لا لاحتقار النفس..وقفة عاشورائية
في هذا الزمن، أضحت عدم الثقة بالنفس سمة بارزة من سمات الكثير من أبناء هذه الأمة حتى أصبح من الممكن أن يطلق علينا "الأمة التي تحتقر نفسها"! ففي كل زاوية ومجال ترى انعدام ثقتنا بقدراتنا وطاقاتنا وما يمكن لنا أن نصنع وما نمتلكه من تأثير كأشخاص أو كمجموعات أو كأمة. هذه الصفة تشلنا وتجعلنا غير قادرين على حل مشاكلنا الكثيرة والكبيرة والخروج من حالة التخلف كأمة والمضي قدما في حياتنا الشخصية. قد تكون بعض الظروف السلبية التي مرت بها الأمة –ولا تزال- قد أسهمت بعض الشيء في تكوّن هذا الشعور بعدم الثقة، ولكن هذا لا يبرر انغماس الأمة وأبنائها في حالة اليأس والإحباط هذه لأن هذه الحالة لا تنتج إلا المزيد من إهدار الطاقات وتضييع الفرص والتأخر في كافة المجالات.
في وسط هذه الأجواء المعتمة، تأتي أيام عاشوراء بشعاعها وضيائها فتبعث الأمل والثقة في نفوس المتعرضين لأنوارها والمتفكرين في دروسها وعظاتها، فكربلاء تحطم جميع القيود وتنسف كل الحواجز وتزيل أسباب الاستهانة بقيمة أي فرد أو مجموعة وما يمكن لهما أن يصنعا. كربلاء تطلق للإنسان العنان ليحلق في آفاق إصلاح النفس، والإصلاح الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، وكل ما من شأنه التطوير في الحياة الدنيا والرقي في درجات الآخرة، وتزوده بطاقة مذهلة وثقة فريدة وإصرار عجيب على التغلب على كل العقبات والعراقيل مهما كبر حجمها وعلا شأنها.
فدعونا هنا نتوقف في لفتات سريعة لبعض مشاهد النهضة الحسينية المباركة وكيف تعامل أبطالها مع بعض ما نعتبرها أسبابا لضعف الثقة بالنفس وفقدان الأمل في القدرة على التغيير والإنجاز، لعلّها تعطينا بعض الاندفاع لتغيير واقعنا:
• العجز وانسداد الأفق: رغم غياب المؤشرات التي قد تبعث على التفاؤل، ورغم جريان الأحداث في صحراء معزولة تماما عن العالم - ليس بسبب كونها صحراء نائية فقط بل وبسبب الحصار القاسي الذي فرضته جيوش السلطة أيضا-، إلا أن من كانوا في معسكر الحسين من شباب وشيوخ ونساء وأطفال لم يصبهم اليأس من نجاح هذه النهضة التي صمدت أمام هذا التعتيم الشديد والآلاف المؤلفة من الجنود المدججين بالسلاح. وبالفعل، لقد غيرت نهضتهم مجرى التاريخ الإسلامي برمته فيما بعد.
كذلك يجب أن نكون نحن، فمهما تصورنا أننا عاجزون أو أن جميع الأبواب قد تغلقت في وجوهنا، فإننا قادرون على إحداث تغيير مَّا إذا تحركنا على الأرض وامتلكنا الثقة في ما يمكن لنا إنجازه.
• الماضي السيء والمخزي (للأمة أو الفرد): يعتبر البعض أنه لا طائل من المحاولة ما دام تاريخه غير مشجع فتراه يتغنى بالمثل المعروف: "اتسع الرقع على الراقع"، وكذلك أصيب الكثير من أبناء الأمة –ومنهم بعض المثقفين والقادة- بخيبة الأمل نظرا لتخلف الأمة في مختلف الأصعدة لفترة ليست بقصيرة من الزمن وتبلورت لديهم قناعة مفادها أنه لا فائدة من إجهاد النفس في محاولة إنهاض الأمة لأنها ستبقى متخلفة!
