الإمام الحسين.. مشروعية الرفض والتضحية
تزخر القضية الحسينية بفيض من القيم تشكل في مجموعها مدرسة نهضوية إصلاحية تؤسس لنموذج متقدم في مجال الاصلاح. وإذا لم يكن مناسباً وقتها وصف حركته بالتغييرية بلحاظ أسلوب المواجهة؛ إلا أنها بالفعل تغييرية بعد أن لمسنا مقدار التأثير الذي تركته على المجتمعات الإسلامية بعد مدة، حين تساقطت أوراق التوت وتكشفت عورة السياسات الأموية.
أدهشت الحركة الإصلاحية التي قادها الحسين أصحاب العقول ودعاة التغيير والإصلاح، ليس في العالم الإسلامي فحسب، بل شمل شخصيات من مختلف الأديان وقد عبر بعضهم عن إعجابهم بشخصية القائد وبطريقته وأخلاقه والتزامه بمبادئه في مقولات مشهورة.. وليس عجبا أن تجتذب حركة الإمام هذه المواقف، فهي حركة تحتوي الكثير من المعطيات الإنسانية المدهشة.. معطيات يقف العقل أمامها حائراً لسببين:
1- الوضوح الشديد في الرؤية والمنطلقات والآليات والأهداف، ونقطة الحيرة تتمثل في غياب حواضن فكرية واجتماعية وسياسية تستوعب هذا الوضوح وتستفيد منه بدلاً من العمل على إخفائه وإخماد نوره.
2- التدفق والاستمرارية للمفاهيم والمكتسبات الحسينية أمام كل محاولات التعمية والتشويه الضخمة التي تبناها الأمويون ومن رفع رايتهم منذ اللحظات الأولى حتى هذا اليوم.
إن ثراء القضية الحسينية يجعل من استيعابها مهمة سهلة وصعبة في الوقت نفسه، فبإمكاننا أن نتعلم فيها العلاقة النموذجية بين الإنسان وخالقه، وأن نشاهد أمثلة متقدمة في حب الخير للآخرين والإيثار وبذل الروح من أجل القيم والمبادئ، والعطاء دون حدود، والوفاء، والمبادرة والفاعلية، والشجاعة، والتسامح، وفهم الواقع، وتقديم المصالح العليا للدين والمجتمع، وتهذيب النفس وغيرها.
ولكننا -في الوقت نفسه- نجد صعوبة في فهم واستيعاب قدرة الزمان والمكان على تقديم هذا النموذج الراقي في التعاطي مع النفس والمحيط الاجتماعي والسياسي، سواء بالنسبة لقيادة الحركة، متمثلة في الإمام الحسين ، أو بالنسبة لأصحابه. وهكذا بالنسبة لأهل بيته وفي مقدمتهم العباس وزينب عليهما السلام. فالتفاصيل –حتى إذا ما أخرجنا منها ما هو محل خلاف – تظل تفاصيل سامية تحتاج إلى الكثير من الجهد لإدراك مضامينها.
رغم كل ذلك فإننا نستطيع أن ننظر إلى القضية في إطار فكرتين رئيسيتين نجدهما حاضرتين في كل تفاصيل المسيرة، هما:
1- رفض الظلم.
2- مشروعية التضحية لتحقيق العدل.
إن من يقرأ الحركة الحسينية منذ بواكير انطلاقها سيلاحظ -بلا ريب- هذين المحورين. فمنذ عام 59 (أي قبل هلاك معاوية) قدم الإمام الحسين رؤيته في الواقع والتطورات التي يمكن أن تحدث، ولخص الحال بوصف معاوية بالطاغية الذي تجاوز حده في الظلم: "أَمَّا بَعْدُ ؛ فَإنَّ هَذَا الطَّاغِيَةَ قَدْ فَعَلَ بِنَا وَبِشِيعَتِنَا مَاقَدْ رَأَيْتُمْ وَعَلِمْتُمْ وَشَهِدْتُمْ ".
وحدد الإمام الحسين موقفه من هذا الطغيان والظلم الأموي بمقولته التي وقعت كالصاعقة على العصابة الأموية : "إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما".
اختار السقف الأعلى في المواجهة وهو التضحية بالنفس، فالقضية لم تكن تحتمل المساومة والمهادنة تحت أي عنوان. فلو كان الواقع يستوعب أسلوباً آخر من قبيل التفاوض وسياسة "الانطلاق من الممكن" لكان أولى به اختياره. كما لم تكن حركته انتحارية كما يسميها بعض المعوقين فكريا.
هناك طرف آخر من المعادلة يتمثل بالمحيط الاجتماعي، وهو طرف مهم جداً لتحديد وجهة أي تحرك نحو التغيير والإصلاح، فالمجتمع الذي هو ساحة التغيير لم يكن- عندما قرر الإمام بدء حركته – ناضجاً. كما ساهمت الأموال الأموية والترهيب في تحييده على أقل التقادير. وصف الإمام المجتمع وقتئذ بقوله: "النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا وَالدِّينُ لَغْوٌ عَلَي أَلْسِنَتِهِمْ ؛ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ بِهِ مَعَايِشُهُمْ ؛ فَإذَا مُحِّصُوا بِالْبَلاَءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ". وهي المشكلة ذاتها التي واجهها الأنبياء والأئمة والمصلحون.
يتأكد حضور الركيزتين السابقتين في مفصل آخر من القضية عندما قال الحر بن يزيد الرياحي للإمام الحسين : "يَا حسين! إنّي أُذكِّركَ اللهَ في نفسكَ، فإنّي أشهَد لَئن قاتلتَ لَتُقْتَلَنَّ". فكان رده: أَفَبِالْمَوْتِ تُخَوِّفُنِي! وَهَلْ يَعْدُو بِكُمُ الْخَطْبُ إنْ تَقْتُلُونِي!"، فالموت بكرامة خيار أصحاب المبادئ. التعبير عن هذا المفهوم لم يغب لحظة عن الإمام وأصحابه وحري بكل أصحاب المشاريع الحقيقية أن يضعوا هذا المبدأ أمام أعينهم.
يضغط الحاكم المستبد ويلوح بخيارات قاسية أمام الإصلاحيين، ويدفع نحو خيار التنازل عن المشروع الإصلاحي، أما الإصلاحي الحقيقي فيختار الموت بكرامة على العيش في مذلة وهوان، كما يفضل السجن على الحرية المزيفة. والإمام الحسين يعد أنموذجاً مبهراً على هذا الصعيد، تجلى ذلك في مقولته الشهيرة " ألا وأن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام".
- الخلاصة:
- ما أحوجنا ونحن على أعتاب شهر محرم الحرام أن نستحضر المبادئ التي تعيننا في الصراع مع السلطات الاستبدادية. والمسيرة الحسينية هي الجامعة التي نتعلم منها المبادئ العليا للإصلاح وقيم المواجهة.
- رفض الظلم قيمة أساسية ينبغي التركيز عليها وجعلها نصب الأعين.
- التضحية دليل الإخلاص وهي من الأساليب الحسينية الفريدة في المواجهة.
- إن البحث عن منجزات ومكتسبات ينبغي أن يكون في إطار المبادئ والقيم حتى لو تأخرت هذه المكاسب، فالمعيار الحقيقي هو الالتزام بالقيم وليس تحقيقها بأي طريقة. أجل؛ قد يتأخر النصر، غير أنه يأتي لا محالة.