الرسالية : دراسة في تحولات الوعي و الأبعاد النظرية الثقافة

  • تمهيد

لاحظ علماء الإجتماع والانثربولوجيا أن التأثير الفكري الذي يلامس التفكير وينسكب في ثقافة الإنسان هو التأثير الأعمق والأقوى ، وإنه يفوق غيره من التأثيرات مثل التأثير السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي ، إلا أن هذا التأثير عادة لا يتأتى بصورة سهلة وبسيطة ، فهو تأثير معقّد وبطيء في ذات الوقت ، وبناء على هذه الحقيقة إذا أردنا أن ندرس واقع المجتمع في تحوّله أو في التغيرات التي طرأت عليه ، لا يمكن أن نحصر تلك التحولات الحضارية والإجتماعية والثقافية بالأسباب الفوقية أو الظاهرية ، ولابد أن لا تكون الدراسة بمنأى عن دراسة المقولات الثقافية والعلمية التي تسود ذلك الزمان ، أمّا أنه كيف تتم قراءة التأثير لتلك المقولات وهي قد تكون واقعاً مسيطراً على ثقافة الحاضر ووعي الراهن؟ فهذا يعود إلى الرجوع إلى الحقب التاريخية السابقة وقراءتها بما هي ، ثم العمل على مقارنتها بالواقع الراهن ، لتنكشف لنا مدى وجود تلك المقولات وتأثيرها الذي قد لا يدرك بالبداهة و الضرورة ، بل بالنظر والتفكير.

كما أن الوثائق التي تتداول في الحقبتين موضع الدراسة ، تقوم بدور فاعل في توضيح الرؤية في مدى تأثير بعض الأفكار على الواقع ، و التحولات الثقافية هي تلك الأعراض التي تطرأ على طريقة التفكير الإنساني وتجعل منه متحركاً برؤيته الجديدة ومنهجه الذي طرأ عليه ، نتيجة قناعة راسخة وقبول لتلك الآليات والقيم التي قامت عليها تلك الرؤية ، وقد يعرض التحوّل والتأثير على مساحة أخرى من المجتمع متأثّراً بالمد الأول من القناعات أوبالخطاب السائد المتشكّل من الثقافة الجديدة ، أو متأثراً بقناعات جزئية عبر تراكمات من التداخل والقراءة والتثاقف العام وهذا تأثير غير مباشر ، وعبر ذلك تظهر مساحة مشتركة في الثقافة السائدة ، الأمر الذي يؤسس لواقع يمكن من خلاله التقارب والإلتقاء وبناء العمل المشترك ضمن تلك المساحات المشتركة.

  • هنالك مفاهيم حيوية عديدة يؤّدي بروزها على السطح إلى اهتمامات من قبل الجهات الفاعلة في المجتمع وذلك عبر:

1/ تداولات تلك المفاهيم في الخطاب السائد.

2/ عبر توجهات المعنيين فعلياً ، عبر خلق اشتغالات جديدة في العمل من قبل الحركات والقادة وغيرهم ، متجهين نحو تعزيز الحالة التي يفرضها المفهوم.

وكمثال على الأول ، نجد أن حقبة التسعينات من القرن المنصرم بدأ يكثر فيها استخدام مفهوم التعددية كمفهوم ذو أبعاد سياسية ودينية واجتماعية وثقافية ، فقد أصبح ذلك ملحوظاً من خلال المؤلفات التي تصدر عن الحركات الإسلامية وعن علماء الدين بشكل عام ، كما أن خطاباتهم الشفاهية ، وتحركاتهم السياسية ، و توجهاتهم الاجتماعية ، نجدها تتميّز بالتركيز على التعددية كمبدأ يحتاج أن يؤمن به المجتمع والدولة والمثقف على حد سواء.

وكمثال على الثاني وهو خلق الإشتغالات الجديدة في مساحة العمل الإسلامي على سبيل المثال ، مسألة حقوق الإنسان كمفهوم برزت أهميته بصورة واضحة للعيان في الآونة الأخيرة (فالمتتبع لواقع الساحة الإسلامية يلاحظ أن هناك قراءات إسلامية جديدة لمسألة حقوق الإنسان بل أصبحت جزءاً من العمل الإسلامي السياسي والقانوني عند العديد من الحركات الإسلامية التي شكلت لها أجهزة ومؤسسات خاصّة محورها الدفاع عن حقوق الإنسان وبالذات المعتقلين الذين يعرفون في المؤسسات القانونية والحقوقية بسجناء الرأي) (1).

التحولات الثقافية تحولات مهمة ، ومن الأهمية بمكان ملاحظتها من قبل العلماء والمفكرين والمصلحين ، خصوصاً تلك التحولات التي يكون العامل الأساس فيها هو الفكر الإسلامي عبر إحدى قنواته الفاعلة في المجتمع ، فقد اعتدنا نحن المسلمين على مراقبة المقولات التي تفد إلينا من الفكر الغربي ، بحيث نجد دراسات تتناول تأثيراتها وتداعياتها في جوانبها المختلفة ، غافلين أو متغافلين عن منتجنا الثقافي الذي ولد من رحم الفكر الإسلامي الأصيل ، فقد استطاع الغرب أن يملي علينا اشتغالاته التي هي اشتغالاتنا أيضاً بفعل موجة العولمة والتأثير العالمي للمفاهيم والأفكار ، وهذا أمر إيجابي نسبي ، لأن معرفة اشتغالات الآخر ومقولاته تهمّنا باعتبارها موجّهة إلينا في جانب من الجوانب ، وتضيف إلى رصيدنا المعرفي في جانب آخر تراكماً ثقافياً و وعياً أوسع لما يدور من حولنا ، إلا أن الواجب الغائب هو النقص الحاصل في دراسة المقولات والمفاهيم التي أنتجها الفكر الإسلامي المعاصر والجديد ، دراسة تحفر في مدى التأثير الذي أحدثته في الواقع ، ومدى التقدّم الذي أحرزته في الوعي الإسلامي العام ، فلا يمكن الإدعاء بعدم وجود تأثيرات إيجابية للمفاهيم الإسلامية ولو بنسبة ما ، ونحن نشهد تموّجاً سياسياً وثقافياً ، خلق مناخات مختلفة عن الأزمان السابقة ، وهذا الأمر ينبغي أن يحثنا على ملاحظة التأثيرات المفاهيمية التي أنتجها الفكر الإسلامي ، لا أقل لكي تبعث فينا روح الأمل من أجل مواصلة الخطوات بشكل حثيث.