هنا تبرز نجوم لامعة من نجوم عاشوراء لم يثنها ماضيها السيء عن تصحيح المسار والوصول للقمة، فهذا زهير بن القين الذي كان عثمانيا(1) مخالفاً لأهل البيت وكان يكره حتى أن يلتقي مع الحسين ولكنه حسم موقفه واتخذ قراره الشجاع وأصبح من أصحاب الحسين العظام، وهذا الحر بن يزيد الرياحي الذي قاد جيشا سد الطريق على سيد شباب أهل الجنة وجعجع به وروّع حريمه ومنعه من الوصول للكوفة وتسبب في محاصرته في كربلاء ولكنه بعد ذلك أبى إلا أن يكون أول المستشهدين من أصحاب أبي عبد الله، وكذلك الكثير من جنود الجيش الأموي الذين انقلبوا إلى معسكر سبط رسول الله واستشهدوا بين يديه. نستلهم من كل ذلك أنه مهما كان ماضي الإنسان سيئا فإنه لا يزال يتمكن أن يكون من أعظم الناس -وليس إنسانا صالحا فحسب- في وقت قياسي إذا عقد العزم على ذلك.
• ضعف القدرات: لا يمتلك جميع الناس القدرات والإمكانيات العالية التي تؤهلهم للقيام بأدوار مؤثرة وتغييرات إيجابية سواء كانت هذه التغييرات شخصية أو عامة، فهل يمكن لهؤلاء أن يغيروا شيئا في واقعهم؟
للإجابة على هذا السؤال، نرجع مرة أخرى إلى مدرسة عاشوراء لنجد ضمن أبطالها العبد جون الذي لم يتذرع بعبوديته وضعف مكانته الاجتماعية والاقتصادية وقلة تأثيره، بل شارك وبكل إصرار وحرية في هذه الثورة المقدسة. ونجد كذلك طوعة المرأة الضعيفة المبتلاة بابنها العاق لم تتذرع بعدم وجود ما تقدمه، بل آوت وأكرمت سفير الحسين مسلم ابن عقيل المطلوب الأول للسلطات في الكوفة وخاطرت بنفسها عبر هذا الصنيع ولم تكتف بذلك بل أعانت مسلم في قتاله مع القوم عبر تشجيعه والشد من أزره وتوبيخها الشديد لهم ولمن أعانهم من أهل الكوفة. وعلى نفس الطريق سار عبد الله بن عفيف الأزدي الرجل الفاقد للبصر إثر جراحاته في معركتي الجمل وصفين والذي لم يتوانى عن نصرة أهل بيت رسول الله بلسانه عندما سمع ابن زياد يشتم عليا والحسين ومن ثم نصرهم بسيفه –رغم ضعفه وعجزه- عندما جاء القوم لمنزله فجاهدهم حتى استشهد رضوان الله تعالى عليه.
ولا ننسى دور السبايا، فرغم قيودهم القاسية والثقيلة إلا أن مواقفهم وخطاباتهم حطمت قيود العدو وسفهَّت أحلامه وهزت عروشه وزرعت روح الثورة ضد الظلم في الأمة وخلدت ثورة عاشوراء في التاريخ.
فهل كان كل هؤلاء من أصحاب القدرات والإمكانيات أم كانوا في أصعب الظروف وأضعف القدرات؟
هل وقفوا عاجزين أم قدموا ما كانوا يستطيعون تقديمه وبذلوا ما أمكنهم فنجحوا وخلدهم التاريخ ضمن أبطاله العظام؟
ولنا -أيضا- في المقيمين لشعائر عاشوراء عظة وعبرة، فهم يقيمون هذه الشعائر في أحلك الظروف وأقساها، فترى هذه الشعائر مقامة في البلاد ذات التيارات الفكرية المتناقضة، وتقام رغم سياط الجلادين في بلاد أخرى، كما تقام خفية في نواحٍ أخرى، وتسير مواكبها تحت القصف والتفجير وفوق العبوات الناسفة في بعض البلدان، وتراها مع كل ذلك يشتد توهجها من عام لآخر ويتناهى إبداع مقيميها لتجذب جميع الأجيال وتلبي متطلبات العصر.
وبذلك تظل عاشوراء مصنعا للثقة بالنفس والقدرات والأمل بالله -عز وجل-، فهي تكسب الإنسان جرعة منشطة للعمل الدؤوب في طريق النهوض بنفسه وعالمه. فحري بنا ونحن نعيش هذه الأجواء القدسية أن نشحذ هممنا ونثق بقدراتنا وبما يمكن لها أن تقدم، وأن ننبذ فكرة عدم القدرة على التأثير في أنفسنا وفي من حولنا وفي أمتنا، وأن نتخلى عن الوهم والتخاذل والكسل.
18/12/1430هـ