عينان ولسان
اذا اردنا ان لا يتكرر نموذج الطاغية الذليل صدام حسين في العراق الجديد، واذا اردنا ان نحول دون صناعة عدي آخر وحزب قائد واوحد مرة اخرى، علينا ان نفعل مبدا المراقبة والمحاسبة بكل الاشكال والصور، من خلال السلطة الاولى، واقصد بها سلطة الاعلام.
لا تقل لي ان الطاغية سقط في مزبلة التاريخ ولم يعد ابدا، لان في داخل كل انسان طاغوت يمكن ان ينمو ويكبر اذا لم يجد من يراقب سلوكه ويحاسبه على كل صغيرة وكبيرة، الم يقل رسول الله في الحديث الشريف المعروف ﴿كل امرء يضمر ما اظهره فرعون﴾ ما يعني ان في داخل كل واحد منا بذور وعوامل واسباب يمكن ان تحول صاحبها الى فرعون اذا ما سقيت هذه البذور بماء الانانية والوصولية والاستحواذ واللؤم والسطوة غير المشروعة في ظل اجواء اجتماعية موبوءة بالجهل واللاابالية وعدم الاكتراث وفي ظل غياب الرقابة والمحاسبة، فالطاغوت ظاهرة وليس شخصا.
ان التاريخ يمكن ان يعيد نفسه لمن لم يعتبر بنتائجه وللذين لا يقرأونه بشكل جيد، فكم من طاغوت حكم العراق؟ وكم من سلطان متجبر نزا على السلطة في بلاد الرافدين بالضد من ارادة العراقيين؟ فاذا كان الحاكم المستبد يذهب في كل مرة الى مزبلة التاريخ، فلماذا تتكرر نسخه؟ ولماذا لا يتعافى العراق الحبيب من ظاهرة الحكام المستبدين على طول تاريخه؟ الا يعني ذلك بان العراقيين لا يقرأون تاريخهم بالصورة الصحيحة؟ او انهم يعذرون الحاكم الجديد في كل مرة يخلف فيها طاغوت، ليستغل غفلتهم فينمو طاغيا صغيرا لينتهي به وبهم المطاف الى طاغوت كبير كالمقبور صدام حسين ومن لف لفه؟ أو انهم يغفون بعد كل عملية تغيير، معتمدين على ثقتهم بالقادم الجديد، او في مسعى منهم لمنحه الفرصة قبل ان يكتشفوا نواياه الحقيقية، او اقتناعا منهم بالشعارات البراقة والوعود الخلابة التي يطلقها في خطاباته الجماهيرية وبياناته الحماسية، ليستيقضوا بعد برهة من الزمن على برك الدم التي تتحول بمرور الايام الى انهار من الدماء.
ثم، لا تقل لي ان من خلف النظام البائد في بغداد، لا يمكن ان يكرر نماذج الطاغوت ومن المستبعد ان يتحول احدهم الى صدام او عدي او علي كيمياوي او اي طاغوت آخر، يكبره قليلا او اصغر منه قليلا، او ان من يحكم اليوم في بغداد، فيهم من يصلي الليل قائما وقاعدا، وفيهم من يتهجد القران ليل نهار، وان فيهم من قضى عمره يقارع الطاغوت، لا تقل لي كل هذا ابدا، لانك اذا اقتنعت بهذا الكلام فستتركه وشانه ليفاجئك في يوم من الايام، واذا به قد تحول الى طاغوت قاتل دموي.
اقرأوا التاريخ لتتعرفوا على الكثير من النماذج التي كانت قاب قوسين او ادنى من السماء، او هكذا يخيل لمن لا يعرفه او يراه، واذا هم يتحولون الى طغاة من الدرجة الاولى بين ليلة وضحاها، ام اننا نسينا قصة بلعم بن باعوراء في القرآن الكريم الذي اعطاه الله الاسم الاعظم، ليهوي، بعد ذلك، في شرك الشيطان، شاهرا سيفه ضد نبي الله موسى عليه السلام، لنقرأ قول الله عز وجل في محكم آياته البينات، ثم نتدبر ﴿واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين* ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى الارض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث او تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون﴾.
