التضحية في خطاب سيد الشهداء
كثيراً ما يدور الحديث عن المطالبة باستلهام الدروس والعبر من سيد الشهداء الإمام الحسين في ما قام به من أجل دين الله وما جرى عليه في الظلامة الكبرى التي حلت به وبالإسلام في واقعة كربلاء سنة 61 هـ، وإذا نظرنا إلى عوامل نجاح الثورة ووصولها لِما آلت إليه من شهادة واستهداف لشخص الحسين وأهل بيته وخلوده وعظمته بعد استشهاده على مدى مئات السنين، لرأينا أن الباطن الحسيني لسيد الشهداء كان هو السبب للإقدام الثوري ومقارعة الباطل.
وإننا إذ نحتاج للإبحار في ذلك الباطن ومعرفته لبناء أنفسنا بمعنويات رفيعة للثورة ضد طغيان النفس الداخلي أولاً وتصحيح الأخطاء من حولنا ثانياً. وبمطالعة بعض الخطب والحوارات التي دارت بين الإمام سلام الله عليه وبين الشخصيات المخالفة، أو بينه وبين جيش العدو كاملاً يتضح لنا الجانب التربوي الروحي والإيماني العميق في أبعاد كلامه ومدى استعداده لمعانقة الموت لتحقيق أهداف التغيير من واقع الحال الرديء.
فالموت في المفهوم الحسيني زينة يتجمل بها المؤمن ويظهر حسنه من خلال الاعتقاد والإيمان به كما تتزين الفتاة بعقد الذهب أو اللؤلؤ، فهو جوهر التضحية والإيمان بما قدر الله في اللوح المحفوظ خاصة وان كان من أجل تحقيق هدف نبيل.
إن الإنسان يسعى دائماً لصيانة نفسه من الامتهان والحؤول من الإضرار بها أو تعدٍ عليها يؤدي في نهاية المطاف إلى الموت، إلا أن الحسين كان يسعى لتوفير الكرامة والعز لكامل الأمة الذي لا يتحقق إلا من خلال مواجهته الخطر القادم من أعداء الإسلام، فيعتبر نهاية حياته بداية حياة دائمة على عكس بقاء الكائن الإنساني في حياة الذل والاضطهاد فإن ذلك موت أبدي وغفلة لا يصحوا منها صاحبها.
ويحاول أن يلفت أنظارنا إلى أن الموت لا يخيفه ولا يثنيه عن مواصلة رسالته، وفي حديثه للحر تأكيداً وتأصيلاً لهذا المعنى، إذ يرى أن "الموت في سبيل العز إلا حياة خالدة، وليست الحياة مع الذل إلا الموت الذي لا حياة معه" ولو سبرنا أغوار النفس البشرية لوجدناها بفطرتها تميل إلى حب البقاء والتشبث بالحياة ومادياتها، فإذا أردنا أن نبني أنفساً قادرة على الإقدام على ما يُعد نقطاً وتحولات فاصلة في حياتنا فإننا بحاجة لتوطينها على أن تكون الحياة أزهد ما عندها وهذا هو مبدأ الحسين القائل ضمن مقالته السابقة " أفبالموت تخوفني؟" حيث أن الموت ليس عامل رجوع عن الحق ولا هزيمة بالنسبة إليه.
إن التضحية والغيرة ينبغي أن تنطلق من الدفاع عن شرع الله وقوانينه التي سنها حفاظاً على كرامة النفس الإنسانية وسموها، فإذا نظر المرء إلى الحق فوجده "لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه" وجب عليه الإقدام للتغيير والتصحيح "ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا"، وتصبح الدنيا رخيصة عنده فلا يرى "الموت إلا سعادة" إن توقفت الحياة عنده في سبيل إحقاق الحق وإبطال الباطل وإلا فإنه لن يعيش "الحياة مع الظالمين إلا برما" خالية من الاستقرار والراحة.
وبالاطلاع على واقع الأمة فإننا نجد الكثير من الشعوب والأقليات تعيش الامتهان في واقعها الاجتماعي والسياسي، فتارة تلتزم الصمت والركون إزاء ما تراه من سلب للحقوق والكرامات وتارة أخرى تضع يدها بيد المستبد لتبين طاعتها له كي تنال رضاه ظناً منها في رسم صورة تجعله يكرمها ويتفضل عليها ببعض الذي لها. فلا يجب أن يعطي الإنسان كرامته كـ"إعطاء الدليل" المنكسر الذي لا يقوى على قول كلمة حق وهو قادر على ذلك ولا أن يقر "إقرار العبيد" لمالكيها فيؤدون ما يطلب منهم دون مناقشة أو رفض.
لقد استخدم الإمام الحسين أسلوب النصح والإرشاد والخوف على مصير أعداءه من المجهول بمختلف الأساليب الخطابية والكلامية، إلا أنهم لم يألفوا هذا المعنى ولم يريدوا الهداية لأنفسهم، ليبقوا في حالة من العناد التي تستلزم خطاباً آخر. والمتأمل في تلك الكلمات يجد مدى قوتها النارية عند اقتراب ساعة الصفر.
فكانت تلك الكلمات إشارة إلى أن الإمام قد باع الدنيا وما فيها ولم يأبه بأحد منهم، فخطابه في يوم العاشر من المحرم ووصفهم بـ" عبيد الأمة وشداد الأحزاب ونبذة الكتاب ومحرفي الكلم وعصبة الآثام ونفثة الشيطان ومطفئي السنن" دليل على انه لم يكن يقترف بهم وبرموزهم، فكان شديد اللهجة معهم ليفضحهم ويوضح أصلهم ويعرف بأوصافهم على مر الزمان. وقد دعا عليهم سلام الله عليه بالهلاك والشقاء الأبدي فسئل الله مخاطباً إياه: " اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تدر على وجه الأرض منهم أحدا ولا تغفر لهم أبدا" حتى يبين للأمة اللامنفعة من بقائهم، وأن جريرتهم لا تغتفر ومن يسير وفق منهاجهم فإنه منهم وحكمه حكمهم.
ومع عدم تكافؤ عوامل المواجهة في العدة والعدد والمبدأ، ظن الأعداء بأن خيولهم وعتادهم العسكري سيذهب بالإمام الحسين ويمحي ذكره للأبد ويعيش الطغاة في حالة من العيش الرغيد المستبد بالعباد.. إلا أن ذلك كان ويكون وسيبقى مستحيلاً و" وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلا ظهوراً ، وأمره إلاّ علوّاً" كما قالت السيدة زينب ويقول الإمام الصادق في زيارة جده الحسين : " وأشهد أنك نور الله الذي لم يُطفأ ولا يُطفأ أبداً، وأنك وجه الله الذي لم يَهلك ولا يُهلك أبدا".
من كل ذلك نعرف أن العامل الروحي والإيماني كان له أثراً بليغاً في إقدام الحسين ومن معه لنصرة الحق والتعريف بالحقيقة وتغيير الظرف المسيطر بالعنجهية وقلب الوقائع وتحريفها ليؤكد الله النصر الأبدي لكل من ينصره ويضحي لأجله.