِ وهي ما يسمّى اليوم بالدّراسة أون لاين.

8- المخرجات التّعليمية لهذه الحوزات هي طبقة طلاب العلوم الدّينية الذين يطلق عليهم الناس لقب الشيخ بالعِمَامَةِ البيضاء أو السّيّد بالعمامة السّوداء.

وتختلف درجاتُهم العلمية ُبحسب الزّمن الذين قضوه في الدّراسة بالحوزة، وبحسب المستوى الدّراسي الذي وصلوا إليه، وهؤلاء هم الفريقُ الأوّل الذي تكفّلَ بمُهِمّةِ التّعلُّمِ والتّفقّهِ لِيَنْقُلَ هذا العلمَ للنّاس عبرَ المساجد والمنابر وسائِر وسائل التّواصل مع المجتمع وأفراده ومهمتهم ليست سهلة كما يتصوّر البعض خصوصًا عند ملاحظةِ اختلافِ النّاس في أفهامهم و عقولهم وأذواقهم وأمزجتهم وأخلاقهم ومستوى تقبلهم ومستوى اتّباعهم للعلماء وهذه مهمة صعبةٌ وهي تشبه في بعض مستوياتها مهمة الأنبياء في تبليغ الرسالات، وهكذا لا غرابة حين عبَّرتِ الآيةُ الكريمةُ عن مهمّة التبليغ بلفظ (الإنذار ) ثم جعلتِ الغاية هي (التحذير ) ( وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .

وهكذا نكون قد عرفنا جواب السؤالِ الأوّلِ بِشِقِّيه

1-من هم الفريقُ الأوّل في التّفقّه الدّيني ؟       إنهم طلابُ العلومِ الدّينيةِ.
2- وماهي مصادر التّعلّم والتّفقّه لديهم ؟        إنَّها الحوزات العلمية.

ولكي تتضحَ الصّورةُ أكثر وأكثر نحتاجُ لمعرفة الجواب على ثلاثة أسئلة أخرى : 

السؤال الأوّل: وهل دراسةُ العلوم الدّينية محصورة فقط في الحوزات العلمية ؟
السؤال الثّاني: هل الدّراسةُ الدّينية متاحةٌ فقط لمن يسمونهم طبقة رجال الدّين ؟ 
السؤال الثاّلث: ما هو المستوى المطلوب من النّاس في تعلّم أمور الدّين وتفقه أحكام الشّريعة ؟

هذا مَا سنحاولُ تسليطُ الضوءَ عليه في حديث الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى بلطفِهِ وكرمِهِ وحولِهِ وقوتِهِ.

(... رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )

والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلّى اللهُ على سيدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطّيّبينَ الطَّاهِرينَ