باحثٌ عن الحرية ...

عقيلة آل حريز *
اقرأ للكاتب أيضاً

 

(لا شيء يقيس حدود حرية المرء غير قناعته بحرية الحقيقة التي يطلبها لنفسه .. لا شيء يمنع أن نعود عن قراراتنا التي كنا قد اتخذناها مسبقاً جراء التباس الحقائق علينا لفترة من الزمن، غير المكابرة والعناد الذين نصنع منهما هالة خرافية لتقديس تمثال شخصياتنا وكأننا نؤلهها ، فتصبح  المتضرر الوحيد في صفقة ما، حتماً لن تكون هي الرابحة  .. ) .

عقيلة آل حريز

* * *

 وقف مشدوهاً أمام شرعية المعركة يراقب كيفية سير الأمور فيها ، وكان وقتها مترجلاً فرسه ، أمسك كنانته بيد مرتعشة، وشد قوسه مصوباً سهمه نحو الجيش, وكانت أفكاره تضطرب هي الأخرى مع خفقات قلبه التي لم تنتظم منذ أن التقى بهم .

استعد للقتال مع غيره من المقاتلين ، لكنه حين سمعه يتحدث ويخطب في القوم، أدركته الحيرة   فأصابته برعشة كانت أشبه ما تكون بانتفاضة روح وعقل لضمير حي ، يعي معنى الحرية وأبعادها .

اتجه لعمر بن سعد قائد الجيش يسأله عن صدق رغبته في القتال ، أحقيقة هي ، أم لهذا الرجل خلاص غير الموت ، وكأنه يبحث عن خلاص لما يرفضه ضميره ، فلم يجد منه جواباً غير قسم غليظ .. لكنه تحدث معه عن كل ما كان يؤمن به داخله ، ويعتقده بشأن شرعية المعركة وكيف يمكن أن تسير بدون حاجة لسفك الدماء الشريفة وانتهاك حرمتها، وكان في حديثه هذا يبدو قلقاً على  مآل سير الأمور ، مشدودة أعصابه كوتر القوس الذي يحمله تماماً, مرهق النفس خائر القوة يتوق لمرفأ يحمل عنه هذا الثقل فيريحه قليلاً ، قليلاً .. حين فرغ من حديثه , رفع رأسه  ليسمع الجواب الأخير منه :

-       " أي والله ، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي"

كان ما سمعه أشبه بصاعقة هبطت عليه فجأة من السماء ، شعر أن لا فائدة من محاولة الكلام معه ، تركه وانعزل بعد أن تيقن أن القلوب تجمدت وأصبحت كأحجار صلدة، و معها تكلست العقول على ما هي عليه من غي وظلال .

بدأ يحدث نفسه مستعرضاً لحظة النصر التي يبتغيها في هذه المعركة ، أهي في عمر وأمانيه الخادعة ببريق سيزول سريعاً ، أم في هاتف كان يراوده حين خرج من الكوفة للقتال ،

"أبشر يا حر بالجنة"

متسائلاً وقتها ، كيف أُبشَّر بالجنة وأنا أغدو لقتال سبط النبي وآل بيته ؟ .

أدرك الآن ما معنى كل هذا ، كما عرف أين ستكون حريته التي ينشدها، وحدث نفسه ، "لكنها باهظة الثمن" .. وحين قرر ما يريد، دنى من جيش "الحسين" وقد اتضحت الرؤيا بالنسبة له تماماً فلم يعد ثمة مجالاً للتراجع ، شاهده "المهاجر ابن أوس" يدنو من جيش الحسين ببطء، فظن أنه يريد أن يحمل عليه ليقاتله، لم يرد عليه "الحر " جواباً حين استفهم منه عن صحة ما اعتقد، بغير رعشة سكنت روحه ففضحت له أمر قراره الذي اعتزمه، فقال له المهاجر والعجب يرتسم بحدود الدهشة على إيقاع كلماته :

-       والله لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك يا حر ، فما هذا الذي أراه منك؟

أجابه بيقين صنعته القناعة بحرية الحقيقة التي يبتغيها :

-       إني أُخير نفسي بين الجنة والنار ، والله لا أختار على الجنة شيئاً ولو أُحرقت بالنار.

ثم تركه وركض بجواده متجهاً نحو الحسين بعد أن نكس رمحه، وطأطأ برأسه حياء منه وخجلاً يريد التوبة إليه وهو يخاطبه :

-   يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان ... وإني جئتك تائباً مما كان مني ، فهل ترى لي من توبة فأتوب ؟

رد عليه الحسين :

-       نعم ، يتوب الله عليك .. فانزل يا حر

أجابه بحماس :

-       أنا لك فارساً خيرا مني راجلاً .. أقاتلهم ساعة والى النزول يصير آخر أمري .

انصرف الحر نحو المعركة يبتغي حريته ، انصرف عن الحسين يشتري آخرته، انصرف ليقاتلهم ، بعد أن أعاد ترتيب نفسه واستبدل موقعه من الحقيقة التي هو الآن على يقين تماماً من صحتها .

خرج الحر للقتال، فقاتل طويلاً حتى خارت قوته، فخفت صوته، وسقط رمحه، وسكنت روحه للأبد، لم يعد الحر للحسين من المعركة ، كما ذهب عنه إليها ، فقد صعدت روحه نحو السماء .. لكنه عاد بشيء آخر .. عاد لنا بحرية كان يبحث عنها طويلاً، و بحقيقة يطلب منا أن نتبعها مثله حين سعى في طلبها فاستجابت له، وخلدت حريته التي قاتل بروحه لأجلها ، فصعدت معه إلى السماء تعانق الخلود ، تزفها شهادة الحسين في حقه :

-       "ما أخطأتك أمك إذ سمَّتك حراً ، فأنت حرٌ في الدنيا وسعيد في الآخرة" . 

 

عقيلة آل حريز / محرم / 1428هـ

 

كاتبة وقاصة (سعودية )