عدل الإمام
عند الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) الميزان هو العمل وليس اي شئ آخر
عند الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب الميزان هو العمل وليس اي شئ آخر، فالانتماء والعشيرة والقربى والزي، واي شئ آخر من المتغيرات التي لا يمكن، او بالاحرى، لا يجوز، ان يتنافس فيها الناس، ليس لها معنى، في فكر الامام، وحده العمل هو راس المال الحقيقي الذي يعتمد عليه في تمييز الناس وتقريبهم او ابعادهم عنه.
ولقد بدا الامام بنفسه قبل غيره، فحاسبها قبل ان يحاسب الاخرين، وقومها قبل ان يعمل على تقويم الاخرين، وراقبها قبل ان يراقب الاخرين، ولذلك لم تكتب لنا كل كتب التاريخ، وجلها كان مترصدا بالامام، انه تناقض مع نفسه ولو مرة واحدة، ابدا، فكان قوله وعمله واحد لا يختلفان ولا يتناقضان، كما انه لم يامر بحسنة الا بعد ان يكون قد سبق الاخرين اليها، ولم ينههم عن سيئة الا بعد ان يكون قد نهى نفسه عنها، وقد اقسم على ذلك بقوله ﴿ايها الناس، اني، والله، ما احثكم على طاعة الا واسبقكم اليها، وما انهاكم عن معصية الا واتناهى قبلكم عنها﴾ ولذلك كان عليه السلام واضحا ومثالا يحتذى، وهو القائل ﴿من نصب نفسه للنالس اماما فليبدا بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تاديبه بسيرته قبل تاديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها احق بالاجلال من معلم الناس ومؤدبهم﴾ كما انه عليه السلام هو القائل ﴿من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن خاف امن، ومن اعتبر ابصر، ومن ابصر فهم، ومن فهم علم﴾.
فالى من يعيش التحدي، تحدي الاستقامة والالتزام بالقيم والمثل العليا، فان الامام هو النموذج، فعلى الرغم من انه كان يعرف جيدا كيف يمكن ان يسلك الطريق الاخر، طريق الانحراف والظلال، او طريق الوصولية والحيل (الشرعية) لتحقيق اهداف آنية، الا انه رفض بالمطلق ذلك، لان ارادته كانت اقوى من الاغراءات المعروضة امامه، وايمانه سبق ميله لهواه.
يقول عليه السلام ﴿والله ما معاوية بادهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من ادهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة، والله ما استغفل بالمكيدة، ولا استغمز بالشديدة﴾.
ويقول عليه السلام (واني لعالم بما يصلحكم، ويقيم اودكم، ولكني لا ارى اصلاحكم بافساد نفس)﴾.
ويقول عليه السلام متحدثا عن امكانية ان ينال ما يشتهي والوصول الى ما يريد، فالطريق مفتوح امامه، ولكن ( ولو شئت لاهتديت الطريق، الى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات ان يغلبني هواي، ويقودني جشعي الى تخير الاطعمة، ولعل بالحجاز او اليمامة، من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، او ابيت مبطانا وحولي بطون غرثى، واكباد حرى، او اكون كما قال القائل؛
وحسبك داءا ان تبيت ببطنة وحولك اكباد تحن الى القد)
فالامام لم يكن مجبورا على الاستقامة، كما ان الطرق لم تكن مغلقة بوجهه لنيل ما تشتهيه الانفس، ابدا، فلقد كان كل شئ طوع امره، وكانت الدنيا طوع بنانه، اذا اراد وصل، واذا احب حقق الرغائب، كما ان الحيل الشرعية كانت متوفرة عنده وجاهزة لديه، ولذلك فاستقامته بارادة، وقراره عن وعي، لم يجبر او يغصب على الالتزام، كما هو حال الكثيرين، ممن يتصنعوا الاستقامة، اما خوفا من الرقيب او خجلا من الحبيب.