  • الرسالية وتحولات الوعي

ونحن في هذه الدراسة نسعى إلى تسليط الضوء على مفهوم (الرسالية) كمقولة أصبحت متداولة بشكل ملفت في السنوات الأخيرة لدى منظّري الحركات الإسلامية ولدى المثقفين الإسلاميين والعلماء أصحاب الخطاب الجماهيري ، وعادة ما توصف الثقافة والإنسان والسلوك والمجتمع والعالِم والمثقف بها ، فيقال (الثقافة الرسالية) و (الإنسان والعالِم والمجتمع الرسالي) وغير ذلك من نسبة يقصد فيها صفة متميّزة تلازم الموصوف ، كما أنها أصبحت لدى الكثيرين مقصداً يسعون إلى تحقيقه في الإنسان ، معتبرين أنها الصفة الأساس في الإنسان الكامل والذي تتحقّق على يديه مقاصد الدين وتوجيهات الشريعة وبناء المجتمع الإسلامي الأمثل.
لذلك أصبح من المهم دراسة هذا المفهوم وتسليط الضوء على النشأة التاريخية ، والأبعاد المفاهيمية الممايزة له عن بقية الصفات.

يمكننا أن نعتبر (الرسالية) كمفهوم نابع من عمق الفكر الإسلامي ، كلفظ ، حيث اشتقاقه من الرسالة والرسول ، هذه اللفظة التي كان لها تواجداً كبيراً في آيات القرآن الكريم ، بمختلف مشتقاتها ، ما يقارب (497) مرة ، معبّرة عن مهام النبي والذين يتبعونه ، ومعبّرة عن كنه الدين الإسلامي ، كرسالة هداية إلى البشرية جمعاء ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) [الأحزاب : 39]، ، وكذلك تعتبر الرسالية كمفهوم إسلامي أصيل من حيث المحتوى والدلالات التي استنبطت من المصادر الإسلامية (القرآن الكريم ، والسنة المطهّرة).

و قبل أن ندخل في الدلالات التي تنبثق من مفهوم الرسالية ، وظلاله الاجتماعية والسياسية ، نؤكّد على أن أدبيات الفكر الاسلامي لم تكن تسخدم هذا التعبير بشكل ملحوظ قبل السبعينات من القرن العشرين الميلادي ، مع أن الفكر الإسلامي مر بمراحل تجديدية عديدة قبل ذلك التاريخ ، كمرحلة بلورة العلوم الإجتهادية في الفقه والأصول على يد الشيخ الأنصاري ، وابن أدريس ، والمحقق الحلّي ، وكذلك مرحلة التصدّي والمواجهة كما في ثورة التنباك والعشرين وثورة الدستور، ويشمل هذا الأمر ، وهو عدم ظهور مفهوم الرسالية في الخطاب الإسلامي بشكل عام حتى قبيل انطلاق الثورة الإسلامية في إيران ، وبروز مجموعة من الفقهاء المتصدّين لشؤون الأمة ، فلم يلحظ منهم استخدام كلمة الرسالية بشكل كبير ، برغم أن حركتهم كانت تتصف بنحو من الأنحاء بدلالات هذا المفهوم.

فقد كان محتوى الخطاب الإسلامي الجماهري الحركي يستعمل ألفاظاً مختلفة لوصف الإنسان العامل ، ووصف الوضع الأمثل ، فيكتفي البعض بعبارات (المؤمن) و (الملتزم) ، والبعض يغلّب لفظ (الداعية) و (الدعوة) ، كل ذلك حسب أصول الطبيعة الفكرية التي يتبناها هذا الخطاب أو ذاك.

  • الحركة الرسالية

في نهايات عام 1967 الميلادي تشكّلت في العراق ، وتحديداً في كربلاء المقدّسة مجاميع إسلامية ذات نشاط حركي يدعو لتغيير الواقع المأزوم الذي كان يعيشه المجتمع العراقي والسلطة الحاكمة آنذاك ، كما يدعو لإقامة تعاليم الدين وتمكينها في المجتمع ، وهذه المجاميع (2) كانت تحت قيادة مرجعية الإمام السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) الذي كان يدعو للعمل التغييري في كافة المستويات ، وقد امتاز بفكره ونشاطه الكبيرين ، بميعة مجموعة من العلماء كان أشهرهم المرجع الديني السيد محمد تقي المدرّسي ، والسيد حسن الشيرازي ، والسيد هادي المدرّسي ، وتلك المجاميع أطلق عليها مسمّى (الطلائع الرسالية) واشتهرت تلك المجاميع بهذا المصطلح الجديد، حيث إن أول من أطلقه بهذه الصورة هي (الحركة الرسالية) التي تكوَّنت من تلك المجاميع ، ثم أطلقت تسمية (منظمة العمل الاسلامي) فيما بعد على الفصيل العراقي منها، (وكان انبثاق هذا التنظيم الرسالي استجابة حضارية ملحة كان يعيشها المجتمع العراقي والذي كان يعاني حينها من آلام انتكاسة حزيران عام 1967 أمام الكيان الصهيوني الغاصب هذه الانتكاسة التي كانت نتيجة طبيعية لعوامل التبعية والتخلف والتسلط المحكوم بها عالمنا الاسلامي والعربي على الخصوص.)(3) .

والمتتبع لتاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة منذ تبلور الحركات التنظيمية منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي ، يلاحظ اصطباغ الحركات بشعارات ومصطلحات معينة تعبّر عن أفكارها أو دوافعها في التحرك ، وهذا ما لوحظ على الحركة الرسالية العامّة ، حيث تبنّت هذا التعبير واصطبغت به في مسمياتها ، وفي إصداراتها ، حيث توصّف الإنسان المنشود و المنتمي بالإنسان الرسالي ، و منذ ذلك الوقت صار هذا المصطلح في حركة تبلور أخذ في التداول والتعريف في الكتابات والمحاضرات الثقافية للحركة من قبل قادتها و مفكريها ، إلى أن أصبح مفهوماً أصيلاً يعبّر عن روح هذه الحركة في عمقها الثقافي.

