هكذا تفقد عاشوراء قيمتها
عندما يمتلك البعض درة ويعاملها كحجر فهو خاسر، وعندما يمتلك حجرا ويعامله كدرة فهو واهم، وعندما ينبهر بما في أيدي الغير من الحجارة فهو أحمق، ولكنه عندما يدرك أن لديه درة ويتعامل معها كدرة فهو رابح، وعندما يفيد غيره من هذه الدرة يكون مفيدا ومستفيدا.
كذلك هي حالنا مع القيم والمفاهيم الإنسانية، فعندما تكون لدينا قيم راقية ولا ندرك قدرها أو نقصّر في صيانتها نكون من الخاسرين، ولا نخسر نحن فقط بل نحرم البشرية من هذه القيم لأنها لا تصل لغيرنا إن لم نهتم نحن بها، إلا إذا تلقفها الآخرون بجهودهم الخاصة. قد نفعل ذلك ببعض قيمنا بينما تجدنا نلهث خلف بعض القيم السرابية والواهية التي نتلقاها من غيرنا دون وعي وتعقل(1).
مؤخرا بدأنا نفرّط في قيم كربلاء والنهضة الحسينية بالدخول ضمن هذه الدائرة. بدأنا بالابتعاد عن هذه النهضة التي تتضمن قيما خلابة تأسر عقول البشر بمختلف توجهاتهم وأصنافهم.
عاشوراء تبث نداء الحرية عبر التاريخ الممتد، وتذكرنا بمبدئية الإنسان الذي لا يتراجع عن مبدئه السامي مهما اشتدت الظروف، وتربينا على نبذ العنف كما نبذه الحسين قولا وعملا وسعى لتجنب القتال ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ونشم في أجوائها رائحة العزة والكرامة، ونرى فيها بريق الأمل، ولون المساواة حينما ساوى المولى الحسين بين ابنه الأكبر وعبده جون، ونتلمس قيمة الإنسان مهما قل شأنه وقدره بين الناس، ونستشعر أجواء توحد البشرية خلف القائد الرباني حيث اجتمع تحت ظلال مخيم الحسين نفر من الشيعة وأهل العامة(أتباع الخلفاء) والعثمانيين، بل وحتى المسيحيين وبعض من أتوا مع جيوش بني أمية لحربه بأبي هو وأمي.
أي إنسان لا تستهويه هذه القيم وتستولي على قلبه ولبه؟ لو ظهرت هذه القيم الحسينية للعالم بصورتها النقية لانقلب العالم بأسره حسينيا كربلائيا، لأن هذه القيم يقدرها جميع البشر إلا من كان في قلبه مرض.
إننا عندما نختزل موسم عاشوراء الحسين في الجدل العقيم والمهاترات ويكون شغلنا الشاغل هو إثارة القضايا الخلافية بين أتباع الفرق والمذاهب المختلفة أو القضايا المختلف فيها داخل المذهب – كالتطبير وولاية الفقيه وغيرها من القضايا الحساسة-، فإننا نحرم العالم من شعاع القضية الحسينية المبدد لظلمات اليأس ومآسي الظلم والعدوان والطغيان وانتهاك الحقوق والدوس على الكرامة الإنسانية. أليس الأجدر بنا أن نصرف طاقاتنا وأوقاتنا ونمارس الضغوطات في سبيل حل هذه المآسي بدل الجدل والشقاق؟
بلا شك، إن بحث القضايا الخلافية له أهميته وله محله وأهله، ولكن أن تطغى هذه الأجواء على أجواء الموسم الحسيني وتترك الساحة لعوام الناس ليثيروا الضوضاء التي قد تستمر حتى بعد انتهاء أيام العزاء –كما حدث في العامين الماضيين-، فهذا يؤدي إلى تحجيم هذا الموسم العظيم وهذه القضية الكبرى الحبلى بالقيم الإنسانية السامية والمتجاوزة لجميع الحدود والأسوار. إن عاشوراء هي أكبر من أي مسألة خلافية، وهي أجل وأرقى من أن نحصرها في حدث تاريخي و"تقاليد اجتماعية" أو كما يسميها البعض "كرنفالات سنوية"، فهي قيم و"شعائر" نابضة بالحياة والمعاني الجليلة والأنوار التي تهدي البشر وتقودهم لخيرهم وصلاحهم.
أكثر العلماء والخطباء واعون لهذه القضية -ولله الحمد-، ولكن اقتضى التنويه لتنبيه من يثير هذه الطروحات منهم أو من أدعياء الثقافة أو من عوام الناس الذين قد يقعون في هذا الفخ الذي يشغلنا بالكامل بالقضايا الخلافية عن إيصال نور عاشوراء للعالم بينما نحسب أننا نحمي عاشوراء بهذه الطريقة.
نحن مسؤولون جميعا أن نصون هذا الكنز الضخم من الضياع. هذه المسؤولية تقع على عاتقنا جميعا وليس على الخطباء والعلماء فقط، فمن يثير هذا الطرح مسؤول ومن يصغي له ويتفاعل معه فهو مسؤول أيضا، والمثقف مسؤول والناشط مسؤول والمستمع والجمهور مسؤول لأنه يمتلك صوته وتأثيره وعليه أن يوصل صوته ليؤثر، وكذلك الأب والأم فهما مسؤولان أن يوصلا هذه القضية إلى الأجيال القادمة.
أتمنى أن يبتعد الجميع عن حصر قضية عاشوراء بالقضايا الخلافية، فهذا مما قد يحجب نور عاشوراء - ولو مؤقتا وعن بعض الناس، فنور الحسين لا يحجب لأنه من نور الله-عز وجل- الذي وعد قائلا: "وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ"-(2). نعم، لن يخفت هذا النور ولن ينقطع هذا الشعاع الذي تكفل الله –سبحانه وتعالى- ببقائه وإن قصرنا في صيانته ولم نكن أهلا لذلك، فقد نبهنا عز من قائل: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ"(3)، وهذا لا يعفينا من مسؤوليتنا ولا يبرر تقصيرنا ولا ينقذ من صُـدَّ عن نور الحسين وسقط في ظلمات الجهالة والضلالة سواء في داخل مجتمعنا أو في المجتمعات الأخرى.