الهفوف: العلامة الياسين «كيف تكون الشياطين مغلولة؟!»

القى سماحة العلامة الشيخ عبد الله بن صالح الياسين حفظه الله خطبة في مسجد الإمام المهدي بالهفوف يوم الجمعة 3 رمضان 1426هـ الموافق 7 أكتوبر 2005م بعنوان «كيف تكون الشياطين مغلولة؟!».
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين
سنتحدث في هذا اليوم عن مقطع من خطبة الرسول الأكرم التي تلوناها على مسامعكم في الأسبوع الماضي وتناولناها بشيء من التعليق، والمقطع الذي سيدور حديثنا اليوم حوله هو قوله
: «والشياطين مغلولة فسلوا ربكم أن لا يسلّطها عليكم»[1] ، سنتعرض في البداية ولو بشكل إجمالي إلى ذكر الشيطان في القرآن الكريم.
الشيطان الرجيم في القرآن الكريم:
القرآن الكريم ذكر الشيطان أعاذنا الله وإياكم منه على أنه حقيقة قائمة وله وجود يتحرك فيه بين الناس، وأنه العدو المبين للناس كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾[2] ، وقال تعالى أيضا: ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾[3] ، فالعداء صفة ذاتية للشيطان، والعداوة دائمة بالنسبة للإنسان، وطبيعة العداوة الإيقاع بالعدو في مسالك المهالك، ومزالق الانحراف عن الصراط المستقيم الذي رسمه الله لعباده. والشيطان الرجيم يستخدم شتّى الطرق والوسائل لهذه المهمّة، فالإغراء والكذب على الله هو أحد الطرق التي يستخدمها لإضلال الإنسان، كما فعل لأبينا آدم وحواء ، فقد قال تعالى: ﴿ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾[4] ومن الوسائل والطرق التي بها يُقع الإنسان في الذنب والمعصية الوعود الكاذبة، والأماني الخادعة، كما نبّه على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾[5] ، وكقوله تعالى أيضا: ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾[6] كذلك خُلف الوعد هو طريق آخر ووسيلة أخرى لصدّ الإنسان عن طريق الصلاح والخير، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[7] أيضا تزيين الأعمال السيئة وتحسينها في نظر الآخرين من الوسائل التي يقوم بها الشيطان لجذب الناس إليها، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾[8] كذلك من الطرق التي ستخدمها الشيطان إحداث النسيان لذكر الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الصدد قال تعالى: ﴿ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾[9] كذلك من الأساليب الشيطانية التي ينتهجها الشيطان الرجيم الحث على الإسراف والتبذير، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ﴾[10] سَوْق الناس إلى العذاب وغضب الله، كما قال سبحانه وتعالى:﴿ َمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾[11] .
مهمة الشيطان الرجيم الوسوسة فقط:
إن المهمة التي يقوم بها الشيطان والتي لا يمكن أن يتعدى على الإنسان بشيء آخر غيرها هي الوسوسة والصراخ والنداء على الآخرين بإتباعه وإطاعته، فلا يظن البعض أن الشيطان خارج عن إرادة الله التكوينية، وأنه واقف في وسط الطريق الذي يريد الإنسان أن يسلكه للوصول إلى الله فيمنعه عن ذلك. بينما الله سبحانه وتعالى يريد الخير للإنسان والوصول إلى مرضاته، وبذلك يكون هناك تحدي من قبل الشيطان، فالشيطان يريد شيئا والله يريد شيئا آخرا، حتما ليس الأمر كذلك، بل إن الشيطان مهمته هي الوسوسة والوقوف على قارعة الطريق وليس وسطه، ووظيفته فقط الصراخ والصياح لدعوة الآخرين إليه، فالذي يدرك هذا النباح وهذه الوسوسة لا يعتني بذلك، ولا يلتفت إلى الشيطان، وبذلك يصل إلى مقصوده ومبتغاه ومراده، أما الذي لا ينتبه ولا يعرف كيد الشيطان فسيقع في حبائله، ويحوّل الشيطان حينئذ عواءه ونباحه إلى نهش وتسلط، ويكون الإنسان في شراك الشيطان والعياذ بالله.