لقد اختصّ هذا المصطلح الرسالي والرسالية ، بهذه الحركة اختصاصاً كبيراً وهي التي بشّرت به في كافة المناطق التي كانت تنتشر فيها في الدول العربية وغيرها ، وبطبيعة الحال ، فإن هذا الإختصاص ولّد بعض الحساسيات تجاه هذا المصطلح لدى الكثير من المجاميع الأخرى والأحزاب والشخصيات القيادية ، فلم تكن تتلفّظ به إطلاقاً ، لأن إطلاقه أصبح متلازماً مع الحركة الرسالية وفروعها ، واعتبرته المجاميع الرسالية هوية يعرّفون أنفسهم بها ودلالة على الإنتماء ، وسوف نشير إلى الأثر الذي أحدثته هذه المقولة في الخطابات الإسلامية الأخرى لاحقاً ، وهو ما يدعونا إلى تقسيم تطوّر الإستخدام والتأثير لمصطلح الرسالية إلى مراحل ثلاث:

  • المرحلة الأولى : مرحلة الإستخدام السرّي

حيث إن هذا المصطلح اختص في هذه المرحلة باستخدامه من قبل (الحركة الرسالية) وبالذات فصيلها العراقي منظمة العمل الاسلامي في ادبياتها الخاصة، وكان من إفرازات تلك المرحلة نشرة خاصّة محدودة التدول وتوزّع على العاملين في المنظّمة فقط ، وهي نشرة (المرصد الرسالي)(4) ، التي كانت تحتوي على توجيهات ومفاهيم رسالية عامة ، و في هذه المرحلة اصطبغ المصطلح نفسه بالحالة السياسية والثورية البحتة ، نظراً لإحتكار استخدامه فيها. وهذه المرحلة ابتدأت من عام 1967م وهو عام التأسيس السري للحركة الرسالية ، إلى العام 1979م.

  • المرحلة الثانية : مرحلة الخطاب العلني

في العام 1979م بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران استخدم مصطلح الرسالية بشكل علني من قبل الحركة الرسالية في إعلامها العام ، وفي خطاباتها التوجيهية ، وفي كتاباتها التي كانت تصدر من قبل القادة و العلماء والمفكرين فيها ، وهذه المرحلة هي التي ساهمت في نشر المصطلح وتعميمه في كافة البلدان الإسلامية ، وبقي خطاب الحركة الرسالية مدّة طويلة يحتفظ بخصوصية استخدام هذا التعبير ، حتى غلب على نتاجها الثقافي والسياسي هذا المصطلح ، سواء في عناوين الكتب أو في العناوين الرئيسية فيها ، وهذه المرحلة هي مرحلة تنظير وتوجيه بالدرجة الأولى للمجاميع الرسالية لبناء أفرادها من جهة ، و لطرح الرؤى الرسالية حول مختلف الأحداث والتطورات من جهة أخرى ، كما طرحت الحركة الرسالية رؤيتها المعمّقة للدين وطريقة قراءتها للتاريخ وحركة المجتمع من خلال نظرة رسالية للمجتمع الإسلامي بشكل عام.

ويمكن أن نسرد بعض أسماء الكتب التي صدرت في تلك الفترة التي كانت معبّرة عن هذه الحقيقة ، منها الكتابات التي أسّست لأصل الرسالية من خلال طرح فكر تغييري فاعل ومسؤول في الحياة العامة ، كان منها (السبيل إلى إنهاض المسلمين) ، و (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام) للمرجع الديني السيد محمد الشيرازي (قدسر سره) ، وتفسير (من هدى القرآن) و (المجتمع الإسلامي) و (التحدي الإسلامي) للمرجع الديني السيد محمد تقي المدرّسي ، وغيرها من الكتب ، ولكن كان هناك مجموعة من الكتب أشارت بشكل مباشر عبر عناوينها للرسالية ، و قد كانت بمثابة أدبيات فكرية للتيار الرسالي في مختلف البلدان ، ومنها:

كتب للمرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي : (في السلوك الرسالي) ، (كيف ننمّي الفئات الرسالية) ، (كيف تكون القيادة الرسالية) ، (المسجد منطلق الثورة الرسالية) ، (خلايا المقاومة الرسالية) ، (تجارب رسالية) ، (عن الإعلام والثقافة الرسالية) ، (الشعب العراقي ومسؤوليته الرسالية) ، (المرأة بين مهام الحياة ومسؤوليات الرسالة) ، (فاطمة الزهراء رائدة الثورة الرسالية) ، (برنامج الرسالي في عصر الطغاة) ، (الأمّة بين القيادة الرسالية والقيادة المزيّفة) ، وهنالك محاضرات أخرى تتضمّن عناوينها أو مضامينها النهج الرسالي. وقد صدرت تلك الكتب من العام 1979م إلى 1987م.

وكتب أخرى لآية الله السيد هادي المدرّسي وهو أحد أبرز قيادات الحركة الرسالية : (الرسالي في معادلات الصراع) ، (الرسالي بين خطوط الضغط وضغط الخطوط) ، (الصراع والتحدّي في حياة الرسالي) و (المرأة الرسالية).

وكتب أخرى لمؤلفين متنوّعين ، مثل (رمضان برنامج رسالي) للشيخ حسن الصفار ، (الرسول الرسالي القدوة) للشيخ عبد الله صالح ، و (معالم الشخصية الرسالية) إصدار منظمة العمل الإسلامي بالعراق ، وغيرها.

هذا فضلاً عن الكتب والكرّاسات الكثيرة التي كانت تصدر بعناوين مختلفة ، لكنها تطرح الفكر الرسالي من خلال العبادات والأخلاقيات والمفاهيم العامّة.
هذه المرحلة وعبر رصد بعض إصداراتها تثبت بشكل قاطع اختصاص هذا المصطلح بالحركة الرسالية ، وقد طرحت من خلالها فكرها على العلن ، وقد لاقى رواجاً كبيراً في مختلف البلدان العربية ، وتلقفته أيدي الشباب المتعطّش لفكر حيوي أصيل يعالج قضاياهم المعاصرة بروح جديدة من منظار الإسلام ، كما وجد الكثير من العلماء والمثقفين من التيارات الأخرى في ذلك المدّ الكبير من الكتب المعبرة عن الثقافة الرسالية، مادة تروي ظمأهم وتحرك فيهم روح المسؤولية تجاه المجتمع (5).

