الحسين عليه السلام .. .دروس الحياة
للوهلة الاولى، يظن المرء، ان تضحية السبط الشهيد الامام الحسين بن علي بن ابي طالب بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله في عاشوراء عام 61 للهجرة في كربلاء، هي من اجل الموت، لانها اصطبغت بلون الدم الاحمر الذي يعبر عادة عن القتل، والقتل هو الموت والموت هو نهاية حياة الانسان.
ولكن...
بقليل من التمعن والتفكر والتدبر، سنكتشف بان الحسين عليه السلام للحياة وليس للموت، فهو دروس للحياة وليس تجربة للموت، او لم يقل عز من قائل في محكم كتابه الكريم ﴿يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه وانه اليه تحشرون﴾ والحسين السبط هو نفس رسول الله ، كما ورد في حديثه ﴿حسين مني وانا من حسين﴾ اي ان دعوة السبط وثورته ونهضته وحركته وتضحيته كانت للحياة وليس للموت، كيف؟.
- السبط..كرامة الامة
ان امرءا بلا كرامة، لهو ميت الاحياء، وان امة بلا كرامة، لهي امة ميتة.
والسؤال هو؛
ما هي مصاديق الكرامة؟.
برايي، فان الكرامة تتجلى بثلاث قيم:
القيمة الاولى، هي الحرية.
القيمة الثانية، هي المساواة.
اما القيمة الثالثة، فهي الاختيار.
فالانسان الذي لا يمتلك حريته، ويعيش في ظل التمييز باي شكل من اشكاله، لهو انسان بلا كرامة، وان الانسان الذي لا يمتلك حرية الاختيار، لهو انسان بلا كرامة.
ولقد مرت الامة (الاسلامية) في لحظة تولي الطاغية يزيد بن معاوية للسلطة، بمرحلة تاريخية فقدت فيها كرامتها، لانها فقدت حريتها وظلت تعاني من التمييز باشكال مختلفة، الى جانب انها فقدت قدرتها على الاختيار، وهي القيمة التي تميز الانسان عن غيره من الدواب.
فالامة التي يحكمها ظالم مستبد، لهي امة بلا كرامة، والامة التي يحكمها اللصوص (قادة الانقلابات العسكرية) لهي امة بلا كرامة، والامة التي يحكمها زعيم لم يصل الى السلطة برضاها او بتفويض منها (بالبيعة العامة مثلا او عن طريق صندوق الاقتراع) لهي امة بلا كرامة، واذا حكم الامة نظام وراثي، فانها امة بلا كرامة، واذا حكمتها حفنة من اللصوص استولوا على السلطة بانقلاب عسكري في جوف الليل، فهي امة بلا كرامة، لان كرامة الامة تتجلى اولا وقبل كل شئ باختيارها للنظام السياسي، ولذلك فقدت الامة كرامتها عندما حول الامويون الحكم الى ملك عضوض، حمل حاكم فاسق كيزيد الى سدة الحكم بعنوان (امير المؤمنين) وصدق الحسين السبط عندما قال ﴿وعلى الاسلام السلام اذا ولي امر الامة حاكم مثل يزيد﴾.
وصدق قبله ابوه امير المؤمنين على بن ابي طالب عليه السلام، عندما وصف حال الامة اذا حكمها فاسق بقوله ﴿ولكني آسى ان يلي امر هذه الامة سفهائها، وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا﴾.
اما الحسين السبط عليه السلام، فقد بذل كل ما في وسعه من اجل تنبيه الامة الى الخطر العظيم الذي عاشته في ظل سلطة سياسية منحرفة وظالمة.
انه سعى لان ينبه الامة الى كرامتها، من خلال تذكيرها بالقيم الثلاث الانفة الذكر.
ومن اجل ان يصوغ نموذجا لها، فلا يكرر صورة الحاكم الظالم والسلطة المنحرفة، لذلك:
اولا: لم يجبر الحسين عليه السلام احدا على رفض البيعة للسلطة الجديدة، كما انه لم يكره احدا على بيعته، ابدا.
انه عليه السلام سعى الى تبيين الصورة فقط، وتوضيح الحقائق فحسب، من دون ارهاب احد او اكراهه على اتخاذ موقف معين بذاته، فقال عليه السلام ﴿الا ترون الى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فاني لا ارى الموت الا سعادة، والحياة مع الظالمين الا برما﴾.