تعالوا اذن نتفكر بالماضي لنستقي منه الدروس والتجارب والعبر، ونتذكر بان الله تعالى الذي خلق لنا عينين ولسانا، دعانا الى ان نفتح عيوننا جيدا فنراقب من نفوضه امور دنيانا مراقبة صارمة لنحاسبه حسابا عسيرا، ولنتذكر ابدا بان من ننتخبه ليعتلي موقعا ما في الشان العام، انما هو موظف عندنا واجير وليس بديلا او ولي نعمة او صنما يعبد من دون الله تعالى.
يجب ان لا نستثني احدا من المتصدين للشان العام من مبدا المراقبة والمحاسبة والمساءلة ابدا، كائنا من كان، وان لا نقبل منه عذرا ابدا، فاما ان يكون اهلا للثقة التي منحها له الشعب عبر صندوق الاقتراع او لا يكون، فان لم يكن كذلك فيجب ان يفتضح ليسقط عاجلا وليس آجلا، فالوقت يمر سريعا والظروف صعبة لا تتحمل ان يجرب (الزعماء) الحجامة برأس اليتامى، كما يقول المثل العراقي المعروف.
ليس لأحد قدسية ابدا، نعم نحن نحترم الجميع ما لم تثبت عليهم ادانة، اما ان نقدسه لتاريخه او زيه او موقعه الاجتماعي او لعائلته، فقط وفقط، فهذا ما لا يرضاه الله تعالى وصالح المؤمنين، فان ذلك يعد خيانة لله والوطن ولدماء الشهداء الذين ضحوا من اجل حياة افضل لاهلهم وشعبهم، لهذا الجيل وللاجيال القادمة، فالحاضر امانة في اعناقنا، يجب ان نعمل احسن ما في وسعنا لنسلمه الى الجيل القادم على افضل وجه بعد ان نكون قد رحلنا عن هذه الحياة الدنيا الى حيث ثواب الله تعالى او عقابه.
والان، كيف نفعل قانون المراقبة والمحاسبة؟.
اعتقد ان الطريق الى ذلك هو تاصيل مبدا حرية التعبير عن الرأي، الذي اداته حرية الاعلام والصحافة، ولذلك فانا شخصيا اعتقد بان الاعلام هو السلطة الاولى في عالم اليوم، وليس الرابعة كما يستصحب كثيرون المصطلح معهم من الماضي، عندما بدا الانسان يتعرف على وسائل الاعلام الجماعية كالجريدة والمذياع وتاليا التلفاز، اما اليوم فان الاعلام هو السلطة الاولى، وان معركتنا في جوهرها هي اعلامية، فكيف يمكن ان نتصور انتصارا من دون الاعلام الحر؟ وكيف يمكن ان نحقق انجازا في ظل سياسة تكميم الافواه، تارة بالتصفيات الجسدية واخرى بسياسة قطع الارزاق، وثالثة بشراء الذمم والضمائر؟.
لقد بدأنا، وللاسف الشديد، نسمع عن تزايد سطوة الاحزاب الحاكمة على اداء الاعلاميين العراقيين، فبعد ان كان صاحب القلم والبيان يتهدده الارهاب في رسالته، بات مهدد من قبل الاحزاب الحاكمة، والمتنفذين من عناصرها ممن هم في السلطة في بغداد او في المجالس البلدية او حتى من اصغر متنفذ تابع الى هذا الحزب الحاكم او ذاك، وان كل ذلك ليس دليل عافية في العراق الجديد ابدا.
يجب ان يظل صاحب القلم والبيان حرا يكتب ويقول ما يمليه عليه ضميره، ووحده القضاء الذي يجب ان يكون بينه وبين السلطان، اما النفوذ السياسي والحزبي والميليشيات والرصاصة، فيجب ان لا يكون لها مكان في الوسط الاعلامي ابدا.
والسؤال هو، كيف نخلق الاعلام الحر؟ وماذا ننتظر منه؟.
اولا: برايي، فان الاعلام الحر، هو وحده القادر على صناعة راي عام ضاغط لصالح العملية السياسية الجديدة، وهو وحده القادر على تحقيق مبدا المراقبة وتاليا المحاسبة والمساءلة، لان الاعلام السلطوي والحزبي والعائلي وحتى الطائفي والمؤدلج لا يمكنه تحقيق ذلك لانه، وللاسف، اصبح جزء من المشكلة، كما انه اقرب الى الدعاية منه الى الاعلام، بالاضافة الى انه (اعلام) موجه لا يمكنه ان يخرج عن قواعد اللعبة المتمثلة في قرار الحكومة او الحزب او العائلة او الطائفة او ما الى ذلك.