  • المرحلة الثالثة : مرحلة التأثير

بعد مرور أعوام من بثّ هذا المصطلح وبيان مفهومه ودلالاته الحركية والثقافية في الخطابات الجماهيرية ، والخطاب الدراساتي المتنوّع(6) ، شاع في الأوساط الدينية و لدى الحركات الإسلامية الأخرى المغايرة للحركة الرسالية ، وتبنته في خطابها العام ، ومن خلال المرحلتين الأوليين يلحظ الباحث أن هذا المصطلح فرض نفسه على الخطابات الأخرى ، حيث وجدوا فيه تعبيراً مميّزاً عن حقيقة الإنتماء الديني بشكله الفاعل في الحياة و وجدوا فيه شمولية واستيعاباً للكثير من توجيهات الدين في جوانبه المتعددة ، بما يحتاجه الواقع من تعدد في التعاطي من قبل الإنسان المسلم ، فالألفاظ التي كانت تستخدم كانت لها دلالاتها الخاصّة المعبّرة عن حالة معينة ، مثل (المبلّغ) حيث تلقي عملية تبليغ الدين في جانبه العقيدي بضلالها عليه ، و (الداعية) حيث تلقي عملية الدعوة للتعاليم الأخلاقية عليه ، ولا شك أن كل تلك التعابير هي تعابير قرآنية أصيلة ولها دلالاتها العظيمة ، إلا أن تعبير (الرسالي) اشتملت عليها واشتملت على غيرها ، كما هي نوع من تلخيص روح الرسالة التي جاء بها الرسول الأعظم بما تستوعبه تلك الرسالة من نهوض شامل لحياة الإنسان.

فلم يعد تداول مصطلح الرسالي والرسالية محصوراً بأبناء الحركة الرسالية وحدهم ، بل أصبح شائعاً ، ونطقت به حتى الفئات التي كانت تتحاشاه ، وشخصياً حضرت إحدى الندوات ذات المستوى الرفيع لبعض ممن لا ينتمي للحركة الرسالية ، فوجدت المشاركات الثلاث الأول ، وهي كلمة رئيس الجمعية أو المؤسسة القائمة على الندوة ، وكلمة الشخصية الشرعية الأولى في تلك الجماعة ، وكلمة الشخصية الساسية الأولى فيها ، كانت تبدأ بكلمات حول الشخصية الرسالية ، والإنسان الرسالي ، والمسؤولية الرسالية ، في حين أنهم جميعاً لم يتداولوا هذا التعبير في السنوات السابقة ، وهنا وجدت نفسي أمام مشهد التأثير للخطاب الرسالي بأجلى صوره ، وتتبعت الخطابات والمؤسسات والكتابات والفعاليات لمجموعات مغايرة للحركة الرسالية التي انبثقت منها تلك الثقافة ، فوجدت التأثير متسع إلى أكثر من ذلك ، حيث تسمية المؤسسات وشبكات الإنترنت وبعض عناوين المقالات والنشرات والكتب اللجان وغيرها ، و أصبحت مقولة الرسالية ضمن الكيان الثقافي لمختلف التيارات الإسلامية.

ولعل ذلك راجع إلى حيوية واستيعاب المصطلح نفسه ، وإلى الثقافة التي كانت تعبّر عنه و عن حيويتها في المجتمع ، كما هو عائد إلى الدراسات التأصيلية و الفكرية التي قامت بدور بلورة الرؤية الرسالية بشكلها الفاعل والمحرّك.

  • الموقف .. المشروع .. الثقافة

هنالك فرق بين الموقف ، والمشروع ، والثقافة ، من حيث سعة التأثير ومدى استمراريته ، فإن الموقف محدود بقضية معينة ينتهي بانتهائه أو بتراجع أو موت القائم عليه ، والمشروع هو مأسسة الحاجة لكي تحمل خاصية الإستمرار فتكون مرتبطة بالأهداف والغايات التي أسس من أجلها ، دون ارتباطها بالفرد ، فتحويل القضية إلى مشروع و مؤسسة ينقلها من ارتباطها بالفرد (بقاء وعدماً) إلى ارتباطها بالغايات والأهداف ، إلا أن المؤسسة لا شك تنتهي بانتهاء الحاجة إلى تلك الأهداف أو بعد الوصول إليها مالم تكن تلك المؤسسة مرتبطة بغايات عامّة من شأنها الدوام والإستمرار ، كما هي المؤسسة الدينية المتمثلة بالحوزات العلمية ، التي تستوعب المتغيرات والتحولات من الناحية المنهجية و من الناحية الواقعية.

أما الثقافة فهي أكثر استيعاباً من الموقف ومن المشروع ، حيث أن الثقافة في منحاها الإستيعابي تشمل جوانب عديدة للحياة وترسم سلوكاً لتفاعل الإنسان مع مختلف القضايا والحاجات ، وتتجدد بتجددها ، فالثقافة تصنع منهجاً للتحرّك الإنساني يمكنه أن يستوعب المتغيرات ضمن الثوابت التي أسستها ، ولذلك هي أكثر استمراراً ، وهي متوقفة على المتبنّي لها ، والذي قد يكثر أو يقلّ ، و بلا شك يستثى من ذلك ، ما إذا كانت تلك الثقافة لا تحمل مقومات الرؤية الثقافية .
و إذا لاحظنا حركة المؤسسة الدينية وحركة الفقهاء والقادة الإسلاميين سنجد حركتهم (الرسالية) متنوّعة بالتقسيم الذي أشرنا إليه ، مع التأكيد أن التأثير لبعض المواقف ، يكون أحياناً بشكله التاريخي بإعتباره واقع تاريخي وتجارب يستفيد منها الباحثون ، لا بصفتها المباشرة.

فثورة العشرين التي قادها الميرزا محمد تقي الشيرازي ضد الإستعمار البريطاني في العراق 1920م ، كانت مرتبطة بشخص القائد ، وقد انتهت عندما عمد العدو إلى قتله بالسم (7) ، وإن تسلّم شيخ الشريعة بعده القيادة إلا أنها لم تزل مرتبطة بالشخص ونوع موقفه ، لذلك سيطر البريطانيون على العراق من جديد ، وكذلك كان المجدد الشيرازي الميرزا محمد حسن في إيران (1891م)، الذي تمكّن من طرد الإستعمار عبر ثورة التبغ ، فقد نجحت حركته تلك وانتهت إلى إلغاء امتياز البريطانيين في تجارة التبغ وقوّض سلطاتهم وسلطات الإستبداد الداخلي ، وقد أصبحت ضمن أحداث و وقائع التاريخ التي يستفاد من دروسها.

