الشعائر الحسينية خط أحمر

اقرأ للكاتب أيضاً

 

إن الممارسات والطقوس الدينية حقائق مسلّم بها ومسنونة في تشريعات الأديان السماوية الإلهية والأرضية التي تعبد غير الله وحقوقاً مكفولة لكل بني البشر، فالممارس لطقوسه العبادية يجد بأن تلك الممارسات وسيلة ارتباط أو تقرب للإله المعبود. ويطلق على تلك الممارسة في الدين الإسلامي بالعبادات والشعائر، "والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة، وشعائر الله، الأعلام التي نصبها الله تعالى لطاعته كما بين لنا سبحانه في قوله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ)، وقال (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ) (1) " و أشعر الهدي (البُدن)، إذا طعن في سنامه الأيمن حتى يسيل منه دم، ليعلم انه هدي " (2) ومن هذا وغيره من التفاسير نصل إلى معنى كل ما يعد من الشعائر الدينية على وجه العموم.

ونتيجة لارتباط البُدنة (الجمال) في حج القران بالحج واعتبارها من الشعائر، فإن الله أوجب تعظيم تلك الحيوانات لمجرد مشاركتها الحاج في فريضته وإحياءها لديمومة شعيرة الحج، وما دامت تلك البدنة من شعائر الله فإن ذلك استوجب تعظيمها لأنها شرط للحصول على التقوى كما يُستنتج من الآية الشاملة لمصطلح الشعائر في قوله تعالى: " ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ". وقد أفتى الفقهاء في تكريم تلك الدابة وعدم أهانتها. فما هي عظمة مؤمن يمارس شعائر الله وشعائر الإمام الحسين ، أيهما أشد حرمة هو أم الدابة؟ أم مقدسات الحج والمشاعر التي هي من شعائر الله؟ وإذا سلّم المسلمون بـ "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ"  وهي مساحة بين جبلين يسعى بينهما الحجيج فماذا تسمى الممارسات الدالة على الإمام الحسين والإشعار لقضيته وإثارتها في الضمائر والنفوس إن توفرت فيها طاعة الله؟ وما تعظيم وإقامة ما يُشعر بأهل البيت إلا من تعظيم الله وشعائر ممثليه في الأرض الدالين عليه وقد ورد عنهم سلام الله عليهم "نحن الشعائر والأصحاب".

  • الشعائر وعامل الزمان:

إن البعد التاريخي والجذري للشعائر والممتد إلى قرون مضت عامل مطاطي ولا يعتبر به كلياً في تصنيف الممارسة على أنها شعائرية من دونها ، فلا يعني أن يكون عمر الشعيرة آلاف السنين حتى تسمى بشعيرة بل يكفي إيحاءاتها ودلالاتها على حادثة كربلاء وأحداثها الجسام فتكون وسيلة للوصول إلى معنى التفاعل والإحياء، فهناك الشعائر الموروثة وهناك ما سيضاف إلى مصطلح الشعيرة من شعائر جديدة في كل زمن وكلها على خير مادامت توصل للشعور بمعنى الحسين وثورته كلُ وتفاعله.

ولو أخذنا مثالاً لطريقة العمل بالتشريعات الآن لوجدناها ليست بالضرورة بكيفيتها في الزمن الذي شرعت فيه حتى تؤخذ أو ترد على أساس أن هذه الكيفية أو الطريقة لم تكن في زمن المعصوم، وإلا لزم ترك العمل ببعض الروايات والأحكام التي قيلت عن طريق المعصومين لاختلاف المقصود أو آليات التنفيذ عن ذلك الزمان و صارت جميع أعمالنا ضرباً من الفوضى والاعتباطية.  فالمساجد التي تترتب عليها الأحكام الشرعية لم تكن بهذه الكيفية ولم تكن الأضرحة والبناء بالشكل الحالي موجودة قبلاً.. فهل يستلزم هذا عدم الصلاة في هذه الأماكن وعدم العمل بأحكام وعمارة المساجد المشرعة في زمن المعصومين لاختلاف المضمون وواقع التطبيق؟

  • تعدد الشعائر وحرية الممارسة:

إن الشعائر الحسينية مجموعة الممارسات والتحركات والشعارات التي تعبر عن وحدة هدف وتعدد أدوار "فهي طقوس دينية يبحث المشاركون فيها ومنظموها والمنفقون عليها من أموالهم الخاصة عن رضا الخالق قبل رضا المخلوقين ، عبر تأبينهم وتكريمهم رجلا ً من الأولياء والصالحين والقدّيسين ضحـّى بكل مايملك" (3). فهي وسيلة شعبية صارخة للتعبير عن كوامن داخلية ظاهرها السلم وباطنها الانقياد لقيم إسلامية قابلة للتضحية ومتنفساً من طوارق الهموم ومشاكل النفس، وهذا ما تترجمه هذه الممارسات الحسينية.

فهناك من يقوم بإحياء شعائر الحسين بطريقة ما وهناك من يرى طريقة ثانية وآخر يرى ثالثة وكلهم يهدفون أولاً وأخيراً لإحياء الأمر شخصاً أو جماعة بحسب تكليفهم الشرعي ما يدعونا إلى ضرورة استيعاب الشعائر الحسينية وعرضها بحيادية. فإذا كان الدخول في الدين لا إكراه فيه فالأولى أن تكون الحرية للعمل بالمعتقدات المباحة لمن هم داخل الدين أيضاً فلا يكون هناك إكراه على فرض أو إلغاء ممارسة، فما أكثر النداءات الجميلة الداعية لاحترام حريات ومعتقدات الآخرين بغض النظر عن انتمائهم الديني من قبل المصلحين والمتطلعين إلى التداخل بين المذاهب والطوائف والأديان ولكنهم بالمقابل لا يطيقون الحرية لمن هم في إطار مذهبهم، فيشنعون عليهم ويخلقون حالة من الصدام الدائم من حيث يدرون أو يتغافلون أن "الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم".  

