من معطيات الثورة الحسينية

اقرأ للكاتب أيضاً

 

حريٌ بنا و نحن نعيش أيام ذكرى استشهاد أبي الأحرار الإمام الحسين أن نستفيد في حياتنا قبل مماتنا من عطاء ثورته المباركة، حيث أن لكلِّ حركة إصلاحية و ثورة اجتماعية تغييرية معطياتها سواء أكانت سلبية أو إيجابية، و لا يخفى على كل حرٍ أبيٍ مدى المعطيات الإيجابية للثورة الحسينية ومدى استفادة الأمة الإسلامية وغيرها من هذه المعطيات، بل حديثاً قال غاندي:( تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر ).

ومع شديد الأسف نلاحظ أحياناً بعض من خطباء المنبر الحسيني يقوم بالتركيز على الجانب المأساوي من قتل الإمام الحسين و إثارة العواطف الجيًّاشة بالبكاء فقط، بدلاً من مزج تلك العواطف بالأفكار النيّرة، إثارة العقول و إفادة الناس من هذه الثورة المباركة ومن معطياتها المتعدِّدة الأبعاد لتعود على الناس بالنفع الكثير.
وحريٌ بنا أن نركِّز في هذا المقال المتواضع على شيءٍ من معطيات الثورة الحسينية العقائدية و الأخلاقية و التضحوية و الإصلاحية و المعنوية و الروحية، آملين من الله التوفيق للإفادة والاستفادة.

  • أولاً- العطاء العقائدي:

يحدثنا التاريخ المعتبر أن الإمام الحسين - كما جاء في سيرته- عندما رفض أن يبايع يزيد بن معاوية وبينما هو في طوافه في موسم الحج أتاه هاتف إلهامي يأمره بأن يحلَّ من إحرامه و أن يجعل حجته عمرة مفردة وإلاًّ سوف يُقتل و إن كان متعلقاً بأستار الكعبة، امتثل الإمام الحسين لهذا الهاتف، وقد كانت هناك إرهاصاتٌ بذلك كان الإمام على علم بها، وعندما كان في المدينة المنورة لزيارة جده وعند القبر بينما هو يزور غفا غفوة رأى فيها جده قائلاً له:(إنًّ لك منزلة عند الله لن تنالها إلاًّ بالشهادة).
إنًّ امتثال الإمام الحسين و إحلال إحرامه و خروجه من مكة للحفاظ على حرمة الكعبة يعد قمة في إيمانه بقضاء الله وقدره مع علمه بأنه مقتول لا محالة لرفضه مبايعة يزيد وتمرده على فسقه وفجوره العلني  بل على الظلم و الاستبداد .

وموقف آخر يضربه لنا الإمام في هذا الجانب، عندما رُمي عبدا لله الرضيع بسهم حرملة في كربلاء أخذ الإمام دمه و رماه إلى السماء قائلاً ( هوّنَ عليَّ ما نزل بي إنَّه بعين الله) يعلمنا الإمام إنًّ كلًّ ما ينزل بنا هو من الله سبحانه وتعالى فكله هيّن و سهل في جنب الله وفي سبيله، وهو القائل :(( رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على عظيم بلاءه فيوفينا أجور الصابرين ).

  • ثانياً- العطاء الأخلاقي:

لقد أعطت ثورة الإمام الحسين دروساً أخلاقية عظيمة مما يجعل المرء المنصف يتوقف عندها و يتأمل فيها ومن تلك المواقف، موقف الإمام مع الحر الرياحي وأصحابه عندما شارفوا على الهلاك من شدة العطش والتعب وهم يسيرون في الصحراء بحثاً عن الإمام وأصحابه، وحين رآهم الإمام وهم بحالة يرثى لها وعلى الرغم أنهم من أتباع يزيد و أزلامه، أنقدهم الإمام من الهلاك حيث أمر أصحابه أن يسقوا القوم من الماء ويرشَّفوا الخيل ترشيفاً.