أما العمل المؤسّسي فهنالك العديد من الحركات الإسلامية أو المؤسسات التي استمرت طويلاً ، و هي تنتهي بانتهاء أهدافها كما أسلفنا ، و نذكر على سبيل المثال ، الشيخ محمد رضا المظفّر عندما أسّس كلية الفقه التي استمرت بعد وفاته ، أما المؤسسات ذات الشأن الاستيعابي كالحوزات العلمية فهي الأقدر على الإستمرار ، إلا أنها تحتاج إلى المقومات الإدارية لضمان استمراراها ، أما استمرارها كنوع فهو حاصل ولم ينقطع منذ نشوئها إلى الآن.

أما التأسيس الثقافي فهو الأكثر بقاء ، فإن الكثير من العلماء القدامى أسسوا أفكاراً ونظريات بقيت إلى يومنا هذا ، مثل الشيخ النائيني ، وابن أدريس الحلي ، والطوسي ، والسيد جمال الدين الأفغاني ، و الميرزا مهدي الاصفهاني وغيرهم ، على مختلف الأصعدة.

ويمكن بطبيعة الحال أن يجمع المتصدّي ثلاث الصفات حيث يبدي موقفاً و يؤسّس مؤسّسة ، و ينحت ثقافة أو مفهوماً مرتبطاً بالجانب الثقافي ، الذي يحرّك الإنسان و يؤثّر فيه من خلال عقله وقناعاته.

  • الثقافة الرسالية

الرسالية كمصطلح ، أسّس وفقاً لمنظومة ثقافية متكاملة ، وهو يعبّر عن رؤية استيعابية لحياة الإنسان من خلال النظرة الإسلامية عبر مصادرها الأصيلة.

فلم يكن مجرّد تعبير عن حالة حركية عابرة ، وإنما تحوّل إلى مضمون عميق له دلالاته التفصيلية ، وإن استخدمه البعض من دون ملاحظة تلك الدلالات ، فقد أصبحت الرسالية ثقافة لها أصولها ومعالمها ومنهجيتها ، ومن هذا المنطلق فإننا سوف نسلّط الضوء عليها ، بإعتبارها إحدى المقولات التي أثّرت في واقعنا المعاصر ، وساهمت في دفع عجلة الصحوة الإسلامية وإثرائها من الناحية الثقافية والحركية.

المرجع الديني السيد محمد تقي المدرّسي (حفظه الله) هو قائد الحركة الرسالية ومنظرها الحركي ، ومرجعها الديني لاحقاً ، قد قام ببلورة وصياغة الثقافة الرسالية في كتب عديدة ، وله الريادة والإختصاص في ذلك ، حيث زخرت كتاباته المتعددة بالتأصيل و بيان المعالم والخصائص والآثار التي ترتبها الثقافة الرسالية،وتعتبر موسوعة (من هدى القرآن-18 مجلداً) الذي يحتوي على تدبرات المرجع المدرسي دام ظله في القرآن الكريم من أهم المصادر التي تضع اللبنات الأساسية لصرح الفكر الرسالي المستلهم من القرآن الكريم والسنّة المطهّرة.

حيث أن تصدّي المرجع المدرّسي في مرحلة المواجهة مع السلطة العراقية في بدايات العام 1968م إلى عام 1979م ، كان عبر نشاطات متعددة الأدوار ، منها الأنشطة التنظيمية ، والسياسية والتربوية والثقافية (ولكن هذا النشاط السياسي والتنظيمي كما يراه السيد المدرسي لا يمكن أن يتم دون تأسيس تيار ثقافي يؤمن بثقافة خاصّة ، تعبّر عن رؤاه الشمولية للحياة ، منطلقة من أصالة الشريعة المقدّسة ـ وقد استطاع سماحته في هذه المرحلة بلورة ثقافة خاصّة بالخط الحركي العامل ، وهذه الثقافة تعود بالطبع إلى جذور كثيرة ، منها معالم المدرسة الفكرية التي يتميّز بها سماحته) (8) ـ التي تعتمد على القرآن الكريم ، والسنة المطّهرة ، والعقل الرشيد المهتدي بالوحي ، والتاريخ الرسالي الناصع ، وانفتاحه على مختلف المدارس الفكرية ، و تبصّره بالواقع المعاصر.

وسوف نستعرض بشيء من الإيجاز معالم الثقافة الرسالية كما جاءت في كتاب (الثقافة الرسالية) وهو كتاب يلخص معالم الفكر الرسالي المسؤول للحركة الرسالية، علماً بأن.الكتاب طبع طبعات كثيرة جدّاً ، و (كان مادة للدراسة والبحث في أوئل السبعينات في كثير من البلاد الإسلامية ، خصوصاً وأنه يتمتع بقوّة التأثير وسلاسة الأدب و ملامسة الواقع بدقة) (9).

  • الواقع المتخلّف

ينطلق كتاب الثقافة الرسالية في تأسيسه وبلورته لتلك الثقافة من النظر إلى الواقع المتخلّف الذي ألمّ بالأمة الإسلامية ـ الشيعية على الأخص ـ باعتبارها الممثل الحقيقي لحقيقة التوحيد ، ويبحث الكتاب في أسباب هذا التخلّف ، حيث يرجعها إلى أن الثقافة هي المسؤولة ، أي ثقافة المسلمين التي جعلت من الأمّة كياناً جامداً لا حراك له.

ويذهب إلى أن الطلاق بين الشيعة والتشيّع هو السبب في ذلك ، ثم يوضّح دعائم التشيّع بالرؤية التأصيلية القرآنية ، كالولاية ، والإمامة ، والعصمة ، والغيبة ، والشفاعة ، وعصر الغيبة ، ومفهوم الفقيه ، والبدعة ، والتقليد والإنتظار. فإن فهم تلك الدعائم بتصوّر مغاير عن المضامين التي وضعت من أجلها ، يأتي بنتائج مغايرة ، تساهم في جمود الإنسان وتخلّفه ، ثم يخرج الكتاب بنتيجة مهمّة وقاعدة ثابتة ، هي : (عندما يتوقّف الإنسان عن العطاء يتوقّف كل شيء في الحياة) (10) ، فالذين حملوا الرسالات كانوا بشراً ، إلا أنهم لم يتوقفوا عن العطاء ، وعندما توقف الإنسان بعدهم عن العطاء توقفت عجلة الحياة ، وهذا تحديداً ما سبّب التخلّف للأمة الإسلامية اليوم ، حيث أصبحت الرموز قشوراً ، وابتعدوا عن المحتوى الحقيقي للرسالة ، كما يقول تعالى : (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً )[مريم : 59].