والى من تسنم موقع المسؤولية، بعد مكابدة طويلة وصراع مرير على السلطة، لتبدا معه مرحلة الاسترخاء او التعدي على الاخرين او ظلم الناس، فتتحول السلطة عنده الى تشريف، او الى اداة للعدوان على حقوق الاخرين، يقول عليه السلام ﴿ااقنع من نفسي بان يقال هذا امير المؤمنين، ولا اشاركهم في مكاره الدهر، او اكون اسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني اكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة، همها علفها، او المرسلة شغلها تقممها، تكترش من اعلافها، وتلهو عما يراد بها، او اترك سدى، او اهمل عابثا، او اجر حبل الضلالة، او اعتسف طريق المتاهة﴾.
فالموقع عند الامام مسؤولية عظيمة، اما ان يتصدى لها المرء وهو عارف بقدرته على اعطائها حقها، او لا يتصدى لها اذا راى في نفسه ضعفا وفي قدرته وارادته عجزا.
فمن علامة القدرة على تحمل المسؤولية، هو ان يتصدى المسؤول من موقعه للدفاع عن المظلوم، يقول عليه السلام ﴿فلانقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه﴾ ويقول عليه السلام ﴿وانه لابد للناس من امير بر او فاجر يعمل في امرته المؤمن، ويتمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الاجل، ويجمع به الفئ، ويقاتل به العدو، وتامن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر﴾ فمصداق السلطة ليس في زي الحاكم او عشيرته او دينه او اي شئ آخر، انما المصداق في العدل اولا واخيرا.
والى الحاكم او المسؤول الذي يظن ان الوطن ضيعة له ولاهله وعشيرته واقربائه واصدقائه، فما ان يتسنم موقعا في الدولة، الا ويبدا بممارسة ابشع انواع الفساد المالي والاداري، يرفض الامام اساءة استغلال الموقع وباي عنوان كان، على اعتبار ان المسؤول مؤتمن من قبل ولي نعمته، المواطن، الذي ولاه المسؤولية كاجير عنده مقابل مرتبا شهريا معينا، ولذلك لا يحق له ان يستغل موقعه ويسئ استخدام المنصب لخدمة اقاربه واهله بغير وجه حق، حتى اذا كان اخوه او ابنه، او اقرب اصدقائه.
فالعدل لا يسمح للمسؤول ان يوظف الموقع لخدمة اهله بعناوين شتى.
ولقد رفض الامام امير المؤمنين عليه السلام ان يعطي اخاه عقيل صاعا اضافيا من بيت المال من غير حقه، اي من حق الاخرين، لانه يعتبر ذلك فساد مالي واداري لا ينبغي للحاكم العادل ان يتورط به، فيقول يصف الموقف ﴿والله لقد رايت عقيلا وقد املق حتى استماحني من بركم صاعا، ورايت صبيانه شعث الشعور، غبر الالوان، من فقرهم، كانما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكدا، وكرر علي القول مرددا، فاصغيت اليه سمعي، فظن اني ابيعه ديني، واتبع قياده، مفارقا طريقتي، فاحميت له حديدة، ثم ادنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من المها، وكاد ان يحترق من ميسمها، فقلت له؛ ثكلتك الثواكل، يا عقيل، اتئن من حديدة احماها انسانها للعبه، وتجرني الى نار سجرها جبارها لغضبه، اتئن من الاذى ولا ائن من لظى؟﴾.
والى من يسخر النصوص الدينية كحجج شرعية يتلفع بها عند السرقة من بيت المال، او العدوان على حقوق العباد، فتراه يرتشي باسم الهدية، أو يسرق بعنوانها، او يعتدي على حقوق الناس بنصوص شتى، يقول الامام يصف حالة من هذا القبيل ﴿واعجب من ذلك، طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها، كانما عجنت بريق حية او قيئها، فقلت: اصلة، ام زكاة، او صدقة؟ فذلك محرم علينا اهل البيت، فقال؛ لا ذا ولا ذاك، ولكنها هدية، فقلت: هبلتك الهبول، اعن دين الله اتيتني لتخدعني؟ امختبط انت ام ذو جنة ام تهجر؟ والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها، على ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وان دنياكم عندي لاهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعين﴾.