ثانيا: لقد منح اقرب الناس اليه، وهم اهل بيته الذين رافقوه من المدينة الى مكة المكرمة الى كربلاء، حق الاختيار بكامل حريتهم، فلم يجبرهم، مثلا، على المكوث معه، ولم يغصبهم على اتخاذ موقف لم يقتنعوا به، ناهيك عن بقية (المسلمين) الذي التحقوا به عند خروجه من مكة المكرمة شطر الكوفة، والذين كان يخبرهم بادق تفاصيل الموقف العسكري والامني كلما تناهى الى مسامعه خبر عن مسيره، وكل ذلك من اجل ان يمنحهم فرصة التفكير بحرية تامة قبل اتخاذ الموقف وقبل الاختيار، لانه لم يشا ان يصطحب معه متردد او خائف او طامع او جاهل بامره لا يدري من اين هو والى اين ولماذا؟.
فعندما وصل اليه خبر استشهاد سفيره الى الكوفة مسلم بن عقيل وهو في طريقه الى العراق، في منطقة تسمى بالزبالة، جمع الحسين عليه السلام من كان معه واخبرهم بالامر، فورا، من دون ان يخشى ان مثل هذا الخبر قد يدفعهم لتركه لوحده، لانه كان يريد من يبقى معه ان يكون على بصيرة من امره، فهو لم يكن بحاجة الى الطامعين بدنيا بلا آخرة، او خائف او مهزوز العقيدة.
جمعهم وقال لهم:
﴿بسم الله الرحمن الرحيم، اما بعد، فانه قد اتانا خبر فضيع، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن احب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام﴾.
وفي ليلة العاشر من المحرم، جمع الحسين عليه السلام اصحابه مرة اخرى ليخيرهم بين البقاء معه استعدادا للموت او تركه والذهاب الى حيث يريدون فينقذوا انفسهم من خطر القتل والموت.
قال لهم الحسين :
﴿اثني على الله تبارك وتعالى احسن الثناء واحمده على السراء والضراء، اللهم اني احمدك على ان اكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القران، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا اسماعا وابصارا وافئدة، ولم تجعلنا من المشركين، اما بعد فاني لا اعلم اصحابا اولى ولا خيرا من اصحابي، ولا اهل بيت ابر ولا اوصل من اهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعا خيرا، الا واني اظن يومنا من هؤلاء الاعداء غدا، الا واني قد رايت لكم، فانطلقوا جميعا في حل، ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، ثم لياخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فان القوم انما يطلبونني، ولو قد اصابوني، لهوا عن طلب غيري﴾.
ثالثا: لم يبادر الحسين السبط عليه السلام الى مكاتبة احد من المسلمين في اي مصر من الامصار، وانما اكتفى في بادئ الامر بان يرفض اعطاء البيعة من دون ان يؤلب الشارع على السلطة المنحرفة الجديدة، حتى جاءت المبادرة من المسلمين في الكوفة الذي بادروا الى الكتابة اليه ودعوته ليكون لهم اماما في طريق الحق والصواب.
لم يشا الحسين بن علي عليهما السلام ان يغصب احدا على اتخاذ موقف ضد او مع السلطة او المعارضة قبل ان يلقي عليه الحجة، ولذلك اكتفى بتبيين الحقائق وتوضيح العلل التي من اجلها يرفض البيعة لطاغية منحرف كيزيد بن معاوية.
ففي المدينة قال الحسين ﴿انا اهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق، فاجر شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله﴾.
وكان قد حدد معالم نهضته لتكون اهدافه واضحة وغير خافية على احد، فكتب في وصيته الى اخيه محمد بن الحنفية، يقول؛
﴿اني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي، اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق، ومن رد علي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين﴾.
وقبيل وصوله الى كربلاء، خطب الجيش الذي كان مع الحر بن يزيد الرياحي، موضحا له سر حركته ورفضه اعطاء البيعة لطاغية، فقال:
﴿ايها الناس، ان رسول الله قال: من راى سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله، الا وان هؤلاء، ويقصد السلطة الظالمة الجديدة، قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستاثروا بالفئ واحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وانا احق من غير﴾.
ومن اجل طمانة الناس، والحيلولة دون التشكيك في صدقية ما يقول، كخوفهم من ان يتحولوا الى حطب حرب يستفيد منها الامام بعد زجهم فيها ثم يذهب الى السلطة ليفاوضها، كما يفعل الكثير من الزعماء والقادة، ممن لا دين لهم ولا ضمير، قال لهم الحسين :
﴿نفسي مع انفسكم، واهلي مع اهليكم، فلكم في اسوة﴾.
