قلائد الربيع القادم

عقيلة آل حريز *

 

بالأمس مصادفة كنت مع رفيقة لي تزور قبر والدها، وعرجت بي نحو قبور شهداء القطيف .. تركتني ومضت لشأنها فوقفت على راحة الصمت برهة مشدودة نحو شواهد قبورهم .. أرقب في تزايد أعدادهم جرح يتسع في خاصرة القطيف كشاطئ أفزعه هيجان البحر بضجيجه المتضارب، يقص ما تيسر من وجع على رياحه المسافرة ..


كنت أتأمل رهبتهم بصمت يسكن المكان ، وأتفرس في صورهم المعلقة على شواهدهم وابتساماتهم المتألقة تشق صدر قبورهم كأنها  تحييها .. وحتى نظرتهم الطرية  لم تستطع أن تمحوها رياح الموت ولا أن تختلسها من ذرات الهواء الذي نتنفسه ..


كنت أتساءل بداخلي عن هذه الزهرات اليانعة وهي تبتسم وقت التقاط الصورة لها .. هل كانت تعي أن ابتسامتها العفوية ستكون عنوانا لها في حدث مهم وعظيم سيخلدها ويطفئ حرائق الكلام حتى مع شهادتها.. ترى لو كانت قد عرفت هل سيتغير الأمر ويكسر الغياب ..


أحسب أن وجهها سيزداد وضاءة وسيشرق نورا على نوره .. كنجوم تزين صدر السماء .. وتشعل مواقد الحنين كلما طالعناها ..

وبالمصادفة أيضا أن يكون مسلم بن عقيل حدث الليلة التاريخي وأن نتلو حصته بالخلود والشهادة .. تساءلت كعادتي وأنا أتابع دقائق أحداثه والمواقف التي مرت عليه في الكوفة حيث كان رسولا للحسين عليه السلام .. تواتر الأحداث وتسارعها .. واختصام الطرقات في وقع خطواته، وتخلي الرجالات عنه وتنكرهم له في شبهات الليل الغاشم ، ومضيهم لبيوتهم بفعل قهر السلطة وجورها على رقاب الناس وإرهابها لهم، وانتصاب القلق في وجوههم كفزاعة جللها الخوف ..


تأملت مليا في موقف النسوة والأمهات وهن يبعدن رجالهن وابنائهن عن اللحاق بمسلم ابن عقيل ويتعلقن بعباءاتهم خوفا عليهم من دخول الحرب وإمعانا في نهيهم بمنطق مالنا ومال السلاطين والحروب واجترارها .. حتى ركض الطريق مبتعدا عن ظل الحقيقة واختصر حكاية التاريخ بقفزة أو دفعة من علو قصر شاهق هشمت أضلاعه وعجلت حتفه ..


تلقائيا رحت أستحضر موقف أمهات شهداء القطيف اللاتي كن يطفن حول البياض ككعبة أوجبتها العبادة .. يزغردن بشوق  ويتزين بلهفة الإقبال على فريضة يؤدينها لزفاف ابنائهن في عرس الشهادة ، يفعلن إيمانا ويقينا بحقيقة الموقف والقضية التي راح بسببها فلذات أكبادهن يزهرن في ياسمينات الشهادة واحدا تلو الآخر  ..


ترى ما الفرق بين أمهات زمن مسلم وأمهات زمن الشهداء عندنا .. وهل لو كانت أمهات شهدائنا حاضرات في زمن مسلم والحسين لغيرن في وقائع التاريخ بهذا الصبر وهذه الروح الإيمانية التي نبض النور في قلبها فراحت تضحي من أجل الإيمان واليقين بالمبدأ فانعطفت أحزانهن وانسكبت في صلب القضية لتحييها  ..


حسب ظني أن الوقت سيحتضر مسلما بصبرهن الممزوج بالإيمان في زمن جرفه طوفان حارق لحظة بلحظة ..فراحت عصافيرهن الخضراء تمشط ضوء الشمس وتقف على غصن شجرة عالية تستمر بالنمو كلما شهق الفجر وشعت الشمس لتمنح الحياة من دمها قلائد الربيع القادم

كاتبة وقاصة (سعودية )