  • كيف ينظر إلينا الآخر؟:

لقد كانت شعائر أبي عبد الله الحسين هاجساً لدى السلطات الحاكمة المتعاقبة آنذاك، ففرضت الحضر والتنكيل لكل من يفكر بزيارة سيد الشهداء وإحياء شعائره إلا أن ذلك أعقبه إصرار من قبل الشيعة ولو وصل الأمر إلى فقدان الحياة، ما جعل للشيعة تميزاً في النضال والتأقلم مع كل الظروف السياسية والطائفية. ويبدو هذا الترجمان واضحاً في ما يحدث مع الممارسات الطائفية البغيضة لشيعة العراق وتفجيرهم وقتلهم إلا أنهم وغيرهم في حالة دائمة من الصمود والتحدي لكل أنواع الاضطهاد والمحاصرة.

يقول الشيخ علي الكوراني في كتابه الانتصار في حديثه عن المقاومة الإسلامية وتأثير الشعائر الحسينية: ولو أنك كنت في سنة 1983 في النبطية عندما كان لبنان تحت احتلال إسرائيل، لرأيت كيف بدأ هؤلاء الحسينيون طريق المقاومة.. جاء موكبهم ليس معهم إلا أكفانهم وسيوفهم.. وواجهوا اليهود المدججين بالسلاح ، فانذعر اليهود من شيعة علي ، كما انذعروا من هجوم علي على حصن خيبر ، وهربوا بسياراتهم وهم يطلقون الرصاص في الهواء تاركين بعض سياراتهم للحسينيين ليشعلوا فيها النار !وظل ذلك اليوم الحسيني الأحمر فخراً للمسلمين ، وذلاً على اليهود. "ويعد الدافع السياسي من أهم العوامل التي تحدو بالسلطات إلى اتخاذ إجراءات لتقييد تلك الممارسات ومنع تحولها إلى أداة ضغط سياسية، لكونها تشكل مناسبة للتعبير عن الاعتراض أو الرفض أو الاحتجاج، أو حافزا للانتفاضات العشائرية والمناطقية" (4). وقد ساهم أئمة أهل البيت بتنمية هذا الجانب وتحفيزه في نفوس أتباعهم، فهذا الإمام الصادق كان يقيم مجالس التعزية في ظل عداوة السلطة العباسية ويتحدث عن فضل زيارة الإمام الحسين وإحياء ذكراه.

  • القدسية:

 إن الكثير من الحركات والأفعال ليس لها معنى أو قيمة في الواقع الحياتي ولكن ما إن ترتبط بحدث أو قيمة إنسانية أو دينية فإنها ما تلبث أن تصبح ثمينة المعان وكبيرة المقدار، فالورقة العادية عبارة عن قطعة لا قيمة لها ولا معنى ولكنك لو كتبت عليها آية صار لها حرمة تمنع من هتكها وبتجميعها يتكون القرآن، كذلك الحجارة عندما يبنى بها مسجد فإنها تكوِّن كيان يصبح مقدساً لارتباطها بحالة أخرى وأي أمر يربط بالحسين فإنه يصبح مقدساً وله حقيقة ينبغي مراعاتها وعدم هتكها، هذا لا يعني عدم إبداء وجهة النظر والحديث عن الأولويات، إنما المعنى الوقوف عند معنى الهتك أو التشنيع لمن يمارسون طريقة معينة من التعبير والألم ما دام كل ذلك لا يدخل في إطار المحضور شرعاً والمنصوص على حرمته.

إن عاشوراء مناسبة من الواجب أن تكون موسماً لرفع شعار الحسين مع تعدد الرؤى ووجهات النظر، فإذا استطاع المسيحيون باعتقادهم أن السيد المسيح صُلب وأقاموا الصليب شعاراً وعلامة للدعوة إلى المسيحية سنين وسنين.. فالأجدر بنا أن نتفق في الحسين، في موسم الحسين للوصول إلى نقطة واحدة هي إحياء شعائر أبا الشهداء المقدسة وديمومة قضيته شعلة لا تنطفئ على مر الكرور والأيام لنستفيد منها كما استفاد غيرنا.

 فلا ينبغي تحجيم الشعائر والاستنقاص منها ومحاولة منعها وتوجيه الضرر تجاهها، بل من اللازم الإقرار بالتعدد والحق في الممارسة ما لم تكن خارجة عن الإطار الشرعي كل ومرجع تقليده حتى لا تكون النتيجة ذات بعد سلبي يبقى على مر التاريخ، فمتى ما ضربت الشعائر الحسينية ضُرب التشيع وأصبح بلا هيبة أمام الآخرين من خارج منظومة التشيع.

(1) الميزان: ج14، ص373
(2) مختار الصحاح 2: 698
(3) الزيدي، علاء – وكالة براثا - شعائر عاشوراء حين يساء فهمها.
(4) موقع BBC العربية، 21/04/2003.