رابعا: كذلك، فان الحسين الشهيد عليه السلام، لم يمارس الترهيب والترغيب عندما عرض بضاعته على الناس، فهو لم يمارس الارهاب الديني لتخويف (المسلمين) من مغبة عدم بيعته، كما انه لم يقتل او يغتال احدا لانه اعطى البيعة للسلطة الجديدة.
فقد خطب مرة بالقوم قائلا:
﴿الا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يابى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وانوف حمية، ونفوس ابية، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، الا واني قد اعذرت وانذرت﴾.
ففي وعي الامام، ان اعطاء البيعة مكرها تحت حد السيف لسلطة جائرة ظالمة، يناقض مبدا الكرامة، بل انه الذل بعينه، لذلك آثر الموت بعز على الحياة بذل.
خامسا: وعندما تحول الحسين عليه السلام الى باب من ابواب الجنة في عاشوراء عام 61 للهجرة في صحراء كربلاء، لم يميز بين اهل بيته واصحابه، اذ كان الجميع عنده سواسية يتعامل معهم بمساواة قل نظيرها، بل انه لم يشا ان يرفض التحاق الد (اعدائه) بركب الشهادة واقصد به الحر بن يزيد الرياحي الذي قرر ان يختار القتل بعز وشرف وكرامة، على الحياة بذل ومهانة، فلم يمنعه الامام من اللحاق به، بل احترم قراره الجديد، ومنحه فرصة الخلود الابدي في الدنيا والاخرة، من دون ان يفكر بالانتقام منه، كونه احد اعمدة الحاكم الظالم، ممن اضروا بالحسين كثيرا، فالعبرة بالنتائج كما تقول الحكمة، والاعمال بخواتيمها.
لقد اراد الحسين السبط عليه السلام، من كل ذلك وغيره، ان يعلم الامة معنى الكرامة، وكيف يمكن تحقيقها في هذه الحياة الدنيا، بل اراد ان يعلمها بان امة بلا كرامة هي امة ميتة، وان البيعة بالاكراه لحاكم ظالم دليل صارخ على ان الامة بلا كرامة، وان امة لا تمتلك حق الاختيار، لهي امة ميتة.
لكل ذلك فان الحسين عليه السلام هو عنوان كرامة الامة.
علينا ان نتعلم من الحسين كيف نصون حريتنا وكيف نحافظ على خياراتنا، فلا نعطي البيعة لكل من هب ودب.
سادسا: كان السبط يلزم كل ذي عهد بعهده، فلم يحمله اكثر من طاقته، وذلك على قاعدة (الزموهم بما الزموا به انفسهم) من اجل ان لا يظلم احدا بتحميله ما لا يطيق، ومن اجل ان تكون حجته قوية عليهم، انه عليه السلام لم يشا ان يلزم الانسان الا بما اختار بارادته، فلقد اوصى امير المؤمنين عليه السلام مالكا الاشتر عندما ولاه مصر بهذه القاعدة، بقوله ﴿والزم كلا منهم ما الزم نفسه﴾ وهي القاعدة الذهبية في علم الاجتماع اذا كان النظام السياسي ديمقراطيا، يحترم الانسان ويصون حقوقه ويحافظ على كرامته، واذا كان القانون فوق الجميع.
انه اسمعهم وذكرهم بعهودهم اكثر من مرة، كان آخرها صبيحة يوم العاشر من المحرم، اذ وقف فيهم خطيبا، فقال:
﴿ايها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى اعظكم بما الحق لكم علي، وحتى اعتذر اليكم من مقدمي عليكم، فان قبلتم عذري وصدقتم قولي واعطيتموني النصف كنتم بذلك اسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وان لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من انفسكم، فاجمعوا امركم وشركاءكم، ثم لا يكن عليكم امركم غمة، ثم اقضوا الي ولا تنظرون، ان وليي الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين﴾.
ثم اضاف مخاطبا (علية) القوم:
﴿يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن ابجر، ويا قيس بن الاشعث، ويا يزيد بن الحارث، الم تكتبوا الي ان قد اينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وانما تقدم على جند لك مجندة، فاقبل؟﴾.