اما الاعلام الحر، الذي ليس له مصلحة خاصة الا مصلحة العراق والعراقيين، فهو الاحرص على ملاحقة السلطة، ومتابعة المسؤولين لمراقبتهم وتاليا محاسبتهم ومساءلتهم.
من هنا تنبع اهمية التركيز على بناء الاعلام الحر وتشجيع الاعلاميين غير المنتمين، لنضمن تحقيق اقصى درجات المراقبة.
ثانيا: ومن اجل ان تكون المساءلة والمحاسبة عملية مسؤولة، لا يطلقها الاعلام على عواهنها، ولا يمارسها الاعلاميون كهواية او حبا بالدعاية لانفسهم او لوسائل الاعلام التي يعملون بها او من اجل السبق الصحفي فقط، ينبغي ان تكون المراقبة التي يمارسها هذا الاعلام دقيقة في حيثياتها وادواتها وموادها ومصادرها، من خلال اعتماد الخبرة والمعرفة بالقانون المتعلق بسلطة الاعلام، بالاضافة الى اعتماد التوثيق كمبدا لاثبات ما يكتبه الاعلام، ولذلك يلزم هذا الاعلام ان يتذكر دائما بانه يمتلك عينين ليوظفهما في خدمة المراقبة الدقيقة، لينتج محاسبة ومراقبة مسؤولة، ولذلك فهو لا يمتلك الا لسان واحد، حتى لا يتسرع في اطلاق التهمة ضد هذا المسؤول او ذاك، لمحاسبته ومساءلته قبل ان يتاكد من توفر كل الادلة والبراهين والاثباتات التي ستدعم موقفه امام القضاء اذا ما اقتضت الضرورة الى ذلك.
وبذلك نكون قد انجزنا مبدا المساءلة بكل مسؤولية من دون تهريج او تشهير، من خلال اعتماد المهنية بشكل كامل، وعدم الركون الى الاشاعات والقيل والقال، والذي يوقع الاعلاميين،خاصة المبتدئين، وفي احيان كثيرة، في فخ القانون ومصيدة القضاء.
ثالثا: على الاعلام ان يلاحق كل من يتصدى للشان العام، كبيرا كان موقعه ام صغيرا، مهما كان ام تافها، فيلاحق الفساد المالي والاداري، ويلاحق حركة المال العام والتعيينات وقرارات المشاريع والاستثمارات، كما عليه ان يلاحق قرارات المسؤولين ليتاكد ما اذا كانت في طريقها الى التنفيذ ام انها مجرد حبر على ورق او انها للاستهلاك المحلي او للدعاية الانتخابية والحزبية والعائلية.
وبمناسبة الحديث عن ملاحقة قرارات الدولة ومفاصلها واجهزتها، كم اتمنى ان ينبري الاعلام الحر في العراق لملاحقة عمل اللجان التي شكلتها الحكومات التي تعاقبت على السلطة في بغداد منذ سقوط الصنم ولحد الان، والتي تم تشكيلها في اكثر من مناسبة ولاكثر من سبب، وهي بالمناسبة تعد بالمئات، ليطلع الراي العام العراقي على ما انجزته هذه اللجان، وان كنت على يقين من ان الاعلام سيكتشف بانها لم تكن سوى انحناءات سلطوية امام العواصف التي مرت بها خلال السنوات الاربعة الماضية.
رابعا: ولان الاعلاميين الاحرار في العراق لا يمكنهم في بعض الاحيان الكشف عن نتائج مراقبتهم للسلطة، اما بسبب تهديد الارهابيين او الاحزاب الحاكمة او لاي سبب كان، فلذلك اقترح ان يتم تفعيل العلاقة التكاملية بين الاعلاميين العراقيين في الداخل والخارج، فان ما لا يقدر على انجازه اعلاميو الداخل، يمكن ان ينجزه اعلاميو الخارج، وان هذه العلاقة بحاجة الى خطة تحقق التواصل بينهما وتبادل المعلومات والتقارير، بما يصب في مصلحة البلد وشعبه الابي، بعيدا عن التهم غير الموثقة والافتراءات الرخيصة، اذ لا بد من الحذر الشديد حتى لا يقع اعلامنا ضحية الغش والتزوير والتضليل كما هو حال جل الاعلام العربي المملوك للسلطات الحاكمة.