فالى من اتخم بطنه من ريق الحية او قيئها، والى من دخل الى العدوان على الحقوق من دين الله ليخدع نفسه، سارعوا الى التقيؤ، لتنظيف بطونكم من الحرام قبل ان ياتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، الا من اتى الله بقلب سليم، فان الله لا يخدع عن جنته ﴿بل الانسان على نفسه بصيرة، ولو القى معاذيره﴾.
والى من يتحجج بتقاعسه عن محاربة الفساد المالي والاداري، باتساع الرقعة على راقعها، وان ما فات مات، وعلينا بما هو آت، وان من سرق من الماضين ﴿امة قد خلت، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾ وان تقادم الزمن يحلل المال المسروق، لانه يسقط التهمة والعقوبة عن المجرم، يرفض الامام مثل هذا الكلام الباطل، وان من يريد ان يصلح الامور فعنده متسع من الوقت، ومع العقل والحجة والمنطق، شريطة ان لا يخشى لومة لائم، فلا تقادم الزمن يبرر سرقة سابقة، ولا مرور الوقت يسقط التهمة، يقول الامام عليه السلام بهذا الصدد ﴿ايها الناس، اني رجل منكم، لي ما لكم، وعلي ما عليكم، واني حاملكم على منهج نبيكم، ومنفذ فيكم ما امر به، الا وان كل قطعة اقطعها عثمان، وكل مال اعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فان الحق لا يبطله شئ، ولو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الاماء وفرق في البلدان لرددته، فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه اضيق﴾.
فالى المسؤول في الدولة الذي يظن انه فوق الاخرين وانه متميز عليهم في الحقوق والواجبات، فيمد يده الى بيت المال بما يسخط ربه ولا يرضي الرعية عنه، عليه ان يعود ليقرا النص مرة اخرى، وليتوقف عند قوله عليه السلام، وهو الامام المعصوم والخليفة الشرعي والرسمي الذي بايعته الامة ﴿اني رجل منكم، لي ما لكم، وعلي ما عليكم﴾.
فلا تمييز، اذن، بين المسؤول والمواطن العادي، فكلاهما متساويان امام القانون الذي ينبغي ان يبقى فوق الجميع، اما ان يعاقب المواطن العادي اذا سرق، ولا يعاقب المسؤول اذا سرق، فذلك ليس من العدل ابدا، فالموقع لا يحمي المسؤول من توجيه التهمة اليه او معاقبته اذا ثبتت عليه، كما انه ليس من حق المسؤول ان يحمي اقاربه واصدقاءه الذين في موقع المسؤوية اذا ما اساؤوا، فسرقوا مثلا او مارسوا الفساد الاداري.
لا يجوز لمسؤول ان يوظف السلطة او يستغل الموقع للتهرب من العقوبة عند الاساءة، كما لا يجوز له ان يوظفها للتستر على اقربائه او اصدقائه او رفاقه الحزبيين الذين في السلطة، اذا ما اساؤوا.
لقد كان الامام شديدا في محاربة الفساد المالي والاداري، فكان يبادر الى وأده فورا وهو في المهد، حال ان يتناها الى سمعه معلومة عنه، فلقد كتب مرة الى زياد بن ابيه، وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة، وعبد الله عامل امير المؤمنين يومئذ عليها وعلى كور الاهواز وفارس وكرمان وغيرها ﴿واني اقسم بالله قسما صادقا، لان بلغني انك خنت من فئ المسلمين شيئا صغيرا او كبيرا، لاشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الامر، والسلام﴾.