- البيعة..عهد ومسؤولية
حاول يزيد بن معاوية، لحظة توليه السلطة بعد هلاك ابيه معاوية بن ابي سفيان، ان ياخذ البيعة من الحسين بن علي عليهما السلام، غصبا وبالقوة، لانه كان يعرف وزنه في المجتمع المسلم آنئذ، وكان يعرف ماذا يعني ان يتخلف السبط عن بيعته، اذ سيدفع جمهور المسلمين للاقتداء به والتزام موقفه فيمتنع عن البيعة، ما يؤلب الناس على السلطة الجديدة، وهو الامر الذي لم يكن مرغوبا عندها لانها حديثة عهد لا تتحمل اية مشكلة من هذا النوع، خاصة وانها اول سلطة غير شرعية في الدولة الاسلامية، اعتمدت الوراثة التي حرمها الله تعالى ورفضها الرسول الكريم ولم يستسيغها المسلمون، الى جانب ان المورث واحد من اسوء (الحكام) سواء على الصعيد الديني او الاخلاقي او حتى السياسي.
لذلك، صدرت اوامر الطاغية الجديد يزيد الى عامله في المدينة المنورة (الوليد بن عتبة) مشددة باخذ البيعة من الحسين السبط، ليس فيها اي تهاون او ليونة، او حتى رخصة.
ولان الامام عليه السلام كان يريد ان يعلمنا كيف نحيا، لذلك رفض البيعة، لانها في وعي الامام ليست لقلقة لسان او كلمات ينطقها المرء اليوم ويتملص منها غدا، ابدا، بل ان البيعة عهد ومسؤولية، عهد يقطعه المرء مع من يبايعه بالالتزام بخطه ونهجه، والسير على هدى مبادئه وتحت قيادته، ومسؤولية يعلقها المعاهد في رقبته يلزم تحملها والالتزام بها، وعدم الانقلاب عليها، بكل الظروف، او خيانة من يعاهده ويبايعه، الا ان يغير، فعندها ﴿لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق﴾.
ولان البيعة كذلك في قاموس الامام، لذلك رفض البيعة سرا، في محاولة من الامام لايصال هذه الرسالة الى المسلمين ممن يريدون ان يحيون حياة طيبة، فاراد ان يقف امام الجميع ليقول لهم ماذا تعني البيعة؟ ولماذا يرفض اعطائها لحاكم مثل يزيد، ليبلغ بذلك رسالته ويلقي حجته، لئلا تكون عند المسلمين من حجة الجهل او عدم المعرفة والوعي بحقيقة امر البيعة، عندما يختارون غدا البيعة ليزيد او رفضها.
لقد حاول السبط ان يعلم الناس معنى الحياة الكريمة المقترنة بالبيعة الكريمة، والتي لا تتحقق الا بعهد صحيح لحاكم سوي مستقيم.
اما الاموات من الاحياء، فهم الذين يسارعون الى اعطاء البيعة لكل من هب ودب من الحكام والسلاطين، فالمهم عندهم ان يحكمهم حاكم، برا كان ام فاجرا، لانهم يظنون ان البيعة ستنقذ رقابهم من مقصلة الظالم، او انها ستسقط المسؤولية عن انفسهم، او ان البيعة، مجرد البيعة للحاكم، ستؤمن لهم الحياة الكريمة، ناسين او متناسين ان مثل هذه البيعة هي بداية الموت وليس الحياة ابدا، ولقد قرانا وراينا مصير الناس الذين بادروا الى بيعة (ظالم) بحجة التهرب من المسؤولية على قاعدة (بايع لتكفي نفسك شر الحاكم) فلقد تحولت مثل هذه البيعة الى كابوس يلاحقهم فلم يهنأوا بعيش ولم يكفوا انفسهم شر الحاكم الظالم، فكانت نهايتهم القتل بسيف الحاكم الذي بايعوه.
لقد اجاب الامام السبط الحسين بن علي عليهما السلام والي يزيد على المدينة بقوله عليه السلام ﴿مثلي لا يبايع سرا، ولا يجتزئ بها مني سرا، فاذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة، ودعوتنا معهم كان الامر واحدا﴾.
ولما هددته السلطة بالقتل ان لم يبايع، كان لابد للامام ان يضع النقاط على الحروف ليوضح الموقف بالكامل، فقال عليه السلام ﴿ايها الامير، انا اهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد فاسق، فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله﴾.
