الحقوق والحريات وعوامل التغيير
لعبت قضية عاشوراء وما حملته من أحداث جسام دوراً عظيماً في بزوغ حركات نضالية قارعت الظالمين منذ مقتل الإمام الحسين وحتى عصرنا الحاضر، فهناك من رفض الظلم قلبياً وهناك من دعا إلى مقارعته بالتضحية بالنفس والسلاح لأجل الخلاص.
فكثير من الأمم ترزح تحت وطأة الظلم وانتهاك حقوق الإنسان في بلدان تدّعي رفعها لشعار الحرية بكل صورها، ولم يكن الاستبداد وقرع الحريات والممارسات وليد اليوم، بل كان ممارسة سائدة في عصور الخلافة بمراحلها المختلفة إلى يومنا الحاضر، فهناك الاستبداد السياسي والفكري بغطاء ديني، وتحريم ومصادرة حق ممارسة الشعائر والمعتقدات بدافع أنها بدعة أو شرك أو أنها لم تكن من أثار السلف الصالح.
ولم تكن شعارات المطالبة بالحرية وتحطيم أغلال الظلم مرفوعة من قبل الشيعة فحسب وإنما كانت قيماً إنسانية لكل بني البشر حتى أصحاب الديانات الأخرى غير الإسلام.
ولولا جهود السابقين في إظهار المأساة بحجمها الواقعي (غير الكامل فيما وصلنا) وإيصالها وتوريثها للأجيال لما بقيت محتفظة بحرارتها على مر الزمن، ولم تحدث تلك الثورات والتغيرات ضد انتهاك حقوق الإنسان، ولم تكن موضوعات الطرح الحسيني تتجه نحو الجانب الاجتماعي والسياسي – في الغالب- حتى يقال أن خطاب الشحن السياسي هو من أحدث ذلك التغيير، بل بقيت في الجانب التاريخي والتركيز على صلب الحادثة التي أحدثت ثورات داخل الضمائر لأن ملحمة عاشوراء منظومة قيم وأهداف متكاملة.
فمن مظلومية الحسين استطاع المهاتما غاندي تحرير الهند من الاستعمار والإمبراطورية البريطانية التي أعلنت سحب آخر جندي لها عام 1947م عندما أعلن العصيان المدني ضد المستعمر ومقاطعته سياسياً واقتصادياً بتحركه المباشر والشخصي حتى قبل تحرك الشعب الهندي الذي انضم تحت لوائه في مثل تلك المقاطعات فيما بعد، فكان يقول:"على الهند إذا أرادت أن تنتصر أن تقتدي بالإمام الحسين" وفي مقولته الشهيرة: "تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأتنصر ".
فالمظلومية في منظور الحسين شيء مغاير للحالة الطبيعية التي يسكت المظلوم فيها عن حقه لضعف أو عدم قدرة للوصول إلى حقه واسترداده، بينما سيد الشهداء لم يكن كذلك بل انطلق من ظلم آل أمية للأمة وأخذ يقارع الظالمين مع اختلاف موازين القوى والدعم وفي هذا درس لكل المستضعفين بأن لا يسكتوا عن حق من حقوقهم ويشهروا سلاح المطالبة بالحقوق قبالة من يحجم عن إعطائهم نصيبهم من الحرية والعدالة. وهنا لا ينبغي أن ندعو لأن نكون مظلومين خير من ظالمين كما يقال ونقف مطأطئي الرؤؤس، فهذا الحسين بـ70 مناصراً ويزيدون استطاع أن يرسم نهجاً مطلبياً حقوقياً في كيفية المحاولة لكشف زيف الظالمين، ليس للحصول على الحق الشخصي وإنما للحفاظ على حقوق الآخرين وصيانتها من الضياع، فدين الله ومذهب أهل البيت اكتسب الحسين وقضيته وشهادته كرمز إسلامي وإنساني ضد أنواع الاضطهاد وصنوف الممارسات الظالمة.