لاحظ عزيزي القارئ مدى أخلاقيات الإمام الإنسانية، كان باستطاعته أن يفنيهم عن بكرة أبيهم ولكن الأخلاق الإسلامية الرفيعة تأبى ذلك.

بل إنَّ الإمام ومع عظمته و مكانته وهيبته وهو ابن رسول الله سقى أحدهم بيده المباركة الشريفة وهو علي بن الطعًّان ومع شديد الأسف هذا اللعين نفسه شارك في قتل الإمام الحسين.

وقد شملت أخلاقيات الحسين حتى الحيوان و الرفق به حيث لم ينسَ خيولهم بل أمر أصحابه أن يرشفوا الخيل ترشيفاً، هذا مع حاجة الإمام إلى الماء وهو في سفر، مما يعطينا درساً في العفو و الرحمة و الرفق و الشفقة والإنسانية، درساً عملياً تراه بعين القلب وكأنه متجسدٌ أمامك ينبض بالحيوية و الحياة مما يؤثر تأثيراً بالغاً على النفس ويصقلها صقلاً أخلاقياً جميلاً.

درسٌ آخر يعطينا إيَّاه الإمام في المساواة و التواضع عندما استشهد العبد جون وضع خدَّه على خده وهو يبكيه ويندبه تماماً كما فعل مع أبنه علي الأكبر.

وموقف آخر يدلُّ على عظمة و نبل الإمام و أخلاقه العالية، كما جاء في سيرته الكربلائية، بكاؤه على أعدائه يوم المعركة في كربلاء و عندما سُئل عن بكاءه قال :(أبكي على هؤلاء سوف يدخلون النار بسبب قتلي) هذا الموقف النبيل يربينا و يروض أنفسنا على الرحمة و الرأفة و التسامح و العفو حتى عن الأعداء كما قال أمير المؤمنين علي : ((لا يحيف على من يبغض( أي لا يظلم من يبغض) ولا يأثم في من يحب))، وموقف آخر من أبي الفضل العباس عندما نزل المشرعة بعد أن أجلى الأوغاد عنها لأنهم منعوا معسكر الحسين من الماء، وبينما كان العباس يملئ القربة أحسَّ ببرد الماء وهو عطشان عطشاً شديداً فملأ كفه ليشرب لكنه تذكر عطش أخيه الحسين حين ذاك رمى الماء من كفه وقال (هيهات أشرب الماء و أخي الحسين عطشان) هذا الموقف العظيم يدلُّ على عظمة شخصيَّة العباس و على التربية الإسلامية الأصيلة التي تلقاها على يد والده الإمام علي الذي زرع فيه تلك الروح الأبية و المبادئ الإسلامية النبيلة

  • ثالثاً- العطاء الإصلاحي:

إن مبدأ خروج الإمام الحسين على فساد وإفساد يزيد قام على أساس لإصلاح في الأمة و تطبيق أصل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وهو القائل( لم أخرج أشراً و لا بطراً و لا ظالماً و لا مفسداً وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي أُريد أن آ مر بالمعروف و أنهى عن المنكر)إن الإمام بتقديمه الغالي و النفيس من عرضٍ ومال و أهل و أولاد و أصحاب وكل شيء في سبيل الله ومن أجل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قد رفع من أهمية هذا الأصل في عيون المؤمنين في الوقت الذي توقف فيه الآخرون لدى تطبيقهم لهذا الأصل عند حدود منع الضرر الشخصي، وبذلك قد حطّوا من قيمة هذا الأصل و أهميته.

