من هدي الخطاب الحسيني - قراءة في حركة الأهداف

اقرأ للكاتب أيضاً


لكل حركة هدفاً تقصده وإن لم تبح به وتعلنه إلى الناس ، وكل حركة لا تحدد لها هدفاً فهي ستكون خارج دائرة الانتظام ، وتسير في اتجاه الفوضى والعبث ، وتحديد الهدف أو مجموعة الأهداف ليس كافياً ، فهنالك مناهج يسلكها العاملون بشكل عام للتعامل مع أهدافهم ، فقد أصبح من البديهي أن يحدد العقلاء أهدافاً لحركتهم ، إلا أن الالتباس يقع في طريقة التعامل مع المجتمع بشأن الأهداف الحقيقية ، وبكلمة أخرى فإن موضع البحث هو في حركة الأهداف المحدّدة سلفاً في الساحة المجتمعية.

فما هو الأسلوب الأمثل في تحريك الأهداف في الساحة المجتمعية من قبل المتصدين؟ .. إن أول ما يعترضنا هو ما ينبغي أن نذكره كمقدمة أوليّة ، وهو تحديد الهدف الأساس الذي تدور حوله الحركة وجوداً وعدماً ، أي أنه بزوال ذلك الهدف تنتفي الحركة ويحل السكون، ومع وجود مبرراته تتحرك الأفعال ، فإن البعض قد لا يلتفت إلى هذه الحقيقة الهامّة ، فتراه يسير على أي حال وإن تبدّلت الظروف والمقتضيات والدواعي ، أو قد يقوم البعض بحركة عكسية من ذلك فيقوم بالتنازل والتوقف حتى مع وجود المبررات التي وضعوها لإنفسهم كأهداف ومقاصد ينشدونها ، فتضيع البوصلة من الحركة برمّتها ، كل ذلك نتيجة عدم التفريق بين ما هو أساس وما هو فرع في الأهداف والأسباب.

في المسيرة الحسينية يجد القارئ أن هنالك مجموعة أسباب دعت الإمام الحسين للقيام بالثورة ، وتلك الأسباب هي التي رسمت الأهداف في نهاية المطاف ، إلا أنه ليس كل ما ذكره الإمام يعتبر سبباً رئيساً وباعثاً على النهوض ، بل هناك أهداف رئيسية حاكمة وموجِّهة لبقية الأهداف الفرعية ، فمثلاً دعوة أهل الكوفة إلى الإمام (أن أقدم إلينا..) بكتبهم الكثيرة التي أرسلوها للإمام ، لم تكن من ضمن الباعث الرئيسي للحركة ، وكذلك رفض مبايعة يزيد والتخلّص منها، ليست هي السبب الرئيسي لقيام الإمام ، بل كانت هنالك أمور أهم من كل ذلك وأسباب مثّلت الأهداف الكبرى للمسيرة ، فلذلك فإن انتفاء ذينك الأمرين لم يثن الإمام عن مسيره ، كما أشار إلى ذلك بعض المحققين من أن الإمام قد تلقّى مجموعة من النصائح والمشورات لكي يتخلّص من بيعة يزيد ، كالتي ذكرها محمد بن الحنفية ، بأن يذهب إلى مكة ويدعوا الناس إلى بيعته فإن أبو ، فيذهب إلى اليمن لأن فيها محبي أبيه الإمام علي وأخيه الإمام الحسن (عليهما السلام) ، وإلا فإن عليه أن يتنقّل من دولة إلى أخرى إلى أن يقضي الله بين الإمام وبين القوم الفاسقين على حد تعبير محمد بن الحنفية ، إلا أن الإمام لم يستجب لهذه الأفكار وفضّل الذهاب إلى الكوفة..

وحتى بشأن كتابة أهل الكوفة إلى الإمام فقد أنكر البعض أنّه وجهها للإمام ، وسكت البعض قهراً ، وانقلب آخرون ، وقد اكتشف الإمام هذه الحقيقة مبكّراً وهو في طريقه إلى الكوفة قبل أن تحط الرحال في أرض كربلاء ، إلا أن الإمام لم يكترث لذلك ومضى للقيام بمهمّته الأساس ، وهذا المضي كانت تحرّكه الأسباب الحقيقية والكبرى التي لم تنتف ولم تنقشع.

لقد كانت الأهداف الأساسية لحركة الإمام هي ما ذكره مكتوباً في كتابه إلى أخيه محمد بن الحنفية ، بعد أن حمد الله وأثنى عليه حق ثنائه ، والتي تمثّلت في (طلب الإصلاح في أمّة جده رسول الله ، و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، فهذان الأمران كانا قائمين ، حيث أن اعتلاء يزيد سدّة الحكم تعني أن يندثر ما تبقى من معالم الدين الذي جاء به الرسول الأعظم ، ويعني أن ينقلب المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، كل ذلك بسياسة يزيد المتغطرسة التي تحكم بالحديد والنار وتعيث في الأرض فساداً.

