الحذر الخاسر والحذر الرابح (5-5)
من الذي يوفق للحذر الرابح، ومن لا يوفق؟
(الجهل وعدم طلب العلم - إتباع الهوى – الغفلة وطول الأمل - العناد والاستكبار) هم من الحجارة التي يتعثر بها الإنسان في طريق الحذر الرابح؛ مؤدية به إلى طريق الهلاك، ومن ينجح في التخلص من هذه الصفات السلبية سينجح في حذره.
- الجهل والامتناع عن طلب العم
من خلال التأمل في الآيات القرآنية وجدنا أنَّ )العلم والعقل( عاملان أساسيان للوصول إلى الحذر الرابح؛ فالعلم يتحقق بالسعي لاكتساب المعرفة، لا الامتناع عن اكتسابها خمولا وكسلا، أو لهوا ولعبا، أو انشغالا وانغماسا في أمور الدنيا، أو غرورا؛ كالذي يظن نفسه قد اكتسب كامل المعرفة ولا يحتاج أن ينهل مزيدا من العلم، وهذه هي قمة الجهل؛ حيث أنه جاهل بأنه جاهل، وهذا هو الجهل المركب.
والعقل يتمثل بالعمل بهذا العلم، أما ترك العمل بالعلم فهو جهل؛ كما قال أمير المؤمنين: "العاقل يعتمد على عمله والجاهل يعتمد على أمله". والعلم هنا هو التفقه في الدين؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة/ 22). والتفقه في الدين ليس فقط فهم أحكام الصلاة والصيام والحج وما شابه، بل يشمل اكتساب ثقافة الرشد والهدى، والتوحيد الخالص لله تعالى؛ الذي يتمثل في الثقافة الإسلامية المستمدة من الوحي، والنقية من الغي والضلال ومن (عبادة الطاغوت) التي هي من أضل الضلالات، قال تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة/ 256).
ونجد أن الحذر مقترن بالعلم، والعمل، والعقل أيضا؛ كما في قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً (يعمل؛ لكي) يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ (وهذا العمل نتيجة العلم) قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (العقلاء هم وحدهم الذين يعملون بعلمهم ويجسدونه على واقعهم) إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر/ 9)؛ لهذا على الإنسان أن ينشط في طلب العلم، ويسعى له سعيا حثيثا وجادا بدون ملل ولا كلل، وأن يعمل به؛ لما فيه من خير عظيم له ولمجتمعه.
- إتباع الهوى
وكذلك الإنسان الذي يتبع هواه؛ فيرجح كفة الراحة والمصالح الشخصية، وينغمس في الملذات دون التعقيب في الحلال والحرام؛ ولا البحث عن حق وإتباعه ولا عن باطل واجتنابه، وسيعرض عن أوامر الله سبحانه وتعالى ليطيع أوامر هواه؛ فهذا الإنسان لن يوفقه الله سبحانه وتعالى لإتباع الهدى، وللحذر من الضلال.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ (الجاثية/23). إن هذا الإنسان قد عبد أضل وأبغض إله عند الله سبحانه وتعالى، وهو الهوى.
قال رسول الله : "ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى".
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إني لأرجو النجاة لهذه الأمة لمن عرف حقنا منهم إلاّ لأحد ثلاثة: صاحب سلطان جائر، وصاحب هوى، والفاسق المعلن".
- الغفلة وطول الأمل
الأمل أمر إيجابي في الحياة، فلولاه ما تقدمت البشرية نحو الأمام، ولم تتحقق طموحاتها، ولم يصبر أحد على انجاز ما يصبوا إليه؛ ويشير إلى هذه الحقيقة قول رسول الله : "الأمل رحمة لأُمتي، ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجراً"، ولكن إذا تجاوز الأمل حده المعقول؛ فإنه سيتحول إلى (طول الأمل) تماما كماء المطر الباعث للحياة؛ فلو زاد عن حده فإنه سيكون سببا لغرق البشر والشجر..
إن طول الأمل؛ سيؤدي بالإنسان إلى الغفلة عن واجباته ذات (الهدف الأخروي)؛ حيث تسيطر الأحلام والتخيلات والآمال والأماني عليه؛ فيبتعد عن الرشد والحق، ولا يفكر في القبر، والحساب، والعذاب. لكن الآخرة واقع وحقيقة سَيُصدم بها الغافل عنها - بآماله وأمانيه الوهمية - حين يخيم عليه شبح الموت، ويُقْبر في حفرته ويفوت الأوان على العودة؛ لإصلاح ما أفسدته عليه آماله وأمانيه الخيالية، قال تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (الحجر/3).