اما من يوظف الموقع والمنصب للتعويض عن سابقته في الايمان وسنين الجهاد والنضال، وكان تسنمه سدة المسؤولية فرصة للتعويض عما قدمه في السنين الماضية لدين الله وللبلاد التي احبها وللشعب الذي ناضل ضد الديكتاتورية من اجله، فليتيقن بانه على خطا، اذ ليس من حقه ان يستغل الموقع للتعويض عما فاته، ولقد حذر امير المؤمنين عليه السلام من مغبة مثل هذا التفكير المنحرف، بقوله ﴿الا لا يقولن رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار، وفجروا الانهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عارا وشنارا، اذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، واخرتهم الى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن ابي طالب حقوقنا، الا وايما رجل من المهاجرين والانصار من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يرى ان الفضل له على سواه لصحبته فان الفضل النير غدا عند الله، وثوابه واجره على الله، وايما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الاسلام وحدوده، فانتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لاحد على احد، وللمتقين عند الله غدا احسن الجزاء وافضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين اجرا ولا ثوابا، وما عند الله خير للابرار﴾.
قد يغضب بعض من اصاب من المال العام بالحرام، من الحق والعدل، الا ان رد الامام كان قاطعا، فعندما فكر قادة الطبقة الثرية وزعماءها ان يساوموه، قائلين له (يا ابا الحسن، انك قد وترتنا جميعا، بمساواتك ايانا مع الاخرين في العطاء، ونحن اخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على ان تضع عنا ما اصبناه من المال ايام عثمان، ويقصدون بذلك عهد الفساد المالي والاداري، وانا ان خفناك تركناك فالتحقنا بالشام، ويقصدون معاوية لانه كان يدفع لهم بلا حساب، وكان يميزهم في العطاء، فرد الامام ﴿اما ما ذكرتم من وتري اياكم فالحق وتركم، واما وضعي عنكم ما اصبتم فليس لي ان اضع حق الله عنكم ولا عن غيركم﴾ اذ ليس من العدل ان يستعيد المال العام المسروق والماخوذ بغير وجه حق من اناس ويتركه بيد اناس آخرين.
بل ان الامام يعتبر ان من العدل ان يتمتع كل المواطنين في ظل حكومته بخيرات البلاد، وليس لغيرهم الحق في ان يتمتعوا بما ليس لهم، فيقول عليه السلام في معرض كلام كلم به عبد الله بن زمعة، وهو من شيعته، وذلك انه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا، فقال عليه السلام ﴿ان هذا المال ليس لي ولا لك، وانما هو فئ للمسلمين، وجلب اسيافهم، فان شركتهم في حربهم، كان لك مثل حظهم، والا فجناة ايديهم لا تكون لغير افواههم﴾.
والى التكفيريين والطائفيين والعنصريين، والى من يميز المواطنين على اساس الجنس او القومية او الدين او المذهب او الخلفية الثقافية والتوجه والانتماء السياسي، والى من يقسم المواطنين الى فئات عدة، قد تصل في بعض الاحيان الى ثلاثة او اكثر، والى من يظن ان البلد ارث له فقط من ابيه او ممن خلفه، فان الامام دعا وعمل من اجل بناء دولة المواطنة فحسب، فليس للانتماء الديني او القومي اي اساس فيها، فالمواطنون في دولة الامام، سواسية، في الحقوق والواجبات، في اطار العدل والاحسان، اللذان امر بهما رب العالمين في محكم كتابه، وهو القائل ﴿ان الله يامر بالعدل والاحسان﴾.
لقد ظلمت مرة امراة مواطنة (معاهدة) في دولة الامام، والمعاهدة هي غير المسلمة، فاعتبر عليه السلام ان من يموت كمدا وحسرة وغضبا على هذه الظلامة مات شهيدا، فما بالك بالآلاف (يموتون) اليوم في بلداننا بسبب سياسات التمييز الديني والقومي والمذهبي، وبسبب التمييز في المناطقية وغير ذلك، من السياسات التي دمرت بلداننا، او كادت؟.
