من الذين يُذلون أنفسهم؟
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ليكرمه ويفضله على سائر المخلوقات؛ بالعقل والإرادة التي منحها إياه سبحانه وتعالى، وبتسخير ما في الكون خدمة له، وبجعله خليفة في الأرض وسيدا على المخلوقات جميعا، بل إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الكون إلا لأجل الإنسان "لولاك ما خلقت الأفلاك". قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾.(1)
وخص الله سبحانه وتعالى المؤمن بمزيد ومزيد من الكرامة؛ فكلما ارتقى في إيمانه وتقواه ارتقت كرامته وإنسانيته، قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾،(2) حتى يبلغ منزلة يفضله بها الله سبحانه وتعالى على الملائكة؛ ألم يبلغ الإنسان درجة عند الله سبحانه وتعالى لم يبلغها أي مخلوق آخر، حتى أعظم الملائكة ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾؟(3)
وألم يجعل الله الملائكة خدما في بيت الإنسان كما كانوا عند أهل بيت النبوة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وسيجعلهم خدما له في الجنة، بل إن الجنة لم يخلقها الله سبحانه وتعالى إلا ليكرم بها الإنسان، كما خلق الكون كرامة له، بل إن الملائكة والجنة يتكرمون ويتشرفون بالإنسان المؤمن وبخدمته كما في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴾.(4)
إن الكرامة لا تنفك عن الإنسانية، ولا الإنسانية تنفك عن الكرامة؛ فالكرامة هي الإنسانية والإنسانية هي الكرامة، والكرامة فطرة إنسانية؛ فالأطفال رغم أنهم لا يعرفون معناها إلا أنهم يشعرون بها؛ فعند تعرضهم لسوء معاملة بحيث تُخدش كرامتهم سيشعرون بالإهانة؛ فتصدر منهم ردات فعلٍ كالبكاء أو العناد وما شابه كاعتراض على الإهانة، وقد يصابون باضطرابات سلوكية وعقد نفسية نتيجة شعورهم بالإهانة.
وبعد أن عرفنا قيمة الإنسان وكرامته عند الله.. من المؤسف أن الكرامة الإنسانية تتعرض لوأد مستمر؛ إما من قبل الذات، أو من أعداء الكرامة.
- وأد الكرامة
1- من قبل الذات:
إن كثيرا من البشر - الذين نفخ الله فيهم من روحه، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾،(5) هذه الروح هي روح العظمة والعزة والجلالة والكرامة - لا يقدِّرون هبة الله العظيمة لهم؛ فيعملون على وأدها بأيديهم بظلمهم للآخرين، أو لأنفسهم؛ فحين يظلم الإنسان الآخرين سيفقد كرامته وإنسانيته بظلمه لهم، وسيفقد كرامته أيضاً عند عدم إتباعه لقيم السماء التي جاء بها الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم)، والتي رسخها الأئمة الأطهار من أهل البيت (عليهم السلام)، وسار على نهجها العلماء الربانيون الذين يجب إتباعهم في عصرنا الحاضر لأنهم اتبعوا قيم السماء.
والعجيب في الذين لم يستجيبوا لدعوة النبي لو أنهم تعرضوا إلى الذل في الدنيا وإلى العذاب في الآخرة من قَبل أن يُرسل الله سبحانه وتعالى لهم النبي محمد ، أو من قَبل أن يبشرهم وينذرهم بآيات القرآن الكريم؛ لاحتجوا على الله سبحانه وتعالى بأنه لم يرسل لهم رسولاً ليتبعوا التعاليم الربانية فيحموا أنفسهم من الذل في الدنيا ومن العذاب في الآخرة. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى * وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى﴾.(6)
وسبب عدم استجابة الإنسان للقيم الرسالية والدعوة الإلهية إنما يكون من ظلمه وجهله وثقافته المريضة الغير مرتبطة بالسماء وحبه للشهوات؛ فإنه سيكون متبع لأهوائه وشهواته وما تمليه عليه من إغراءات للسقوط في أحضان المعاصي والفسق والرذيلة؛ المحطمة لكرامته وعزته، والمدنسة لإنسانيته؛ فيغرق في مستنقعات الذل والخزي والهوان القذرة. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾،(7) وبسبب عدم استجابتهم لقيم السماء فإنهم لن يفقدوا كرامتهم وحسب، بل ستكون الأنعام أعلى منزلة منهم: ﴿ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾.(8)
2- بواسطة أعداء الكرامة:
منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان تربص به أعداء الكرامة الإنسانية، ورغبوا في أن ينتزعوا منه المقام الكريم الذي أعطاه الله تعالى إياه والذي كرمه به على باقي الخلق؛ فكان هذا الإنسان أبونا (آدم) عليه السلام، وكان عدو الكرامة الإنسانية الأول هو (إبليس) اللعين، الذي رفض السجود للإنسان حين أمره الله سبحانه وتعالى وأمر عباده المكرمون (الملائكة) بالسجود له؛ ليبين فضله وقيمته وإعظاما وتحية وتكرمة له؛ فسجدت الملائكة الذين ﴿ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾،(9) وامتنع إبليس اللعين امتناعاً شديداً عن السجود لآدم (الذي يمثل الإنسانية)؛ عُلُواً واستكباراً على الكرامة والمقام الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى له، بل ونذر نفسه لسلب الكرامة والمقام العالي من البشر، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾.(10)