هذا النوع من الناس – بسبب جهلهم كما قال أمير المؤمنين: "العاقل يعتمد على عمله والجاهل يعتمد على أمله" - يحيون حياة سطحية؛ ذات أهداف تافهة وقشرية بعيدة عن الهدف الأكبر؛ لأنهم: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم/7)، ولأنهم مُغترون بالدنيا ويكتفون، ويطمئنون بها - حين يرون النعم تغدق عليهم - ولا يرون عظمة الله تعالى المتجلية في مخلوقاته؛ فلا تؤثر هذه العظمة الإلهية في نفوسهم المريضة بالأوهام؛ ليخشوا عذاب العزيز الجبار، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (يونس/7-8).
لقد خدعتهم الآمال حتى جاء أجلهم وانتهت مدتهم، كما قال تعالى: ﴿وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ (الحديد/14)؛ فكانت النتيجة أن: ﴿مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (الحديد/15).
لهذا على المؤمنين أن يحذروا من طول الأمل، وأقول لهم ما قاله تعالى لهم: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (الحديد/16). وحول هذا الموضوع يُنقل عن النبي الأكرم وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) رواية بنص واحد وهي: "إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: إتباع الهوى، وطول الأمل؛ فأما إتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة".
- العناد والاستكبار
قلنا سابقا أن من أساسيات الحذر الناجح هو العقل، والعقل هو العمل بالعلم المستمد من الوحي. وإن روح العناد والاستكبار والغرور تُضيع على صاحبها فرصة الحذر من الوقوع في المحذور؛ فَرُوحهم المريضة بالغرور والاستكبار تمنعهم من الخضوع والتسليم للأوامر الإلهية التي جاء بها الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومن يمثلهم من العلماء الربانيين المصلحين، قال تعالى: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً﴾. (نوح/7).
إن هؤلاء يعرفون الحق، لكنهم يعاندون بسبب ظلمهم وغرورهم واستكبارهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾. (النمل/14)، وبسبب تمسكهم بما اعتادوا عليه من عادات وتقاليد بالية وباطلة، وبسبب استخفافهم بالحق ومن يدعوا إليه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾. (الصافات/35-36)، وقال تعالى: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾. (الأعراف/70).
وللأسف، يعاني المؤمنون من هذه المشكلة الخطيرة؛ فهم أيضا يستكبرون على الحق ولا يخضعون له؛ عندما يأتي به لهم عالم مصلح، أو مؤمن ناصح؛ لأسباب وأعذار تافهة لا يقبلها الله ولا يعذرهم بها؛ بسبب إتباع العادات والتقاليد المُهترئة والمُفسدة ، أو تحزبات ضيقة، أو أن هذا الناصح والمصلح من عمرنا أو أصغر سنا، أو ليس من عائلة مرموقة، أو ليس من يميل له الهوى..! وهنا على الإنسان أن يعرف الحق وأهله ليتبعه، وأن لا يتبع أحدا إلا إذا كان مع الحق، كما قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): "اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله. يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال". ولكن المصيبة: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ (المؤمنون/70).
أسأل الله أن لا نكون من هذه الأكثرية الضالة باستكبارها.
- في الختام
من الواضح للجميع أن عاقبة الحذر الممدوح هي النجاة من عذاب الله في الدنيا والآخرة؛ وبالتالي الفوز برضوانه والجنة. ومن خلال ما سبق نستنتج أنه يجب الحذر من: الوقوع في النفاق ومن المنافقين، الاستعلاء على الآخرين، الظلم، الإفساد في الأرض، الكفر والكفار، موالاة الكفار والطواغيت ونصرتهم، محاربة المصلحين الصادقين، الاستكبار على الحق، رضوخ العلماء والقيادات الربانية لضغوط وأهواء المجتمع الفاسق، تحريف آيات الله والعمل ببعض ما أنزل الله وترك البعض، الأزواج والأولاد في حال صدهم عن العمل الرسالي، صد المؤمنين عن العمل الرسالي، محاولة خداع الله ورسوله، معصية أمر الله ورسوله، التعلق بالدنيا على حساب الآخرة، عذاب الله في الدنيا والآخرة، الجهل، الكسل، الغفلة وطول الأمل، ولا ننسى عدو البشرية، الشيطان.
إن خلاصة الحذر هي التقوى؛ فتقوى الله هي المنجية من سخطه وعذابه، وهي السبب لنيل الرحمة الإلهية وجنة الخلد. قال تعالى: ﴿ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.(غافر/9).
هذه محاولة أولية وغَرفة صغيرة اغترفتها من القران الكريم عن الحذر، وهذا الموضوع لو تأملنا كتاب الله لوجدناه أكبر مما ذكر في هذا المقال، ومن أراد التوسع فعليه مراجعة كتاب الله وروايات أهل البيت (عليهم السلام).
أسأل الله أن يوفقنا لنكون من أصحاب التقوى والحذر الرابح؛ فهم المفلحون والفائزون بالجنة وبالرضوان الإلهي، إنه سميع مجيب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.