فالعدل، من وجهة نظر الامام، ان يعيش المواطنون في بلدهم من دون تمييز، وتلك هي اسس دولة المواطنة، اما ان تميز السلطة بين الناس على اساس الدين او المذهب او الاثنية، او الجنس، او غير ذلك من القيم البالية التي لا يمكن، بل لا يجوز، ان تكون مقومات المفاضلة بين المواطنين ابدا، فان ذلك ليس من العدل، بل انه الظلم بعينه.
ففي ظل دولة المواطنة، يستحق كل مواطن، وبلا تمييز على الاسس التي ذكرناها للتو، جزء من خيرات بلاده، وله الحق في العيش بكرامة وحرية وامن، له من الحقوق وعليه من الواجبات بلا تمييز، وان الاساس في المفاضلة هو الانتماء للوطن وليس الانتماء للدين او المذهب او منطقة الاقامة او الانتماء القومي.
يقول عليه السلام ﴿ولقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المراة المسلمة، واخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه الا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم، ولا اريق لهم دم، فلو ان امرا مسلما مات من بعد هذا اسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا﴾.
ان على الدولة ان تدافع عن مواطنيها، بلا تمييز، اما ان تستنفر كل قواها اذا تعرض زيد لعدوان، ولا تحرك ساكنا اذا تعرض عمرو الى عدوان مماثل، فهذا هو الظلم بعينه الذي سيسقطها ان عاجلا ام آجلا، فـ (الحكم يدوم مع الكفر، ولا يدوم مع الظلم).
والى المسؤول او الزعيم الذي يتلاعب بالالفاظ المنمقة والحلوة ليخدع بها الفقراء والمعدمين، فان العدل ليس لقلقة لسان، وهو ليس وعود واكاذيب، وهو ليس شعارات ولافتات، قد يخدع بها الخطيب بعض الناس في بعض الوقت، ولكن بالتاكيد ليس كل الناس في كل الاوقات، فان (حبل الكذب قصير) فالعدل وفاء، والوفاء لا يتحقق الا بالصدق، ولذلك امرنا الله تعالى ان نكون مع الصادقين، فقال في محكم كتابه الكريم ﴿يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾ وقرن الصدق باعظم المناقبيات، لانه لا يتحقق من دونها، فقال عز من قائل ﴿الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار﴾ وعندها سينتفع الصادق بصدقه ﴿قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم﴾ ما يعني ان النفع الاكبر للصدق يعود على صاحبه اولا واخيرا، سواء في الدنيا او في اليوم الاخر.
فالعدل، في نظر الامام، لا يتحقق الا بالوفاء، والوفاء لا يتحقق الا بالصدق، فلقد خطب يوما بالناس فقال ﴿ايها الناس، ان الوفاء توأم الصدق، ولا اعلم جنة اوقى منه، ولا يغدر من علم كيف المرجع، ولقد اصبحنا في زمان قد اتخذ اكثر اهله الغدر كيسا، ونسبهم اهل الجهل فيه الى حسن الحيلة، ما لهم، قاتلهم الله، قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من امر الله ونهيه، فيدعها راي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين﴾.
والعدل في نظر الامام، ان لا تعتدي على الحكومة اذا كنت في المعارضة، وان لا تعتدي على المعارضة اذا كنت في الحكومة، فالسلطة لا تجيز لك ظلم من يخالفك الراي، كما ان مخالفتك للسلطة لا تجيز لك الاعتداء عليها اذا كانت تتمتع بثقة الاغلبية من الناخبين (الناس) فالميزان هو راي الناس، بنظر الامام، بمعنى آخر، فان شرعية اية سلطة هو ثقة الناس بها، اقصد غالبية الناس.
يقول عليه السلام لما عزم (اهل الحل والعقد) على بيعة عثمان ﴿لقد علمتم اني احق الناس بها من غيري، ووالله لاسلمن ما سلمت امور المسلمين، ولم يكن فيها جور الا علي خاصة، التماسا لاجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه﴾.