بذلك، يكون الامام الحسين عليه السلام قد حدد معالم البيعة الصحيحة، والمقاس العلمي والديني والسياسي الصحيح للحاكم الذي يستحق ان يمنح البيعة، طبعا هذا لمن اراد ان يحيا حياة طيبة، اما من يريد ان يحيا حياة الاموات، بلا حرية وبلا كرامة وبلا حقوق، فيعطي بيعته لمن يشاء، وان كان يزيدا واشباهه.
- الحياة..ان لا تتهرب من المسؤولية
عندما عزم الحسين السبط عليه السلام، الخروج الى العراق، والى الكوفة تحديدا، حاول اكثر من واحد ثنيه عن قراره، فحاولوا ان يقنعوه بـ (الهرب) من المواجهة، فلا يصطدم بالانحراف، كأن يذهب الى اليمن، مثلا، او ان يهيم بوجهه في الصحراء فيضيع نفسه على السلطة الحاكمة.
ولو كان الحسين يبحث عن الموت، لاقتنع بمثل هذه النصائح، فلقد كانت الارض مفتوحة امامه، وخيارات الهرب كثيرة جدا، يتمناها اكثر من مصر، ولكن، لانه كان يطلب الحياة للامة، فلذلك كان لابد له ان يختار المواجهة ليعلمها كيف تحيا كريمة، وكيف تختار الحياة عندما تفرض عليها المواجهة فرضا.
لقد علمنا الحسين السبط، ان مواجهة الظلم وتحدي الانحراف هو اقصر الطرق لنيل الحياة الحرة الكريمة، وان الهروب من المواجهة موت بطئ لا يختاره الشرفاء.
فالذين نصحوه بالهرب من المواجهة، كانت حجتهم ان من كتب له ودعاه لينصره، ليسوا اهل عهد او ذمة، اذ كان آباءهم واجدادهم قد نكثوا بيعات مماثلة مع جده الرسول الكريم وابيه امير المؤمنين .
الا ان الحسين السبط لم يحسب الامور بهذه الطريقة، فلو ان كل موقف يحاسب على ما سبقه، لما تحمل احد مسؤولية، ولو ان كل امرئ يؤاخذ بجريرة ابيه او جده، لما بادر احد الى شئ، ولهذا المعنى اشار القران الكريم بقول الله عز وجل ﴿ولا تزروا وازرة وزر اخرى﴾.
في منهجية الحسين ان المسؤولية تقع على عاتق الانسان حالما تشخص امام عينيه وتتهيا لها الاسباب، وسيأثم قلبه اذا لم يبادر اليها ويتحملها اذا تردد او هرب، ولذلك قال امير المؤمنين علي بن ابي طالب ﴿اما والذي فلق الحبة، وبرا النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء الا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لالقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكاس اولها، ولالفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز﴾.
- الماضي..دروس الحاضر
والان، ما الذي نستفيده من كربلاء، ونحن على اعتاب انتخابات مجالس المحافظات في العراق؟.
اولا: ان لا نضطر للتصويت لاحد، اذا لم نكن مقتنعين به، وببرنامجه الانتخابي وبسيرته الذاتية، وبرصيده الذاتي.
ثانيا: الصوت مسؤولية، فهو يساهم في بناء البلد، اذا منحناه لمن يستحق، او يساهم في تدمير البلد اذا لم نحسن التصرف به، ولذلك يجب ان نتعامل مع صوتنا كمسؤولية، وليس كبضاعة نبيعها لمن يعطي اكثر.
ثالثا: ولان الصوت مسؤولية، لذلك يجب ان نشارك في الانتخابات القادمة، فلا نصغ للمرجفين في المدينة ممن يثبط الناس عن المشاركة، فالصوت واجب ومسؤولية لا يجوز لاحد ان يفرط بها ابدا.
ان البعض يسعى لتوظيف الفشل والتقاعس، الذي سبب التاخر في تحسين الوضع المعيشي للناس، لثني الناخب عن المشاركة في الانتخابات القادمة، وكأن المقاطعة هي الحل.
انها ليست حلا ابدا، فعدم المشاركة ليست حلا، والخطا لا يصحح بخطا اعظم وافدح منه، والفشل لا يرمم بالتقاعس، والنجاح لا ياتي بالمقاطعة، وانما الحل في ان نشارك وندلي باصواتنا لمن نعتقد بانه افضل من الموجود الحالي، لنساهم في التغيير نحو الافضل، اما عن طريق التدقيق والبحث الذاتي اذا كان الناخب قادرا على القيام بمثل ذلك، او السؤال من اهل الخبرة والمعرفة لتشخيص الافضل والاحسن من المرشحين وقوائمهم.