النتيجة التي نخرج بها من هذه المقدّمة هي أن الأهداف لابد أن تكون واضحة للحركيين ، وأن هنالك فرقاً بين الأسباب الرئيسة والأسباب الفرعية ، لذلك فإن قوّة التحرّك تحكم بالأساس لا بالفرع ، ولا ينبغي تنزيل الفرعيات منزلة الأساسيات ، لكي لا يترتّب على انتفائها توقف الفعل الحركي.

الخطاب الموجّه للمجتمع والذي تعتمده الحركات ليس من صنيعة القادة في بعده القيمي ولا يتّجه نحو ما تتجه إليه شعورهم واستحساناتهم أو حتى أفكارهم الخاصّة ، فلا بد للخطاب من منهجية واضحة وذات شرعية لدى المتلقّي لذلك الخطاب ، وهنا ونحن في المجتمع الإسلامي فالمرجعية الأساس هي مرجعية الدين الذي يعتمد القرآن الكريم والسنّة المطهّرة في صياغته ، وعندما يخلوا الخطاب من الشرعية في مرجعيته فسوف يكون لعبة في أيدي الرؤساء يميل في كل حين مع ميول كل شخص منهم.

والأهداف التي يعتمدها مطلقي الخطاب الحركي لابد أن تحكم بهذا القيد وتعزز به ، لكي لا يسمح للحركة بالإنحراف عن أهدافها الأساس ، ولكي تنال حضّاً من الإقتناع والمقبولية في المجتمع أو لا أقّل فهي تلقي الحجة البالغة على من يتخلّف ، وهذه الخطوّة من الممكن أن تعطي انطباعاً متفهماً لدى الآخرين.

إن الإمام الحسين كان يشير إلى هذه المسألة وأهميتها بشكل دائم عند تركيزه على المرجعية القرآنية ومنهجية الرسول الأعظم في خطاباته المتكرّرة ، وذكرها بشكل خاص بعدما كتب له أهل الكوفة ليكون لهم إماماً وحاكماً ، فبعث لهم برسالة مع سفيره مسلم بن عقيل (رضوان الله تعالى عليه) ، يخبرهم باستجابته وجاء فيها ـ كموضع للشاهد ـ : (فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط ، الداين بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات الله والسلام).

في هذه الرسالة أسّس الإمام للضوابط التي ينبغي أن تتوفّر في القادة والأئمة ، وهي الإيمان بالدين الإسلامي ، وتحكيم القرآن الكريم ، والمواصفات الذاتية للقادة وهي التي نذرت نفسها للعمل في ذات الله ، فبهذا يمكن للمجتمع أن يمتلك المقاييس التي على أساسها تؤسس الأهداف وتتحرك المسيرات ، وهذا الأمر يترك للعقل أن يقارن بين ما يسلكه يزيد بن معاوية من فساد وإفساد ، وما يسلكه الإمام في طريق الله تعالى ، فيسدّ الطريق على كل أصحاب ادعاء بأن أهداف الإمام ونهجه لا يمثلان الحق ، ويلقي الحجة البالغة على الناس ، ولو بعد حين. ، ويدمغ بهذا الحق فيمن ادّعوا أن (سيدنا يزيد ، قتل سيدنا الحسين) !

هذا في جانب التأسيس للخطاب لكي يكون عند الناس وعي المقاييس بمن يمثّل الحق دون سواه ، أمّا من جانب الفعل والممارسة فالإمام كان حريصاً على أن يشفع خطاباته بما يعززها ويبرهن على صدقها من الآيات القرآنية ، ومن أقوال الرسول الأعظم التي سمعها الناس ، وكان يذكّر بمكانته كإمام يمثل المرجعية في ذاته من خلال ما سمعوه من الرسول أو بلغهم قوله في فضل الإمام ومكانته، فهو الذي كان يكرّر قوله تعالى : ﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ، وهو الذي كان يقول (أسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ..) وكان يكرر (سمعت جدي رسول الله يقول ..) لبيان الحقائق والإستدلال عليها.

لذلك فإن القبول بالأهداف ووعيها من قبل المجتمع يرجع لما تحمله تلك الأهداف من قيمة معبّرة عن الحق ، لا معبرة عن كاريزما الشخصية القيادية أو المؤثرات الأجوائية أو العواطف الجوفاء ، من أجل ذلك يقف الإمام الحسين بكل قوّة وثقة ليقول : (فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا صبرت حتى يقضي الله بيني وبين وبين القوم بالحق ويحكم بيني وبينهم وهو خير الحاكمين) ، فالإمام يرجع القبول به لقبول الحق ، ولا يبالي بحضوة دنيوية فإنه يحتسب أمره عند الله تعالى منطلقاً من إيمانه بالآخرة وبعدل الله تعالى يوم ﴿ يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر : 10].

أمّا النتائج التي حصدها الإمام من تأسيس أهدافه وفقاً للمرجعية الشرعية ، فقد ضمن أصحاباً أوفياء بذلوا حياتهم من أجله ، وألقى الحجة البالغة على المتخلفين ، وأشعل الثورات بعد ذلك مهتدية بنور أهدافه الرابانية ، بل وكانت تلك الخطابات المؤصّلة مادّة للباحثين إلى يومنا هذا ، أظهرت الحقائق التي حاول أعداء الدين اخفاءها.