وفي الحديث: عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله الصّادق عليه الصّلاة والسّلام قال : "قلت: سجدت الملائكة لآدم صلوات الله عليه ووضعوا جباههم على الأرض؟ قال: نعم، تكرمة من الله تعالى".(11)
لقد كان تعظيم وتكريم آدم (عليه السلام) -الذي تمثل بالسجود له- عبادة لله تعالى، وليست لآدم (عليه السلام)، ولكن كبرت في نفس إبليس أن يخضع لهذا الأمر الإلهي؛ لأن فيه تعظيماً وتكريماً وتفضيلاً للإنسان، وهذا أمر يأباه عدو الكرامة الإنسانية (إبليس) اللعين، عن الإمام جعفر الصادق قال: "أُمر إبليس بالسجود لآدم فقال: يا ربّ وعزتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها، قال اللّه جلّ جلاله: إني أحبّ أن أطاع من حيث أريد".(13)
إن إبليس كفر برفضه الخضوع للأمر الإلهي المتمثل في تعظيم وتكريم الإنسان؛ لأنه خضع لذاته التي تتغذى على وحول الاستكبار القذرة، قال تعالى: ﴿ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ ﴾.(13)
وهكذا هم أبالسة البشر من الطغاة المستكبرين على مر التاريخ إلى يومنا هذا، دائما ينظرون بأنانية لذاتهم ومطامعها النتنة، غير آبهين بكرامات الناس؛ فيسعون لسحقها بإذلالهم وسلب حرياتهم وحقوقهم المشروعة. إن هؤلاء الطغاة كفروا كما كفر إبليس، حتى لو سجدوا لله تعالى؛ لأنهم كفروا بالحرية والكرامة التي جعلها الله تعالى حقاً للإنسان، والله سبحانه وتعالى لم يرسل الرسل إلا ليحرروا البشرية من الذل والعبودية، وليرسخوا قيم الحرية والكرامة فيهم؛ لترتقي وتكتمل كرامتهم وعزتهم وإنسانيتهم، في حين تجد أن الطواغيت يسنون القوانين والأنظمة التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ ليكبلوا بها حرية الإنسان بأصفاد الاستعباد، ولينزعوا عنه ثوب الكرامة والعزة؛ فيسحقون باستكبارهم وبطغيانهم كرامة وعزة وإنسانية الإنسان.
- الحفاظ على الكرامة واجب شرعي
لا مفر للإنسان من التعرض لكافة أشكال الابتلاءات والفتن والضغوط والظلم من التربية والمجتمع والثقافة والسلطة التي تحاول سلبه حريته وكرامته، وقد يعتقد الإنسان أن كرامته حق يستطيع التنازل عنه متى ما أراد ذلك كباقي الحقوق، لكن الصواب غير ذلك؛ فالحفاظ على الكرامة واجب شرعي يُلْزَم به الإنسان ويحاسبه الله سبحانه وتعالى عليه، قال الإمام علي : (إن الله أوكل لبني آدم كل شيء إلا أن يُذل نفسه)؛ فهو مُلزم بالحفاظ على كرامته بعدم موالاة الطاغوت والخضوع لِذُلِه، وعليه أن يوالي الله ورسوله والمؤمنين، وهو ملزم بالصبر على محاربة كافة الضغوط التي تحاول سرقة حريته وكرامته لينال العزة من الله وجنة الخلد.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.(14) ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾.(15)
والذين يوالون الطواغيت طلبا للعزة هم واهمون؛ فالطاغوت والعزة نقيضان لا يجتمعان؛ لأن الطواغيت أعداء للكرامة الإنسانية، ومن يواليهم فإنه يبيع كرامته وعزته بثمن بخس، ويعادي الله ورسوله والمؤمنين، ويخالف فطرته. إن من يبحث عن العزة؛ عليه أن يوالي الله ورسوله والمؤمنين. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ﴾.(16)
والذين يوالون الطاغوت لم يفقدوا كرامتهم وعزتهم وحسب، بل فقدوا إيمانهم أيضا، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾.(17)
ولنا في الإمام الحسين (عليه السلام) خير قدوة على التمسك بالعزة والكرامة؛ فهو القائل: " ألا إن َّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السِّلَّةِ والذِّلة، وهيهات منا الذلة "؛ فبذل دمه ونفسه ومهجته، بل كل ما يملك واستشهد في سبيل الله من أجل دين الله الذي به تُحفظ كرامة الإنسان.
- الخاتمة
فضل الله سبحانه وتعالى الإنسان على الخلق؛ فأعطاه الكرامة والمقام الأعلى، وأوجب الله سبحانه وتعالى عليه حفظ مقامه وكرامته، وجعل الله سبحانه وتعالى طاعته والعبودية والخضوع له؛ هي العزة والكرامة والفخر والفوز للإنسان، وجعل عصيانه وإتباع الأهواء والشهوات والخضوع لغيره تعالى كإبليس والطواغيت والضغوط الأخرى؛ ذُلا وهوانا وخسة وخسرانا وعذابا للإنسان.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في مناجاته لله تعالى: "إلهي كفى بي عزا أن أكون لك عبدا، وكفى بي فخرا أن تكون لي ربا. أنت كما أُحبُّ فاجعلني كما تحبُّ ".