وبهذه المناسبة، اود ان اقترح فكرة ربما تساعدنا على التاسيس للرقابة، وان كانت عن بعد.
الفكرة هي، تزويد الاعلاميين والكتاب الذين في خارج العراق بتفاصيل يعتقد من هو في الداخل ان من الواجب الكشف عنها، ليتم نشرها من الخارج، بعد ان يتعهد من هو في الخارج ان لا يبوح باسرار مصادره مهما كان الثمن ليامن من هو في الداخل ويثق بهم، وبذلك نكون قد حققنا المراد، من دون ان يتعرض من هو في الداخل للتهديد والابتزاز، وان كنت اتمنى ان يتحلى من هو في الداخل بجرأة اكبر وشجاعة اكثر ليمارسوا دورهم بشكل افضل وعلى احسن وجه، كأن يكون ذلك من خلال تاسيس جمعيات مهنية يتعاهد فيها عدد من الاعلاميين في كل محافظة او اكثر لاداء دور الرقيب والوقوف بوجه المسؤول الذي يحاول تكميم الافواه.
هنا، لا يسعني الا ان احيي تضحيات الاعلاميين العراقيين خاصة من هو داخل العراق، وشجاعتهم الفائقة، وحرصهم المهني المبدع والمسؤول، الذي عرضهم، ولا يزال، لرصاصات الظلاميين من لصوص المال العام والمسؤولين الذين يخشون الكلمة اكثر من خشيتهم من السيارة المفخخة والحزام الناسف.
خامسا: ان ما يؤسف له حقا، هو ان يتحول الاعلاميون، وهم عين الناس الساهرة على مصالحهم، الى ابواق للحاكم، ايا كان، فكما يعرف الجميع فان الديمقراطية من دون حرية التعبير والمراقبة، انما هي كذبة كبرى.
علينا ان لا نصدق الديمقراطية التي تحدد مهمتي كاعلامي او صحفي، كما ان علينا ان نكذب الحاكم الذي يعدنا بالديمقراطية في الصباح ليغتال اقلامنا ويكمم افواهنا في المساء، تارة بحجة الظروف الخاصة، واخرى تحت مسمى المصلحة الوطنية العليا، وثالثة بسبب الاحكام العرفية، ورابعة بشعار ما يسمى بالمصالحة الوطنية، وما الى ذلك، من الممارسات التي تضر بحرية الاعلام والتعبير وتاليا بمبدأ المراقبة والمساءلة والمحاسبة.
ان على الاعلاميين تقع مسؤوليات كبيرة جدا، ولذلك عليهم ان يجتهدوا في قول الحقيقة مهما كانت مرة ومها كان الثمن، والا فالانعزال افضل لهم واشرف من المجاملة على حساب حق الناس والمحاباة على حساب مصلحة الوطن، ومن اجل ان يحقق الاعلاميون ذلك، يجب ان يتخذوا قرارا قطعيا لا رجعة فيه، يقضي بان لا يكونوا جزءا من السلطة ابدا، وعليهم ان يطلقوها ثلاثا طلاقا بائنا لا رجعة فيه، ليمتلكوا قرارهم دائما فلا يباعوا ويشتروا، ولا يطمعوا فيتنازلوا، ليمارسوا دور الرقيب الحازم والحاسم، الذي يحتاجه العراق والعراقيون اليوم.
على الاعلاميين ان ينتبهوا فلا يبلعوا طعم السلطة والاحزاب الحاكمة ومافيات المتنفذين من رجال مال واسر وعوائل حاكمة في هذه المدينة او تلك، فالطعم ثمنه، عادة، السكوت والمداراة والمحاباة، وان كل ذلك يسقط عن الاعلامي دوره الحقيقي، وينزع عنه شرف المهنة، فيتركه عاريا لا يقوى على قول الحقيقة ﴿فاكلا منها فبدت لهما سوآتهما﴾.
10 مايس 2007