(فالأمة التي ورثت الرسالة من بعد أهلها الحقيقيين .. لم تتحسّس بالحاجة إليها ، وتبعاً لذلك لم تحرّك عقلها لاكتشاف الأهداف المتوخاة من طقوسها) (11) .

و المسألة الأهم أن تتحوّل تلك النظرة القشرية إلى مصدر التشريع ومصدر الثقافة وهو القرآن الكريم ، فيتعامل معه كحقل لغوي بحت أو نظريات فلسفية وهمية أو كشوفات علمية وحسب ، بينما هو كتاب رسالة وكتاب حضارة وكتاب إنسان ، وهكذا بالنسبة للأحكام الشرعية عندما تفرغ من محتواها وترابطها ببعضها وانسجامها مع مقاصد الدين وغاياته ، فيتحوّل الحكم الشرعي إلى حكم بلا حكمة.

  • معالم الثقافة الرسالية

إن العلاج الأنجع للخروج من أزمة التخلّف والوصول إلى تجديد الحضارة على أسسها المتينة ، هو في الرجوع إلى ثقافتنا الموجّهة ، فهي (مصدر إشعاع روحي ضخم يعطينا الإعتزاز بأنفسنا ، ومميزات شخصيتنا ، ويزيدنا إيماناً بقدراتنا الكبيرة) (12)، لذلك لابد من تعريف تلك الثقافة وتبيان معالمها ، وهذا ما عمد إليه الكتاب ، حيث ينطلق من المفهوم العام للثقافة التي تعني (المعارف التي تعطي الإنسان الإنسان بصيرة في الحياة ، ونوراً يمشي به في الناس) (13)، والكلمة القرآية المقابلة للثقافة هي البصيرة ، و(هي الثقافة المفصّلة التي تهدف إصلاح الإنسان وإصلاح سلوكه ، بينما الهدى هي المبادئ العامّة لهذه الثقافة) (14).

ويأتي لتعريف الثقافة الرسالية على الخصوص حيث يذكر أنها :
(الثقافة السليمة والإنسانية ، والشجاعة ، التي تنتج الإصلاح الجذري لمشاكل الأمة اليوم).

فالرسالية ثقافة لأنها بصائر ورؤى تمكن الإنسان من تفسير الحياة ، وهي سليمة لأنها تعتمد الحق ـ لا الواقع ـ وسيلة وهدفاً ، وتهدف إصلاح الإنسان وسيلة وهدفاً ، (إذ ليست القيمة النهائية للحياة سوى تدريب البشر لحياة أخرى : (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ؟ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ)[الإنسان : 1، 2] ، (ألم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت :1، 2].

وهذه الثقافة كما هو واضح من تعريفها ، هي ثقافة إصلاح جذري ، ومن دون معالجة جذور المشاكل الحضارية فلن ينفع الإنسان شيء ، وبهذا تصبح هذه الثقافة شجاعة تتخذ من الحق والإنسان ، وسيلة وهدفاً.

وثقافة بهذا التصوّر لابد أن يكون لها منبع صاف وقادر على العطاء بحجم الحاجات الحضارية ، وذلك المصدر هو القرآن الكريم الذي يحتوي على البصائر والهدى ، فهو ليس كتاب سياسة أو فلسفة أو أخلاق ، وإنما هو (كتاب الإنسان ، إذا تحدّث عن السياسة أو الأخلاق أو التاريخ فبقدر ما يمت إلى خلق الإنسان بصلة) (15).

فالقرآن الكريم هو الفرقان ، وهو أحد المقاييس السليمة التي يفرّق بها بين الأفكار الحقّة والأفكار الباطلة ، بين السلوك السليم و غيره ، كما قال الرسول : (إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنه شافع مشفّع ، وماحل مصدّق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار) ، كما أن العقل المتحرر من قيود الشهوات هو أيضاً فرقان في هذا الجانب ، بشرط أن يكون متخلّصاً من الشهوات ومن الأغلال بهدى السماء ، كما يقول الإمام الكاظم : (إن لله على الناس حجتين .. حجة ظاهرة وحجة باطنة ، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، وأما الباطنة فالعقول..) ، ويضيف الكتاب أن رأي القيادة الرشيدة ميزان فيما إذا عجز الإنسان عن الإهتداء بنور الوحي وضياء العقل ، وتلك القيادة متمثلّة في النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأوصيائه (عليهم السلام) والمتمثّلة بعدهم في الفقهاء العدول أصحاب الكفاءة ، كما قال تعالى : (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [الأنبياء : 7] ، ويقول الحديث : (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم).

  • المسؤولية الفكرة الطيبة

إن أبرز صفة في الثقافة الرسالية أنها ثقافة مسؤولة غير متواكلة ، (وإيمان الثقافة الرسالية بالمسؤولية آتية من رؤيتها الواضحة إلى الحياة والهدف منها.

تلك الرؤية التي تنسجم مع الحق والفطرة ، كما تستلهم من نصوص الرسالة ) (16) التي تبيّن أن الحياة ليست عبثاً ، وانما تهدف تجربة إرادة الإنسان ، بدلالة الآية الكريمة : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً . لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)[الأحزاب: 72، 73].

أما الأفكار اللامسؤولة ، فهي التي تدعو إلى الثقافة التبريرية والأفكار الصوفية (والتصوّف في التاريخ هو الإسم الذي يطلق على السلبية الكاملة في الحياة ، تماماً مثل (الهيبز) في العالم الغربي اليوم) (17).

والفكر اللامسؤول يصيب كل الأمم ، عندما تمر بفترة الجمود والتقاعس ، فتتشبّث بتبرير جمودها وتقاعسها ، وحين تكاسلت الأمّة الإسلامية استوحت ثقافتها من ثقافة التبرير الصوفية التي كانت منتشرة في الأمم الأخرى.

هذا عرض موجز جداً لما جاء في كتاب الثقافة الرسالية ، وهذا هو الهيكل العام لها ، فالكتاب يحتوي على توضيحات وتطبيقات عميلة عبر الإستلالات القرآنية كتدعيم للأفكار التي يطرحها.