  • رابعاً- العطاء التضحوي:

إن ثورة الإمام الحسين تبقى على مر العصور مثالاً يُحتدى به في التضحية و الجهاد و الاستشهاد و مقارعة الظلم و الظالمين، لقد قدَّم الحسين نفسه قرباناً في سبيل استقامة الدين الذي جاء به محمد حتى قيل:(الإسلام محمدي الوجود حسينيُ البقاء) أي كان وجود الإسلام وظهوره بالنبي محمد وكان استمراره وبقاؤه بتضحيات الإمام الحسين، حتى الشباب الذين كانوا في عمر الزهور اليافعة قدموا أنفسهم للاستشهاد في سبيل الحق، مثل علي الأكبر، هذا البطل الشاب الذي كان أول من استشهد من أهل الحسين، وله موقف يدلُّ على عظمته و شجاعته، وهو عندما غفا الإمام الحسين وهم في الطريق إلى العراق رأى رؤيا استرجع الإمام منها بعد غفوته، وحين سمعه علي الأكبر سأله: لمَ استرجعت يا أبي، قال:سمعت هاتفاً يقول القوم يسيرون والمنايا تسير بهم، فقال علي الأكبر: ألسنا على الحق يا أبي ؟ قال:بلى بابني، قال:أذن لا نبالي أوقعنا على الموت أو وقع الموت علينا.

هذا الموقف و مواقف كثيرة في كربلاء، مثل خروج القاسم بن الحسن للجهاد و ا ستشاده في سن لم يبلغ الحُلم، أصبحت تلك المواقف البطولية الاستشهادية نبراساً يسير عليه معظم المجاهدين في تقديم أنفسهم من أجل الإسلام العزيز و نصرته، و الذي حصل في لبنان و فلسطين من عملياتٍ استشهادية مثالٌ على ذلك، بل حتى الأمهات في لبنان و فلسطين في تقديمهنًّ أبنائهنًّ للاستشهاد كنَّ يقتدين بالأمهات اللاتي قدًّمن أبنائهنَّ في كربلاء من أجل نصرة الحق.

  • خامساً- العطاء الروحي و المعنوي:

لقد كانت ملحمة الحسين مسرحاً للعطاء الروحي و المعنوي، يقول مفكر الثورة الإسلامية الشهيد السعيد الشيخ مرتضى المطهَّري(رح):( من خلالها] أي الثورة الحسينية [ يستطيع الإنسان أن يدرك عظمة القدرة الأخلاقية و الروحية و المعنوية للبشر، كما يستطيع أن يفهم ويستوعب حجم المقدرة البشرية على العطاء و التضحية و الظهور بمظهر التحرر و الدفاع عن الحق وعبادة الحق تعالى رب العباد).أقول: و المتتبع لقضية كربلاء يلاحظ بروز معاني الصبر و التحمل و الشجاعة و التضحية و الإقدام وعدم التردد والحيرة و الصبر و الرضا و التسليم و المروءة و الكرم و النبل و الإيثار و السماحة.......الخ من الصفات الروحية و المعنوية التي خلّدها الإمام الحسين و أصحابه.
كما يعجز القلم عن وصف الحالة المعنوية التي تمتعوا بها في ذلك الوقت التضحوي الصعب على الإنسان.

بعد أن عرفنا أهمية النهضة الحسينية للإسلام و أهميتها في حياتنا، ماذا علينا عمله حتى نرفع أنفسنا إلى مستوى المسؤولية في إصلاح مجتمعنا ونرفع قدرنا عند الله والرسول( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله....) مع الأسف الشديد إنَّ من عادة أهل المنبر الحسيني عرض و تضخيم الجانب المأساوي والتراجيدي في قضية كربلاء و إبراز جانب الظلم و القسوة التي حلت على الحسين و أهله و أصحابه عندما يريدون تضخيم القضية- وهي ضخمة بذاتها ومأساتها- بينما يفترض إبراز الجوانب المعنوية و الروحية التي تعود على المرء بالفائدة الكبرى في مسيرة حياته، لهذا يجب علينا التأسّي و التأثُّر واقتباس الجوانب العظيمة و المشرقة التي سطرها الإمام الحسين بدمه وتضحياته و المضي قدماً نحو النهوض بالأمة وإصلاحها عن طريق تطبيق الأصل المنسي لذي الناس ألا وهو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر....) و اقتباس تلك الأنوار المعنوية و الروحية التي شُعّت من نور الإمام الحسين وتنوير نفوسنا منها حتى نصل إلى أكمل الإيمان ونفوز بسعادة الدارين وكما قال تعالى:(وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقَّربين).