فقه السلم والسلام.. عند الإمام الشيرازي أعلى الله مقامه
• الكتاب: السلم والسلام.
• الكاتب: السيد محمد الشيرازي.
• الناشر: دار العلوم، بيروت.
• سنة النشر: ط1، 1426هـ.
• الصفحات: 816 صفحة، قطع كبير.
تمهيد:
يُعد المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي «رحمه الله» (1928-2001م)، مرجعية متميزة بكل المقاييس؛ إذ صدر له في مجال التأليف ما يربو على (1260) كتاباً، ومن ضمنها موسوعته الفقهية التي جاءت في حدود (160) مجلداً، وهي أكبر موسوعة فقهية أٌلفت في تاريخ الإسلام، وبجهد فردي!! لذا لم يكن الدكتور «أسعد علي»، مبالغاً عندما وصفه بسلطان المؤلفين، في الكلمة التي ألقاها بمناسبة الذكرى الأولى لرحيله، وهو -أي الإمام الشيرازي- إضافة لمؤلفاته التي جعلته في مقدمة الركب؛ كان راعٍ لمئات المؤسسات الإسلامية المنتشرة في مختلف أنحاء المعمورة، وعُرِف كأستاذٍ من أساتذة الحوزة العلمية؛ إذ تخرج على يديه العديد من الفقهاء والعلماء وأصحاب الفكر، الذين ساروا على نهجه وأصبحوا أعلاماً يُشار إليهم بالبنان.
ولعلَّ المتتبع للإصدارات المتتالية لسماحته، يلحظ عنايته الفائقة وتحسسه المستمرين للمشاكل والأزمات التي تواجه الأمة الإسلامية، فقبل أن تنتشر الصحون الفضائية في الدول العربية والإسلامية انتشار النار في الهشيم؛ بادر الإمام الشيرازي بكتابة كرَّاسه المُتعقل: «الأفلام المفسدة في الأقمار الصناعية: وقايةً وعلاجاً»، وعندما وقع بعض العرب اتفاقية الصلح بينهم وبين الكيان الصهيوني الغاصب في يوم: 20جمادى الأولى سنة 1415هـ، بادر سماحته في نفس اليوم بكتابة كرَّاسه المعنون بـ«هل سيبقى الصلح بين العرب وإسرائيل؟» وهو تبعاً لذلك راح يسطر الكتاب تلو الكتاب، والكرَّاس تلو الكرَّاس؛ ليسهم بكتاباته المتنوعة والغزيرة؛ للعمل على إنقاذ المسلمين من واقع البؤس والشقاء؛ وليقدَّم من خلال أطروحاته الواعية العلاج الملائم للمشاكل التي تعصف بالمجتمع الإسلامي.
وضمن الجهاد الفكري المتدفق للإمام الشيرازي، فقد أبصرت النور بعد رحيله مجوعة من الكتب الفقهية ضمن موسوعته الشهيرة، ومنها كتاب: «فقه العولمة.. دراسة إسلامية معاصرة»، وكتاب: «الفقه.. فلسفة التاريخ»، وكتاب: «الفقه.. الآداب الطبية»، كما صدر له مؤخراً كتاب قيِّم حمل عنوان: «السلم والسلام»، وفي هذه الورقة عرض لبعض أفكاره فيما يخص فقه السلم والسلام[1] .
ومن يتصفَّح الكتاب الماثل بين أيدينا يلحظ أن الإمام الشيرازي تميز عند تأسيسه لنظريته في السلم والسلام أنه ذهب بها؛ لتشمل مختلف جوانب الحياة، وبمعنى ثانٍ؛ فإن الإمام الشيرازي لم يُقصِر تنظيره حول فقه السلم والسلام، في المعنى بما يقابل الحرب، وإنما هو معنى واسع متشعب الأطراف، من مصاديقه «اللاعنف»[2] وفي مختلف الميادين السياسية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والعائلية والعسكرية وغيرها(ص30).
السلام في الإسلام:
يؤكد الإمام الشيرازي في تمهيده على أن كلمتي السلم والسلام في الإسلام؛ استعملتا -كتاباً وسنة- في موارد كثيرة، كما أن «السلام» من أسماء الله الحسنى، لأن الله -عزَّ وجلَّ- خالق السلم والسلام، ويضمن ذلك للناس بما شرعه من مبادئ، وبما رسمه من خطط ومناهج، وبمن بعثهم من أنبياء وأوصيائهم ، وبما أنزله من كتاب، فهو تعالى مصدر السلم والسلام، والخير والفضيلة... وخاتم الأنبياء محمد هو حامل راية السلم والسلام، لأنه يحمل إلى البشرية الهدى والنور، والخير والرشاد، والرحمة والرأفة، يقول تعالى: ﴿ وما أرسلناك إلاّ رحمة للعاملين ﴾[3] .
وبعد أن يستشهد الإمام الشيرازي ببعض الآيات والروايات في شأن السلم والسلام، يلفت أنظارنا بقوله: وكثرة تكرار لفظ السلام على هذا النحو، مع إحاطته بالجو الديني النفسي، من شأنه أن يوقظ الحواس جميعها، ويوجه الأفكار والأنظار إلى المبدأ السلمي العظيم(ص27). فالصلاة تنتهي بالسلام، كما أن الجنة دار السلام، إذ ﴿ لا يسمعون فيها لغواً، إلاّ سلاماً ﴾[4] .
دعوة الإسلام للسلام والمقارنة بين الديانات والحضارات:
يشير الإمام الشيرازي إلى أن الهدف الذي يتوخاه الإسلام ويسعى إليه، هو تهذيب الإنسان، وتمكينه من العيش في الدنيا والآخرة بأمن وسلام، وقد تحقق ذلك فترة حكومة القوانين الإسلامية التي طبقها الرسول ، والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، في حين «يتسم -حسب المؤلف- تاريخ الكثير من المبادئ وتعاليمها بالعنف والإرهاب. ولم تستطع تلك المبادئ بل والأديان السابقة من إنجاز هدف الإنسان وتهذيبه وتحقيق الأمن والسلام له، وذلك بسبب التحريف المقصود الذي طرأ على الكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل»(ص34).
وللتدليل على كلامه فقد نقل الإمام الشيرازي بعض النصوص المُحرَّفة في الديانتين: اليهودية والمسيحية، اكتفي بواحدٍ من الأولى وآخر من الثانية، يقول الشيرازي فيما نقله عن «الكتاب المقدس»: «كان داود يغزو البلاد فلا يبقي على رجل ولا امرأة، ويأخذ الغنم والبقر والحمير والجمال والثياب». وينقل ما ورد في: «بشارة متى» المتداول بين أيدي المسيحيين بعد أن طرأت عليه التحريفات المقصودة، وفيه: «لا تظنوا إني جئت لأحمل السلام إلى العالم، ما جئت لأحمل سلاماً، بل سيفاً...» (ص35-36).
ومقابل هذه النصوص المُتخمة بالعنف نجد أن الرسول الأكرم يهتف قائلاً: «إن الله بعثني هدى ورحمة للعالمين»(ص26). لذا «لم يعرف عن الإسلام أنه أعلن الحرب في العالم وهو في ذروة دعوته وانتشاره في أزهي عصور سيادته، إلا ما شرعه دفاعاً لدرء الخطر والذود عن النفس والعرض والمال والوطن عند الاعتداء على أحدها، من قبل المولعين بالعدوان، من أعداء الإسلام، أو حروب الدفاع عن المستضعفين الذين يرضخون تحت الظلم والعدوان، كما قال تعالى: ﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين ﴾[5] ... وهذا ما صرح به وبنزاهتها حتى بعض علماء الغرب الذين يتحرون الحقيقة ويقولونها(ص 56-57).
ونختم هذا المحور بذكر خلاصة -لما يطرحه الإمام الشيرازي- للعلاقة التي تربط بين المسلمين وغيرهم من المذاهب والملل في البلاد الإسلامية:
• أولاً: عدم إكراه أحد منهم على ترك دينه أو إكراهه على عقيدة معينة، يقول تعالى: ﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾[6] .
• ثانياً: من حق أهل الكتاب أن يمارسوا شعائر دينهم: فلا تهدم لهم كنسية، ولا يكسر لهم صليب، وقد ورد عن الإمام أبي عبد الله : «من كان يدين بدين قوم لزمته أحكامهم»، بل من حق زوجة المسلم «اليهودية أو النصرانية» أن تذهب إلى الكنيسة أو إلى المعبد حالها حال الزوجة المسلمة في ذهابها إلى المسجد.
• ثالثاً: ترك لهم الإسلام ما أباحه لهم دينهم من الطعام وغيره، ما دام ذلك جائزاً عندهم ولم يتظاهروا به في المجتمع الإسلامي.
• رابعاً: لهم الحرية في قضايا الزواج والطلاق والنفقة حسب دينهم، ولهم أن يتصرفوا كما يشاؤون فيها، دون أن توضع لهم قيود أو حدود إلا ما حدده الشرع الإسلامي مثلاً: إذا حصل تزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب.
• خامساً: حمى الإسلام كرامتهم، وصان حقوقهم، وجعل لهم الحرية في الجدل والمناقشة في حدود العقل المنطق، مع التزام الأدب والبعد عن الخشونة والعنف.
• سادساً: ساوى بينهم وبين المسلمين في القوانين العامة في البلاد.
• سابعاً: حكم الإسلام بطهارة أهل الكتاب وأحل طعامهم والتزوج بنسائهم، وجواز التعامل معهم.
• ثامناً: يحبذ الإسلام زيارتهم وعيادة مرضاهم، وتقديم الهدايا بهم، وقضاء حوائجهم، ويسمح بمبادلتهم البيع والشراء ونحو ذلك من المعاملات.
• تاسعاً: يحرض الإسلام على السعي لهدايتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن دون أي إكراه.
• عاشراً: منحهم الإسلام حرية الحوار والنقاش والمحاجة مع علماء المسلمين.
السلم والسلام في السياسة والحكم:
بعبارة واضحة يقول الإمام الشيرازي: ظاهرة العنف والإرهاب محرمة شرعاً، ومن مصاديقها القتل والغدر والاختطاف والتفجير والتخريب وما أشبه... وعن دلالات مصطلح الإرهاب يقول: وردت مادة «رهب» في القرآن الكريم وأريد به ما يكون سبباً للردع عن العنف والإرهاب لا مشجعاً له... فقالت الآية: ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ﴾[7] . «ومعنى ﴿ ترهبون ﴾ هنا هو ردع العدو بتلك القوة التي هيأت كي يمتنع من اتخاذ أي قرار في المهاجمة، وهذه وقاية لكي لا تقع الحروب ولا تنجر البشرية إلى العنف والإرهاب... ثم أن وسائل استخدام الردع كثيرة، ومن أهمها القوة السياسية والإعلامية والدولية والدبلوماسية... ويرى الإمام الشيرازي أن مصطلح الإرهاب الذي وضع للصد عن التعدي وهدر الحقوق حُرِّف إلى ما يعني العنف، فكثرة استخدام هذا المصطلح في وسائل الإعلام الغربية جعله وكأنه من وضع الغرب ومصطلحاته التي وضعها في قاموسه السياسي والعسكري... ويذكر أن هناك بعض الغموض في مصطلح الإرهاب اليوم، فكل يتهم الطرف الآخر بكونه إرهابياً، ويتساءل الإمام الشيرازي قائلاً: هل حركات التحرر من الأجنبي سواء كانت إسلامية أو وطنية أو غيرها تعتبر إرهابية؟ وهل جهاد الشعوب ضد الحكام الطغاة المستبدين أيضاً إرهاب؟... ويقول بمنتهى الصراحة: نعم قد تكون بعض الحركات والرجالات تسير في طريق العنف والإرهاب بالمعنى المصطلح وهؤلاء لا يمثلون الإسلام وهو بريء منهم، لأنهم خارجون عن سيرة الرسول الأعظم وسيرة أهل بيته الطاهرين وما نزل به القرآن الحكيم...(ص119-123).
وفيما يتعلق بأنواع الإرهاب، فقد تطرق الإمام الشيرازي لثلاثة منها على النحو الآتي:
1- إرهاب الدولة والأفراد.
2- الإرهاب السياسي.
3- الإرهاب الاستعماري.
أما عن العلاج فقد ذكر الكاتب وبشكلٍ مختصر رأي النظرية الإسلامية في زوال بعض أنواع الإرهاب وإحلال السلام محلها. فلأجل زوال الإرهاب المدني مثلاً: أشار الكاتب لوصايا إرشادية وأخلاقية، ودعا لإقامة القصاص والحدود من أجل إحلال السلام، مع ملاحظة أن تطبيق العقوبات في زمن الرسول كانت أقل من القليل! (ص 125-145). وأما مواجهة الإرهاب الاستعماري الإحتلالي، فتكون -حسب المؤلف- في إحدى حالتين:
• الأولى: إزالته بالطرق السليمة، ومن أمثلته الحاضرة استعمال حزب المؤتمر الهندي طرق السلم والسلام في مقابل المستعمرين.
• والثانية: مواجهة الإرهاب الاستعماري بالقوة... ولا تكون إلا في أقصى حالات الضرورة، على ما هو مذكور في كتاب الجهاد. «أما المواجهة الإرهابية بالاغتيال والغدر والخطف وسائر مصاديق العنف فهذا مما لا يجوز، ويوجب تشويه سمعة الإسلام والمسلمين والبعد عن الهدف. ومن هنا لا يصح دعم الجماعات الإرهابية بحجة التخلص من إرهاب الدولة أو إرهاب المستعمرين، بل يلزم اتخاذ الطرق السلمية على ما هو مقرر شرعاً»(ص149).
وفي نهاية هذا الفصل طرح الإمام الشيرازي جملة من المسائل الشرعية في السلم والسلام السياسي، نلمح لبعضها:
- سلم مع المعارضة: يلزم على الحكومة مراعاة السلم مع المعارضة، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم دينية، فلا يجوز مصادرة حرياتها من الإعلام والصحف والتجمعات وما أشبه.
- مع الأقليات: يلزم على الحكومة الإسلامية مراعاة قانون السلم والسلام مع الأقليات الدينية الموجودة في البلد.
- جماعات إرهابية: يحرم على الدولة الإسلامية تشجيع جماعات العنف والإرهاب ودعمها.
- تعدد الأحزاب: من مصاديق السلم واللاعنف، فتح المجال أمام الأحزاب الأخرى أي تعدد الأحزاب، وكذلك اجمعيات والمنظمات.
- مظاهر العنف: يلزم على الحكومة ترك مظاهر العنف حتى في الشعار، كالموت للدولة الكذائية! وما أشبه.
- مع المرتد الفطري والملي: ينبغي مراعاة السلم والسلام مع المرتد الفطري والملي.
وعليه، فلن نتمكن من احتواء حالات التطرف والإرهاب فضلاً عن استئصالهما؛ إلاّ إذا عملنا على توفير أجواء تنعم فيها مجتمعاتنا بحالات من الديمقراطية الحقيقة، التي تؤمِّن الحريات، وتحتضن مختلف ألوان الطيف، مع توفيرها فرص الحياة الكريمة لجميع أبناء الوطن، ليغذو الجميع سواسية كأسنان المشط! ولن يتأتَّى لنا ذلك إلاّ بعمل جادٍّ نغربل فيه مناهجنا التعليمية، ووسائل إعلامنا المتعددة من العفن والشوائب التي علقت بها من كل حدب وصوب، وإلاَّ فأمامنا الطوفان!
ولا يخفى أن الدول وفي الكثير من الأحيان هي التي تبدأ بغرس بذور العنف، لذا نراها أول من يتغذى من هذه الثمار! ففي ظل استبدادها بالسلطة، واتباعها لسياسة الإقصاء، وانشغالها بإلغاء الآخر؛ فإنها تهيأ الأجواء لتراكم السحب السوداء المليئة، بما من شأن هذا الفساد أن يهلك الحرث والنسل. وبطبيعة الحال، فإن لم تصغِ الحكومات لمطالب شعوبها المقهورة؛ فإن ولوجها في طريق السلم سيصبح أمراً متعسراً بعيد النوال.
«وعلى هذا -والتعبير للمؤلف- فالغالب أن إرهاب الضعفاء يكون رد فعل الأقوياء، وكثير من الإرهاب هو نتيجة الظلم والطغيان، ومن هنا ينبغي حل مشكلة الإرهاب والعنف حلاً جذرياً، وذلك بتطبيق قوانين الإسلام من الحرية والتعددية والشورى والأخوة وما أشبه»(ص125).
السلم والسلام في الاقتصاد:
رغم أن المواضيع التي تبحث في مجال الاقتصاد واضحة، مثل الأمور المتعلقة بالعمل والإنتاج والتوزيع وغيرها؛ إلا أننا نجد أن الإمام الشيرازي يخصص فصلاً مطولاً ليناقش فيه موضوع: «السلم والسلام الاقتصادي»، ويتساءل في مقدمته: هل هناك تطرفاً وإرهاباً اقتصادياً؟
ويؤكد في مكان آخر، أن الارهاب الاقتصادي يمثله الغرب والدول الاستعمارية ضد دول العالم وخصوصاً الإسلامية منها، ومن مصاديقه التي يطرحها المؤلف: التجسس الذي تقوم به الدول الاستعمارية على ثروات الشعوب المسلمة من أجل نهبها واستغلالها واحتكارها والسيطرة عليها، وعى معاملاتها التجارية، وذلك من خلال وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت وغيره من الوسائل المتطورة.
ومنها: القيام بالأعمال السياسية التي يراد بها الإرهاب الاقتصادي، كحصار الشعوب المستضعفة والتحكم في ثرواتها ومنعها من استثمار خيرات بلادها، وكالقضاء على الشركات الكبيرة والمنع من تأسيسها أو استمرارها، وتخريب البنية التحتية للبلاد، والبرمجة الدقيقة لهجرة رأس المال إلى الغرب، وما أشبه هذه الأمور.
ومنها: ما عرف بمنظمة التجارة العالمية وهي مؤسسة وضعت من أجل خدمة الاستعمار الغربي والأمريكي وذلك لأجل السيطرة على الاقتصاد العالمي وجعله مسيراً من قبل دول محدودة، وهذه الأعمال وغيرها من النهب والسلب واحتكار الثروة -كما يرى الشيرازي- هي التي كانت سبباً في إيجاد أكثر من ألف مليون جائع في عالم اليوم، وموت مليون طفل بسبب عدم العناية الصحية في كل عام، وكذلك هي السبب في بث الرعب والقلق والخوف في النفوس(ص 161-166).
وفي ظل هذه الأزمة، يتغيا الإمام الشيرازي مقابلة هذا الارهاب والوقوف بوجهه ولكن ليس بإرهاب اقتصادي مضاد وإنما عبر مواجهته بالطرق السلمية، وعبر الرجوع إلى القوانين الفطرية التي وضعها الإسلام في المجال الاقتصادي.
وبتواضع الباحث الجاد يقول المؤلف: ولهذا اصطلح على موضوعات هذا الفصل بهذا العنوان: «السلم والسلام الاقتصادي» ولعله لم يستخدم -هذا المصطلح- كثيراً، وهو يتحدث عن بعض جوانب النظرية الاقتصادية بالمعنى الأعم في الإسلام التي تؤدي إلى السلام الاقتصادي(ص 166).
وأما المواضيع التي ناقشها المؤلف في هذا الفصل فهي أربعة:
1- دور التكافل الاجتماعي في تكامل السلام الاقتصادي.
2- ذم التطرف في جمع الأموال والثروة.
3- السلام والعدالة في حقوق الملكية الفردية.
4- نظرة الإسلام الاقتصادية في القضاء على الفقر.
فعندما يدَّعي الإمام الشيرازي -مثلاً- بأن التكافل بين الفرد وأسرته من أسس السلم والسلام في نواة المجتمع، فإنه يبرر ذلك بقوله: «إن المجتمع يتكون من عشرات الأسر ومئاتها وآلافها، وكل أسرة نواة في هذا المجتمع، فإذا صلح حال التكافل الاجتماعي في الأسر صلح المجتمع، وإذا تدهورت الأسرة اقتصادياً وغيره ولم يصلح حال التكافل بينها تسقط قيمة تلك الأسرة، وبسقوطها تسقط قيمة المجتمع، فإن المجتمع المتكون من الأسر حاله حال البناء المتكون من الأحجار فإذا لم توضع الأحجار بالشكل الصحيح لا يعقل أن يكون البناء صحيحاً»(ص180).
ومن يتسنَ له تصفح الكتاب ستتضح له أهمية معالجة مسألة السلم والسلام الاقتصادي، بالكيفية التي سار عليها المؤلف، بعد أن يطَّلع على الطرح الجميل الذي قدمه الإمام الشيرازي من خلال طرحه المقارن بين قوانين الإسلام والقوانين الغربية والوضعية في الجنبة الاقتصادية. وكذا مزجه الرائع بين الآيات القرآنية والسنة الشريفة: التي تتجلى في السيرة العملية للرسول ، وأهل بيته الطاهرين ، واستدلالاته التي بيَّن من خلالها أساليبهم في تحقيق السلم والسلام الاقتصادي.
وقد كشف الإمام الشيرازي في هذا الفصل بصورة تحليلية عن دور مهم مارسه بعض الصحابة الكرام، الذين وقفوا بثبات لمحاربة كل أشكال الفقر والحرمان، ومختلف ألوان الطبقية، التي ساهمت في تعزيز عملية التوزيع المجحف لثروات الدولة الإسلامية، والتي أراد البعض صرفها لتصب في جيوب بعض القوم، ويُحرم منها آخرون!!
يقول الإمام الشيرازي: «أما في عهد أمير المؤمنين علي فلم تختلف سيرته عن نهج رسول الله وهذا هو واقع نظرية المساواة والعدالة في الإسلام، فقد قرر المساواة بين أفراد البشر أمام القانون، ولولاها لأنهار السلم والسلام، لأن الإنسان يطلب المساواة مع غيره أمام القانون، فإذا لم يعط ذلك اتخذ أسلوب العنف لتحصيله، فالمساواة هي القاعدة العامة إلا إذا كان العدل قائماً(ص187).
فالإمام الشيرازي يذُّم التطرف في جمع الأموال والثروة، كما يرى حرمة «أكل أموال الناس بالباطل، فإنه من مصاديق العنف»(ص148)، ولا يجيز «مصادرة أموال أحد فإنه من مصاديق العنف»، ولا يجيز «وضع القوانين التي تمنع أو تحد من حريات الناس كقانون الضرائب على الأعمال وعلى البناء وعلى السفر وعلى حيازة المباحات»، ويرى لزوم «نشر وبيان الأسلوب السلمي الاقتصادي في حكومة الرسول والإمام أمير المؤمنين (ص274).
السلم والسلام في باب الجهاد:
يرى الإمام الشيرازي -وبعبارة مكثفة- أن القاعدة الأولية في الإسلام هي السلم والسلام، والأصل هو اللاعنف، أما القتال والحرب فهي الاستثناء، ولا مسوغ للحرب في نظر الإسلام مهما كانت الظروف، وهو -أي الإسلام- لم يأذن بالحرب إلا دفعاً للعدوان، وحماية للدعوة والمستضعفين، ومنعاً لاضطهادهم، وكفالة لحرية الدين وهي من الحريات المشروعة لكل إنسان، فإنها حينئذ تكون فريضة من فرائض الدين، وواجباً من واجباته المقدسة ويطلق عليها اسم (الجهاد) مشروطة بشروط كثيرة والتي منها فتوى شورى المراجع، يقول تعالى: ﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير الصابرين ﴾[8] (ص 293-294).
فالإسلام -بتعبيره- كما أنه يؤكد على ضرورة السلم والسلام يرى ضرورة أن يكون المسلم قوياً غير ضعيف حتى لا يطمع فيه الأعداء، فتحقيق السلام لا بد له من وجود قوة كافية للحافظ عليه، لأنه لو لم يكن الحق مدعماً بالقوة، لما انتصر على القوى التي تدعم الباطل(ص 254).
ومن نافلة القول: إن الإمام الشيرازي -كما قررنا في دراسة سابقة- عندما يدعو لانتهاج سياسة السلم واللاعنف؛ فإنه في نفس الوقت يُحذِّر من الوقوع تحت مظلة الخنوع، هذه المظلة التي عملت على تشويه فكرة السلم وجعلتها قريبة من منطق الاستسلام؛ فالسلم واللاعنف استراتيجية تتخذ من موقع القوة، لا الضعف، كما يتصور البعض؛ فالرسول -كمثال يحتذى- استخدم أسلوب السلم قبل الهجرة وبعدها.. وجميعنا نردد مقولته الخالدة -عندما فتح مكة- وشعاره المذهل: (اذهبوا فأنتم الطلقاء!!).
وفي لفتة رائعة يقول: ثم هناك أمر هو من جملة المسائل التي تذكر في التربية الجهادية، بأن يعلم المقاتل أن قتاله الدفاعي لا بد وأن يكون في سبيل الله -عز وجل- ومن أجل إعلاء كلمته ولتثبيت دعائم دينه وأركانه، وفي هذا يكمن سائر الأسباب المشروعة.
لأن هناك قتالاً يأباه الإسلام، وهو القتال الذي يكون سببه المشاعر القومية والعرقية وما أشبه، أي يقاتل من اجل قوميته أو عشيرته أو أمته، كما قال قائلهم:
|
ولكيلا يكون حديثنا عن الجهاد في الإسلام حديثاً نظرياً، أقتبس لكم هذه الصورة التطبيقية من جهاد الإمام علي بن أبي طالب ، كما يصورها الإمام الشيرازي لنا، إذ يقول: «والحديث عن قصة الخوارج وكيفية تعامل أمير المؤمنين معهم، هو حديث السلم والسلام بأجلى صوره، فرغم خلافهم مع علي في صفين لم يقاتلهم في الكوفة، بل قال لهم: لكم ما للمسلمين من الفيء، فأخذ يعطيهم حقوقهم ويقسم لهم من بيت المال كسائر المسلمين، وفسح لهم المجال في ممارسة شعائرهم الدينية والعقائدية والسياسية بكل حرية، ولكنهم لما ارتكبوا جرائم القتل وشهروا السيف بوجه الناس، قاتلهم في النهروان(ص 293).
فالشواهد على حرص الإسلام في حقن الدماء في هذا المجال كثيرة جداً في التاريخ الإسلامي، ويكفي أن نعلم بأن الرسول إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يوصيهم فيقول: «سيروا بسم الله، وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً، ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً، إلا أن تضطروا إليها، وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه واستعينوا بالله»(ص 273).
وفي ظل هذه الظروف الحرجة التي يُتهم فيها الإسلام بأنه دين العنف والإرهاب نظل بحاجة لنشر تعاليمه الداعية إلى السلم والسلام، كما أننا بحاجة لتبيين حقيقة مهمة قد يغفل عنها بعض المسلمين، هذه الحقيقة -كما أتصور- تتجلى في فضح الممارسات القمعية والعنفية التي أُرتُكِبت في فترة من فترات التاريخ الإسلامي باسم الإسلام، وهو بريء منها، براءة الذئب من دم يوسف؛ لئلا نؤخذ بما فعل السفهاء منا!
فهل يعي حملة ألوية الجهاد هذه المعاني، لئلا يغرسوا في ذاكرة الآخر صورة سيئة ومشوهة عن الجهاد في الإسلام، كما هو حاصل الآن، في أكثر من مكان؟
السلم والسلام في العلاقات الإنسانية والروحية.. السلام الاجتماعي:
في هذا الفصل من الكتاب عالج الإمام الشيرازي ثلاثة محاور على النحو الآتي:
1- البعد الإنساني لمفهوم المساواة في السلام، وفيه: المساواة بين الجنس البشري، والمساواة بين الرجل والمرأة في الشرع الإسلامي، ونماذج من قانون المساواة في المجتمع الإسلامي، وموارد الاستثناء في قانون المساواة، كما ناقش بعض الشبهات ورد عليها فيما يرتبط بموضوع المساواة في الإسلام.
2- جملة من مصاديق السلام الاجتماعي، وفيه: التحية في الإسلام، والأخوة الإسلامية، وصلة الرحم، وحسن الصحبة والمعاشرة.
3- خصائص العلاقات الإنسانية في المجتمع الإسلامي، وفيه: صفات العلاقات الإنسانية في الإسلام، وأثر الأخلاق الإسلامية في دعم الروابط الاجتماعية، ومبادئ حقوق الإنسان في الإسلام.
وفيما يرتبط بفكرة المساواة يؤكد الإمام الشيرازي على أن الإسلام ميز الإنسان على سائر الخلق، ولكن بالنسبة إلى بني آدم فقد جعلهم سواسية وأنه لا تمييز عند الله إلا بالتقوى، أما التمييز العنصري فهو مرفوض في الإسلام على عكس ما نراه اليوم وما كان في الجاهلية الأولى(ص 300)، «فالإسلام -بتعبير المؤلف- يدعو إلى السلم والسلام حتى يكون هناك إخاء حقيقي بين الأبيض والأسود، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والشريف والوضيع، وحتى لا يكون هناك عدوان على الأرض، سواء من طائفة على طائفة، أو جنس على جنس، أو قطر على قطر، أو لون على لون، أو لغة على لغة، أو منطقة على منطقة»(ص 320).
وعندما يتطرق الإمام الشيرازي لـ«جملة من مصاديق السلم والسلام الاجتماعيين» يلمح إلى أن عملية التعارف بين الإنسان وأخيه الإنسان قد ابتدأت بالتحية وهي أول كلام يحصل في اللقاء وقد أراد الإسلام أن تكون نقطة الابتداء عنواناً للسلم والسلام، فكانت التحية: (السلام عليكم)... فلما خلق الله -سبحانه وتعالى- الخلق جعلهم أمماً وشعوباً، فقال تعالى: ﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ﴾[9] . فالخلق -والكلام للمؤلف- مأمورون بالتعارف فيما بينهم، ومن حكمة تصنيف البشرية إلى هذا التقسيم هو حصول التعارف بينهم وهو أمر غير عسير، فيبتدأ من الخلية الصغيرة وهي الأسرة، ثم ينتقل إلى دائرة أوسع وهي القبيلة، ثم إلى محيط جامع وهو المجتمع وهكذا، وبهذا تسهل عملية التعارف بين الأسر والقبائل والشعوب فيما بينها، ويستدل بالآية على لزوم تعارف الأمم والشعوب والقبائل كي يحصل التعاون والتواصل فيما بينها»(ص 345).
وفي تقسيم رائع لـ(مفهوم الأخوة في القرآن)، يقول الإمام الشيرازي إنه يمكن أن يشتمل ثلاثة أصناف، وهي:
• الأول: الأخوة في العقيدة.
• الثاني: الأخوة في النسب.
• الثالث: الأخوة الإنسانية.
وقصد المؤلف بالثالثة: أي الأخوة العامة، وهو الذي عبر عنه الإمام علي لمالك الأشتر: «أو نظير لك في الخلق»[10] ، أي أن الذي تجتمع معه في الإنسانية والخلق يعتبر أخاً لك، وربما يكون من هذا أيضاً ما جاء في بعض الآيات القرآنية التي سمت الكفار اخوة الأنبياء والأنبياء اخوة الكفار كما سمى الله سبحانه النبي هودا أخا قومه عاد: ﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف ﴾[11] ، و﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾[12] ، و﴿ إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون ﴾[13] ... وهذا الإخاء الوارد في هذا الصنف معناه لزوم العمل بمصاديق الأخوة العامة، فالإنسان أخ لبني نوعه مهما كان الفرق بينهما في الدين واللغة والعرق واللون والوطن(364-365).
السلم والسلام الإداري:
وفي هذا الفصل يضع الإمام الشيرازي جملة من المقومات والشروط التي من شأنها تحقيق السلم والسلام الإداري في كل مصاديقه بدءاً من إدارة العباد والبلاد «أي الحكومة» وانتهاء بإدارة مؤسسة صغيرة أو أسرة لا تتجاوز الزوجين. إذ يرى المؤلف إن الحب والاحترام المتبادل بين المدير والمدار، والمسؤول والمسؤول عليه، وبين الحاكم وشعبه هو من أسس السلم والسلام الإداري، فينبغي لكل مدير أن يقوم بما يوجب تثبيت هذه المحبة بينه وبين من يرتبط به في إدارته.
ومن المقومات التي يضعها الإمام الشيرازي، النقاط الآتية:
المعاملة الحسنة والحسنى، الاهتمام بالآخرين، التواضع الإداري، القول اللين، إعانة الغير، التبسم للناس، رفع المعنويات، العفو عن الخطئية، الحزم بعيداً عن العنف، النقد البناء، السؤال عن الفرد ومتاعبه، تفهم المسيء، عدم التدخل في صلاحيات الآخرين، لست على الحق دائماً، ضع نفسك مكانهم، لا تلق بأخطائك على الآخرين، تقسيم الأعمال، مكافأة الأفراد، تقبل النصح، لا تعاقب وأنت غاضب، لا تتبجح، لا للاستبداد، الحياد وعدم الانحياز، الاعتراف بالخطأ.
مباحث أخرى في الكتاب:
ولإيمان الإمام الشيرازي العميق بلزوم السعي في نشر مفهوم آيات السلم والسلام بين المجتمع وتطبيقها، وكذا الروايات الكثيرة الواردة في هذا المجال، فقد خصص لهما فصلين مستقلين في كتابه. كما خصص فصلاً مطولاً طرح فيه خمسون مصداقاً من: «مصاديق السلم واللاعنف»، بالمعنى الأعم، ومما جاء فيه: إكرام المرأة، الألفة، الرفق بالحيوان، حسن الجوار، حسن التعامل مع الأقليات، حب الآخرين...إلخ (ص541-687). وفعل نفس الأمر فيما يتعلق بفصل: «مصاديق العنف»، إذ تناول فيه خمسون مصداقاً، ومنها: أكل مال اليتيم، إيذاء الجار، الاستبداد، التعذيب، الغلظة والفضاضة، عقوق الوالدين، إيذاء الحيوان، العدوان...إلخ (ص688-814).
بمثابة خاتمة:
وأختتم هذه الإطلالة السريعة بين صفحات الكتاب للتأكيد على أن الإمام الشيرازي تجاوز في عمله هذا الكثير من الكتابات السطحية التي تناولت موضوع السلم بطريقة ساذجة، بعيدة عن التصور القرآني والديني للمسألة.
فالإمام الشيرازي -وكما اتضح لنا- لم ينطلق حين تأسيسه لنظريته في السلم والسلام من الفراغ، بل لم يشأ أن يستنسخ تجارب الآخرين من غير تعقلٍ، إنما أصَّل لأطروحته شرعاً وعقلاً، مستلهماً ذلك من الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، وسيرة أهل البيت ، إضافةً لقراءاته العميقة للتجارب التاريخية والمعاصرة. ومما يميز كتابات الإمام الشيرازي في هذا المبحث ويضفي عليها قيمة معرفية عالية؛ أنه دمجها ضمن مبحث «الفقه».
فالأصل في الإسلام السلم واللاعنف.. وهذا هو الطريق الذي انتهجه الأنبياء والأئمة ، وهي الرؤية التي تبناها الإمام الشيرازي منذ فترة مبكرة ضمن مشروعه النهضوي والجهادي، وعمل جاهداً من أجل بثها وترسيخها عبر العديد من كتاباته ومحاضراته العامة والخاصة؛ ليؤسس بذلك مدرسة رائدة في السلم والسلام.