إضافة إلى الثقافة الرسالية كمنظومة متكاملة و متعددت العطاء في المجالات المختلفة لا يمكن أن نرصدها من هذا الكتاب وحسب ، بل هنالك إشارات وتطبيقات أكثر سعة جاءت تباعاً في كتابات المرجع الديني السيد محمد تقي المدرّسي (دام ظلّه) ، حيث أن الحديث عنها يرجئ إلى مقام آخر من البحث.

  • رؤية تحليلية

يعالج الكتاب مشكلة التخلّف كمشكلة اجتماعية من منظار ثقافي ، أي عن طريق تفاعل المجتمع مع الفهم الثقافي ، ولذلك فإنه يسعى إلى تغيير تلك العلاقة التفاعلية بين المجتمع و الثقافة ، ليتم تغيير الواقع على أساسها.

و تنطلق الأسس التي ثبتت عليها الثقافة الرسالية من الجهة المفهومية للثقافة ، من التعريف الذي يقول بأن الثقافة هي تلك المعارف التي تعطي الإنسان البصيرة والنور لمعرفة الحياة ، كتعريف أمثل للثقافة المجرّدة ، و هنالك فرق بين هذه الثقافة المطلوب تحصيلها لدى الإنسان ، وبين الثقافة الإجتماعية السائدة في المجتمع وهي التي تشكل رؤيته للحياة بغض النظر عن (أحقية ميزانها) ، ولذلك فإن الكتاب أرجع سبب التخلّف إلى تلك الثقافة السائدة ، و عمد إلى وضع تصوّر أمثل للثقافة البديلة و الأصيلة التي لابد أن تقوم مقام تلك الثقافة ، وبناء على ذلك فإن حركة الإنسان سوف تتجّه باتجاه التقدّم.

للثقافة الرسالية تعريف عبر المواصفات والمعالم التي تختصّ بها ، وهي (الثقافة السليمة والإنسانية ، والشجاعة ، التي تنتج الإصلاح الجذري لمشاكل الأمة اليوم). فإذا نظرنا لها بنظرة اختصاص للثقافة الرسالية ، فإن صفة السلامة و الإنسانية والشجاعة ، كلها متوافقة مع الأطروحات السائدة التي تبشّر بالثقافة الإسلامية وتدعو لتفعيلها في الواقع الإسلامي ، إلا أن الإصلاح الجذر يعدّ ميزة أساسية ، فالرسالية لا تؤمن بالإصلاح الترميمي إن صح التعبير أو المعالجة الفوقية للأمور ، وقد أصدر المرجع المدرسي الكثير من الأطروحات التي تعالج المشكلات جذرياً ، كبناء المجتمع الإسلامي ، و إصلاح الشأن السياسي ، وغيره ، ولذلك فهناك مغايرة مع من يتبنّى خيار الإبقاء على ما كان من ظروف الواقع ومحاولة الرضا به أو إصلاحه بقدر المتاح.

و لعل أهم ما يميّز الثقافة الرسالية عن سائر الرؤى ، هي ميزتان :

الأولى : سر الفاعلية

حاولت الثقافة الرسالية أن تكشف سر الفاعلية الذي يمكّن الإنسان من العمل والحركة والإنطلاق لصنع واقع جديد ، فلم تقتصر على بيان الرؤية أو عرض المفاهيم ، بل تناولت بشيء من التدقيق في السر الذي يجعل الإنسان فاعلاً بعد أن كان جامداً ، والعكس ، فإن الإنسان المسلم يؤمن بالقرآن ، و يؤمن بجميع عقائده و قيمه ، إلا أنه يعيش واقعاً متخلّفاً ، فالسر إذاً هو في شيء يكمن في ربط العلاقة بين الإنسان وبين ما يؤمن به ، وهذه العلاقة هي طريقة الفهم ، أو الإنحراف الذي قد يصيب رؤيته إلى مصادر التفكير نفسها ، ولذلك ومن خلال التأسيس لفكرة (المسؤولية) كأهم صفة في المكونات الثقافية التي يؤمن بها ، يمكن تحديد الأفكار الميتة من الأفكار الحية والطيبة ، ويمكن من خلال تجزيئ النظريات إلى أجزاء ووضعها في ميزان الفكرة المسؤولة أن نتعرّف على صدقيتها.

فالمسؤولية هي هدف الحياة ، حيث (تؤمن الثقافة الرسالية بالفكر المسؤول ، وترفض بإصرار الأفكار اللامسؤولة ، الأفكار الغيبية التواكلية التي توحي بتعطيل دور الإنسان وفاعليته في الأحداث.

وبالتالي ترفض كل الأفكار المتخلّفة التي ورثتها الأمة من أجيال التخلّف ، كما ترفض الثقافات الحتمية (18) التي استوردتها الأمّة من الخارج.

و إيمان الثقافة الرسالية بالمسؤولية آتية من رؤيتها الواضحة إلى الحياة والهدف منها) .(19)

وتأسيساً على ذلك سعت الثقافة الرسالية إلى إعادة بلورة المفاهيم الإسلامية لإزالة الإلتباسات والتشويشات الحاصلة في فهمها عند بعض الفئات ، وبيّنت على سبيل المثال معنى التوكّل ، و معنى الخوف والرجاء ، و معنى الإنتظار ، وسر الغيبة و غيرها على أساس البناء المفهومي للفكرة المسؤولة التي تحتويها و تتميّز بها الثقافة الرسالية.


الثانية : استيعابية الحقول.

لم تأت الثقافة الرسالية لتعالج الحقل المعرفي المجرّد عن الواقع ، و لم تختّص بحقل دون آخر من الحقول المتصلة بحياة الإنسان ، فالثقافة الرسالية لم تكن نظرية في التفسير السياسي فحسب ، أو في التفسير العقيدي ، وإنما جاءت لتعالج الأساس الثقافي التوجيهي للإنسان الذي يلامس ويستوعب كافة الحقول التي يتحرّك في مجالاتها.

فإنها وبفعل التأسيس القرآني التأصيلي ، يمكن أن تعالج الوضع الاجتماعي وما يجري فيه من تفكّك و فساد ، ويمكن أن تعالج الوضع السياسي الإستبدادي ، أو الوضع الثقافي التبعي ، ولكن ذلك لا من خلال الوصفة السريعة للثقافة الرسالية ، و إنما من خلال الإعتماد على النظرية الرسالية للثقافة في كافة تلك المجالات عند إرادة معالجتها ، إعتماداً على المعطيات الواقعية لأي مشكلة من جهة ، واعتماداً على استخراج واستنباط العلاج من المصادر الأصيلة للثقافة من جهة أخرى.

وقد صدرت للمرجع المدرّسي تباعاً الكثير من الأطروحات المختلفة في حقولها ، معتمدة على النظرية الرسالية في النظر للقضايا ، ككتاب (المجتمع الإسلامي ، متطلباته وأهدافه) ، الذي يبحث عن طريق الوصول إلى التفاعل الإيجابي بين الفرد والمجتمع ، و يحدد طريق الوصول إلى حيوية المجتمع ، و في مجال السياسة والحركات الإسلامية في كتب (التحدّي الإسلامي) و (النهج الإسلامي) و (العمل الإسلامي) يبشّر السيد المدرّسي بطريق النهوض في تلك المجالات ، وكذلك في الفقه والتشريع الإسلامي ، في كتاب (التشريع الإسلامي) بأجزائه العشرة ، يدعو إلى الوصول إلى روح الدين من خلال حكمة التشريع ، ومقاصد الدين والقيم العليا ، لكي لا يكون الفقه مجرّد طقوس بلا محتوى ، وفي الثقافة والفكر ، في كتب (الاسلام ثقافة الحياة) و (الفكر الإسلامي) ، و (التمدّن الإسلامي) وغيرها ، يدعو إلى أن تكون المفاهيم حيّة و معاصرة و مواكبة للمتغيرات ضمن ثوابت الدين، و أن لا تكون المفاهيم حروف بلا معان ، وهكذا في جانب منهج التفسير القرآني وفي قراءة التاريخ الإسلامي.

وهذا الجانب يحتاج من الباحثين إلى مزيد من البحث والتدقيق لمعرفة نظرية الثقافة الرسالية ، لنتمكّن من بلورتها في صورة أكثر ثراء ووضوحاً من خلال متابعة العطاء الفكري المتميّز للمرجع المدرسيّ (حفظه الله) في كافة جوانبه.

 

الهوامش :
1 / تحولات الفكر والثقافة في الحركة الإسلامية ، زكي أحمد ، ص 64 دار البيان العربي ، بيروت 1992م ، ط1

2 / كما صرحت المنظمة نفسها في كتابها (منظمة العمل الإسلامي في العراق ، التأسيس ، السيرة ، الأهداف) ، حيث قالت ما نصّه (الرسالية ـ أول من أطلق هذا المصطلح المنظمة في أدبياتها الداخلية ثم بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 باعلامها وصحافتها.)

3/ منظمة العمل الإسلامي في العراق ، التأسيس ، السيرة ، الأهداف.

4/ راجع : منظمة العمل الإسلامي في العراق ، التأسيس ، السيرة ، الأهداف.

5/ وقد صرح العديد منهم بذلك ، وكمثال انظر (صحيفة الوقت) البحرينية ، العدد264 ، السبت 11/11/2006م. حول الشيخ حمزة الديري.

6/ سوف نشير إلى ذلك فيما بعد.

7/ راجع (تحويل المعنويات الإسلامية) للإمام الشيرازي ، وكتاب (الحقائق الناصعة في الثورة العراقية سنة 1920 ونتائجها) تأليف فريق المزهر الفرعون.

8/ تطلّع امّة ، قراءة حضارية لنظريات آية الله المدرّسي ، عبد الغني عباس ، ص152 ، ط 1993م ، دار النخيل ، بيروت.

9/ تطلع أمة ، ص 333.

10/ الثقافة الرسالية ، ص 29

11/ المصدر ، ص 39
12/ المصدر ، ص 75
13/ المصدر ، ص 77
14/ المصدر ، ص 77
15/ المصدر ، ص 81
16/ المصدر ، ص 95
17/ المصدر ، ص 113
18/ الحتمية اتاريخية ، والحتمية الإقتصادية و الاجتماعية أو السياسية التي ظرت في الثقافات الغربية في عهد متأخر من نهضتها نتيجة تشوسش الرؤية الحضارية عندهم . (هامش الثقافة الرسالية ، ص 94).

19/ الثقافة الرسالية ، ص 94




الهوامش :
1 / تحولات الفكر والثقافة في الحركة الإسلامية ، زكي أحمد ، ص 64 دار البيان العربي ، بيروت 1992م ، ط1

2 / كما صرحت المنظمة نفسها في كتابها (منظمة العمل الإسلامي في العراق ، التأسيس ، السيرة ، الأهداف) ، حيث قالت ما نصّه (الرسالية ـ أول من أطلق هذا المصطلح المنظمة في أدبياتها الداخلية ثم بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 باعلامها وصحافتها.)

3/ منظمة العمل الإسلامي في العراق ، التأسيس ، السيرة ، الأهداف.

4/ راجع : منظمة العمل الإسلامي في العراق ، التأسيس ، السيرة ، الأهداف.

5/ وقد صرح العديد منهم بذلك ، وكمثال انظر (صحيفة الوقت) البحرينية ، العدد264 ، السبت 11/11/2006م. حول الشيخ حمزة الديري.

6/ سوف نشير إلى ذلك فيما بعد.

7/ راجع (تحويل المعنويات الإسلامية) للإمام الشيرازي ، وكتاب (الحقائق الناصعة في الثورة العراقية سنة 1920 ونتائجها) تأليف فريق المزهر الفرعون.

8/ تطلّع امّة ، قراءة حضارية لنظريات آية الله المدرّسي ، عبد الغني عباس ، ص152 ، ط 1993م ، دار النخيل ، بيروت.

9/ تطلع أمة ، ص 333.
10/ الثقافة الرسالية ، ص 29
11/ المصدر ، ص 39
12/ المصدر ، ص 75
13/ المصدر ، ص 77
14/ المصدر ، ص 77
15/ المصدر ، ص 81
16/ المصدر ، ص 95
17/ المصدر ، ص 113
18/ الحتمية اتاريخية ، والحتمية الإقتصادية و الاجتماعية أو السياسية التي ظرت في الثقافات الغربية في عهد متأخر من نهضتها نتيجة تشوسش الرؤية الحضارية عندهم . (هامش الثقافة الرسالية ، ص 94).
19/ الثقافة الرسالية ، ص 94