فبالوسوسة الشيطانية والنفس الأمارة بالسوء وتزيين المعصية يكون الإنسان في معرض الجهاد والمواجهة مع النفس والشيطان والدعوات الباطلة، فإذا ما انتصر على الشيطان والنفس فسيكون بذلك في مقام رفيع ومنزلة عظيمة ومرتبة كبيرة عند الله سبحانه وتعالى، إذ أنه قد اجتاز الاختبار والامتحان الإلهي بذلك، وعرف من خلال ذلك مقدرته ومدى شجاعته في هذا الميدان، فلولا هذه الوسوسة لما وصل إلى ذلك، ولما عُرف الشجاع من غيره، ولما عُرف الصالح من الطالح، ولا معنى حينئذ للتكليف بالأوامر والنواهي، لأنه بذلك يكون الجميع طائعا لله تعالى، بخلاف ما إذا وُجدت هذه الوسوسة والنفس الأمارة بالسوء، فبهذا المعنى تكون الوسوسة نعمة إلهية للوصول إلى المقامات الربانية.
فالإنسان يلزم عليه أن يطلب المدد والعون من الله تعالى في هذه المعركة الضارية والحرب الضروس لتحقيق الانتصار فيها، وهذا المعنى قد أوضحه الإمام زين العابدين في مناجاته التي يقول فيها: «إلهي إليك أشكو نفسا بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الامل، إن مسها الشر تجزع، وإن مسها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة وتسوفني بالتوبة. إلهي أشكو إليك عدوا يضلني، وشيطانا يغويني، قد ملا بالوسواس صدري، وأحاطت هواجسه بقلبي، يعاضد لي الهوى، ويزين لي حب الدنيا، ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى. إلهي إليك أشكو قلبا قاسيا، مع الوسواس متقلبا، وبالرين والطبع متلبسا، وعينا عن البكاء من خوفك جامدة، وإلى ما يسرها طامحة. إلهي لا حول ولا قوة إلا بقدرتك، ولا نجاة لي من مكاره الدنيا إلا بعصمتك. فأسألك ببلاغة حكمتك، ونفاذ مشيتك، أن لا تجعلني لغير جودك متعرضا، ولا تصيرني للفتن غرضا، وكن لي على الأعداء ناصرا، وعلى المخازي والعيوب ساترا، ومن البلايا واقيا، وعن المعاصي عاصما، برأفتك ورحمتك يا أرحم الراحمين.»[12]
الخواطر النفسانية مداخل الشيطان:
الشيطان ومن خلال تلك المداخل الشيطانية يحاول أن ينفذ إلى قلب الإنسان، والشيطان يأتي للإنسان من خلال هذه المنافذ كلٌّ بحسبه، فتصبح تلك الخواطر آلة بيد الشيطان وبواسطتها يكون الشيطان مسلّط على الإنسان، فما على الإنسان إلا أن يكون حارسا لبوابة قلبه، لأن الإنسان اليقض والمتنبّه وغير الغافل عن ذكر الله عز وجل لا يمكن أن يتسلل الشيطان إلى قلبه، قال الرسول الأكرم : «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس، وإن نسي التقم قلبه»[13]
الصوم عن الأكل والشرب، أي أن الجوع يسد تلك القنوات التي من خلالها يدخل الشيطان الرجيم إلى قلب الإنسان، لأن الصوم عامل مهم لتقوية الإرادة، فالصائم الممتنع عن المحرمات لديه إرادة قوية أمام وسواس الشيطان، ففي شهر الصيام تُسد جميع منافذ الشيطان، وبذلك تكون الشياطين مغلولة، كما قال الرسول الأكرم : «والشياطين مغلولة فسلوا ربكم أن لا يسلّطها عليكم»، وقال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾[14] فإذن: الإنسان المؤمن الملتزم في هذا الشهر المبارك يكون الشيطان بعيدا عنه، ومغلول عن الوسوسة له، وفي المقابل يكون الشيطان مسلطا ومسيطرا على غير المؤمن، والذي يكون فاتحا تلك المنافذ والمداخل ليدخل الشيطان من خلالها.
فالشياطين مغلولة نسأل من الله تبارك وتعالى أن لا يسلطها علينا من خلال إعطائها الفرصة للدخول إلى قلوبنا، كما نسأل منه سبحانه وتعالى العون والمدد والنصرة لكي نتغلب عليها، ونسأل منه أيضا أن يوفقنا ويعيننا لصيام هذا الشهر المبارك وقيامه، وإحياء لياليه وأيامه بالطاعة والعبادة، أن يتقبّل أعمالنا، إنه سميع مجيب الدعاء.
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين المنتجبين وسلم تسليما كثيرا.