وبهذا النص اجاز الامام للرافضين للسلطة حق المعارضة.
اما عندما تداكت على قدمية السلطة، بعد مقتل الخليفة الثالث، فلقد قال عليه السلام ﴿دعوني والتمسوا غيري، فانا مستقبلون امرا له وجوه والوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وان الافاق قد اغامت، والمحجة قد تنكرت، واعلموا اني ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم اصغ الى قول القائل وعتب العاتب، وان تركتموني فانا كاحدكم، ولعلي اسمعكم واطوعكم لمن وليتموه امركم، وانا لكم وزيرا خير لكم مني اميرا﴾.
فاذا اختارت الناس احد، فلا يحق لمن يعترض ان يقاتل الحكومة او يعتدي عليها، فان ذلك ليس من العدل والانصاف ابدا، واذا كان له الحق في الاعتراض، فان ذلك لا يمنحه حق العدوان، او القتال، شريطة، كما اسلفنا، ان تكون السلطة تتمتع بالحد الادنى من ثقة الناس، كان تكون نسبة من انتخبها واختارها (51%) مثلا.
يقول عليه السلام في معرض رده على تمرد معاوية بن ابي سفيان على سلطته، بعد ان بايعه الناس في عملية ديمقراطية قل نظيرها، ومن باب قاعدة الالزام الشرعية، التي تقول (الزموهم بما الزموا به انفسهم) ﴿انه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد ان يختار، ولا للغائب ان يرد، وانما الشورى للمهاجرين والانصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه اماما كان ذلك لله رضى، فان خرج عن امرهم خارج بطعن او بدعة ردوه الى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى﴾.
ومن باب (الشئ بالشئ يذكر) فلقد وصف الامام بيعته بالخلافة بقوله ﴿فبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداك الابل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم اياي ان ابتهج بها الصغير، وهدج اليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت اليها الكعاب﴾.
وان من العدل، في نظر الامام، تمكين الحاكم المنتخب من تنفيذ خططه وبرامجه، وعدم الاستمرار في وضع العصي في عجلة حكومته، لافشاله واسقاطه، فلقد قال الامام بعد ان تم انتخابه من قبل الاغلبية ﴿ايها الناس، اعينوني على انفسكم، وايم الله لانصفن المظلوم من ظالمه، ولاقودن الظالم بخزامته، حتى اورده منهل الحق وان كان كارها﴾.
ارايتم بعض (القادة) كيف انهم يبذلون كل ما بوسعهم لافشال الحكومة المنتخبة، لا لشئ، وانما فقط ليحلوا محلها، وياليتهم فعلوا شيئا عندما كانوا في السلطة، ليعيد الناس لهم الثقة.
ان من العدل ان تعين الحاكم المنتخب على اداء مهامه وتنفيذ برامجه، فتقومه اذا انحرف، وتعينه اذا استقام، اما ان تعرقل كل ما من شانه ان يحقق به نجاحاته، فذلك ظلم كبير لا يرتضيه عاقل فضلا عن رب العزة.
يقول الامام ﴿رحم الله رجلا راى حقا فاعان عليه، او راى جورا فرده، وكان عونا بالحق على صاحبه﴾.
اخيرا، فان من العدل الانصاف، الذي يعني في قاموس الامام ان لا تحتكر الحق وتوزع الباطل على من يختلف معك، فلقد كتب الى اهل الكوفة، عند مسيره من المدينة الى البصرة ﴿اما بعد، فاني خرجت من حيي هذا، اما ظالما، واما مظلوما، واما باغيا، واما مبغيا عليه، واني اذكر، بتشديد الكاف، الله من بلغه كتابي هذا لما، بتشديد الميم، نفر الي، فان كنت محسنا اعانني، وان كنت مسيئا استعتبني﴾.
اللهم ارنا الحق حقا فنتبعه، والباطل باطلا فنجتنبه، ولا تجعلهما متشابهين علينا، فنتبع هوانا بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين، آمين.