رابعا: حذار من الهروب من المسؤولية، فان ذلك يمنح الفرصة الذهبية من جديد للصوص والقتلة وايتام النظام البائد للعودة الى الحياة السياسية.
ان الانتخابات ساحة مواجهة بوسائل الديمقراطية، فالصوت رصاصة، وصندوق الاقتراع مشجب، ولذلك يجب ان لا نترك ساحة المواجهة ابدا، لاننا اذا هربنا من المواجهة في ساحة الديمقراطية، فسنضطر لدفع ثمنها في ساحات الديكتاتورية والانظمة الشمولية والحروب العبثية والمقابر الجماعية.
خامسا: اذا التزم المرء بعهد عليه ان يفي به، مرشحا كان قد فاز بالانتخابات، او ناخبا شارك فيها.
اما المرشح، فعليه ان يلتزم ببرنامجه الذي اعلن عنه ايام الانتخابات، والذي فاز بموقع المسؤولية على اساسه.
اما الناخب، فعليه ان يظل يطالب المرشح الفائز بالتزاماته، من خلال الرقابة والمحاسبة والمساءلة المستمرة.
سادسا: على كل واحد منا ان يتحمل مسؤوليته الشرعية والوطنية والتاريخية، حال شخوصها امامه، ثم لا عليه ان تحملها الاخرون او تقاعسوا، او ان تصدى لها اقرانه او ترددوا، فالله تعالى يحاسبنا كلا على انفراد، فلا ياخذنا بجريرة غيرنا.
نعم، فان من مسؤولية الانسان ان يذكر الاخرين بمسؤولياتهم، ويحثهم على العمل الصالح ويرغبهم بالتصدي لمهامهم، خاصة الاجتماعية، ولكن هذا لا يعني ان يربط تحمله للمسؤولية بتحمل الاخرين لها، فان بادروا بادر، وان تقاعسوا تقاعس، ابدا.
سابعا: ان القضايا الكبيرة بحاجة الى همم كبار، فـ ﴿المرء يطير بهمته، كما يطير الطائر بجناحيه﴾.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان الاهداف النظيفة الطاهرة، بحاجة الى وسائل نظيفة وطاهرة، فمثلا، لا يكفي ان تشرب الماء الطاهر، بل يجب عليه ان تشربه باناء طاهر كذلك، والصلاة كذلك، لا يكفي ان تنوي اقامتها، بل يجب عليك ان تؤديها في لباس طاهر، وهكذا.
ولاننا في العراق نتحمل مسؤولية اهداف نظيفة وطاهرة، ولذلك يجب ان تكون وسائلنا لتحقيق هذه الاهداف نظيفة وطاهرة كذلك.
فمثلا، ان من يرشح نفسه في الانتخابات للفوز بموقع المسؤولية، وهو هدف انساني ووطني مقدس ونظيف، عليه ان يحققه بوسائل نظيفة، فلا يستخدم الغش والتزوير وشراء الاصوات وتسقيط الاخر (المنافس) والكذب وربما الاغتيال والقتل، فان كل ذلك وسائل غير نظيفة وغير شريفة، لا يتقرب منها من يتحمل مسؤولية وطنية نظيفة وطاهرة.
لقد رفض الحسين السبط عليه السلام ان يكذب على الناس او يزور الحقائق او يخفي عليهم الحقيقة، للحفاظ على معنوياتهم مثلا او ليمكثوا معه ولا ينقلبوا عليه، كما يفعل الكثير من القادة (المزيفين) كما انه رفض ان يشتري ضمائر الناس واصواتهم ومواقفهم، بل قال بصريح العبارة ﴿فمن قبلني بقبول الحق، فالله اولى بالحق﴾ بمعنى آخر، انه لم يكن يدعو الناس لنفسه وانما للحق، وما هو الا الوسيلة التي يتحقق بها الحق.
ثامنا: واخيرا، فان كربلاء تعلمنا كيف نعيش بكرامة، من خلال القتال من اجل الحرية والمساوة والحفاظ بحقنا في الاختيار من دون ان يغصبنا احد على شئ لا نريده.
يجب ان نودع عهد الفرض والاكراه من غير رجعة، لنقبض على خياراتنا بكامل الحرية.