وبعد أن انتصر غاندي وتحقق تحرير الهند من نير الاستعمار، هل استطاع تحقيق الإصلاح للمفاهيم والقيم كما عمل سيد الشهداء عندما وضع هدف الإصلاح أساساً لخروجه وثورته؟
إن الحسين سلام الله عليه وضع نصب أعين الأمة أنه لم يخرج لأجل جاه أو سلطة بل خرج " لطلب الإصلاح" وتحرير الناس وتوفير الحرية لهم برفعه البند الأساسي للإصلاح وهو الأمر بالمعروف بعدما عملت القيادة السياسية على إفساد معتقدات الناس ونشرت شتى أنواع الفسق والمجون وشراء الضمائر بالأموال، وهي سياسة تتكرر على مر الزمان واختلاف المكان.
فالحرية في مفهوم الحسين كانت حرية غير مؤطرة بدين أو عِرق وإنما كانت دعوة ورسالة لكافة المستعبدين لتفكيك أغلال العبودية للحاكم والخروج من ذُله إلى العيش بحياة كريمة، فقوله: "إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم" دلالة واضحة في عدم ربط الحرية بالدين وإكراه الناس للدخول في مذهب أو دين معين بل كان شعار الحرية شعاراً لكل الإنسانية رفعه سيد الأحرار في خطابه لأعدائه بغض النظر عن انتمائهم الديني.
ولكي يتحقق النصر في أي حركة تحررية في العالم فإنه لابد من وجود ركائز أساسية تقّومها وتعطيها نهجاً حركياً لكل من يسعى لاقتفاء آثارها، وهذا ما توافر في ثورة كربلاء.
فوجود القائد المرابط ذو الحنكة السياسية المتابع لأحوال الجمهور يعد عاملاً هاماً للتعرف على حجم التأييد والاختلاف وبالتالي نجاح التحرك أو فشله. فالتحرك الحسيني بعد وصول الظلم للحد الأقصى والرقص على أحكام الإسلام ومحوها واستعباد الحاكم للمحكومين المتمثل في يزيد صاحبها حصول تأييد شعبي للحسين ثم خذلان، وفي واقع الحال فإن هذا لوحده عذراً وسبباً كافياً لتراجع الثائر وتوقفه. ولكن" انطلاقاً من حرصه في الحفاظ على مفهومه الخاص للحرية، يتخذ القرار الصارم، رافضاً العبودية ومصّرحاً بمنتهى الوضوح... يجب الإذعان لله أكثر من الإذعان للحاكم، فإنه بهذا يقبل الموت على التخلي عن سؤال الحرية" (1).
كما أن وجود أنصار مرابطين يحملون لواء القضية ويخلصون لأجلها وبتضحية فريدة يعطي القيادة والحركة التغييرية درجة عالية من الإقدام والثبات. ونستدل من قول الإمام الحسين :"والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد" على ثباته والإيمان بمبادئه التي لا تغيرها الظروف والمصالح في إشارة لما ينبغي أن تكون عليه منزلة القائد وأنه موضع ثقة الجماهير، أما إذا افتقدت الأمة لقياداتها السياسية والدينية وضاعت حقوقها بيد العابثين والطامعين فإن على الأمة السلام.
وبتوافر العوامل السابقة تأتي الحاجة للخطة الإستراتيجية والإعلامية لمشروع المطالب، فينبغي العمل على بث رسالة الحق والحقيقة في كل مكان كما كان واضحاً من دعوات سيد الشهداء في القرى والأرياف التي يتوقف فيها الركب وهو في طريقه إلى كربلاء. وهنا يلزم الاستعانة بالوسائل الإعلامية الحديثة لإيصال صدى الحسين ليدوي بما يحمله من رسالة لنقلها عبر الوسائل المتعارف عليها حقوقياً وشعبياً للتعريف بكافة الحقوق والأنظمة التي تكفل حقوق المستضعفين المسلوبة منهم قهراً أو جهلا.
فعلى المسلمين وكافة المسلوبين تحليل كلمات الحسين الخالد ومواقفه الحقوقية والسياسية والإنسانية والعمل الجاد لنيل الحق المضيع والكرامة المسلوبة وتغيير المعادلات لضمان الحفاظ على الحقوق وبقائها حاضرة في أذهان المستحقين لها وإن لم يصلوا لنيلها.