ميراث التعامل الحضاري

عقيلة آل حريز *

 

رغم كوننا ندرك بأننا نعيش في عالم راق متحضر عبر من خلال خبرة  الشعوب المختلفة مراحل عديدة من التجارب المثمرة فوصل لمستوى عالي من الفكر المتوازن على الأقل بالدرجة التي يسمح لنا بها لأن نتعامل مع بعضنا بمستوى رفيع ، لكننا للأسف نظل مقيدين بهواجس الماضي الذي عاشه الإنسان من قبل في العصور السابقة من رغبة في العداء وإذلال للآخرين بإدانتهم أمام الجميع ووصمهم بأمور تحمل في مضامينها السلبيات التي نمقتها ، فهل كان التاريخ بالفعل في جميع مراحله يعكس صور لمثل هؤلاء الناس في واقعهم الذي كانوا يعيشونه ؟؟

لا أعتقد بذلك تماماً ..  إنه نوع من إلقاء اللائمة على الآخرين أو ربما نوع من التنفيس عن كوامن الداخل،  نحن فقط من يعرف مبرراتها وأسبابها ، فلا يمكننا بأي حال من الأحوال تصور أمور سيئة لنخص بها مجتمع من المجتمعات  دوناً عن غيره ، لأننا وبصراحة شديدة نمتلك مثل هذه السيئات - إذا صح لنا تسميتها بهذا -  لكنها تكون موزعة بين أطياف المجتمع وجوانبه وطبقاته، نعم ..  قد تكثر في أحدهم وتقل في آخر لكن ذلك لا يعني خلوه منها ولا كثرته فيها لتعميمها.

ولست أظن بأن العصر له دخل في طريقة السلوك ولا أن اتجاهه قد يؤثر عليه ولا يمكن بأي حال نكران هذا الأمر، لكنه عموماً ليس العصب الذي تلتف حوله القضية، وإلا لوصمنا كل المراحل السابقة لعصرنا بالوحشية والهمجية ولما كان لدينا قيم يمكننا توارثها تعلمناها من الآباء والأجداد عرفناها باسم الأخلاق الكريمة الطيبة المستمدة من عقائد الإيمان الصادقة ، ولما كان للشرائع دور أو دخل فيما نعتنق من ديانات وعقائد بتصحيح سلوكياتنا وتعديلها، إن الأمر يكمن في تسلط الإنسان ولذته بإلحاق الأذى حين يتشبث بمنطقه في ذلك ربما يبدأ يتحدث عن نظريات وفلسفات كثيرة حول البقاء والقوة والأنفع والأصلح والانتقام والمنطق والمعقول و اللا معقول ...الخ ، لكنه في حقيقة الأمر غالباً ما يشعر بلذة في إيذاء الضعفاء بمنطق أنها تافهة وضعيفة وجائعة وهي أقل منه،  وكأن الحياة أعدت له وحده،  وقد يتخذ من هذا الرأي المتجني بدايات لدمار أكبر حتى أنه قد يمتد ليشمل الروح وهي أقدس ما خلق  فيه .

بعضنا يقسو لأن الآخر ضعيف وبعضنا يقسو لأنه قبيح أو مريض أو لأنه فقير أو غريب وقد ننسى أحياناً بأن الله هو الذي وزع هذه الأمور بين عباده وأنه من الممكن أن يسلبها منهم أو يقلب الآية عليهم يوماً وما أكثر الدلائل التي تؤكد لنا هذه النتيجة ..!!

 إن شيئاً ما يدفعنا أحياناً لأن نُقيم سلوكياتنا برفق ، بينما نُقيم سلوكيات الآخرين بقسوة  قد لا يكون متعة التحليل أو جلد لذات الآخرين  ولا ادعاء الإصلاح في المجتمع،  لقد جبل الإنسان على أن يبرئ نفسه من الأخطاء دوماً  وبأن يكون كاملاً ولو سمح له لأدعى بأنه ملاك .. كما جبل على إدانة الناس وتجريحهم لو حصلت له مناسبة خاصة إن كان فاقداً لميراث التعامل الحضاري ، لكن الصحيح دوماً هو ما تقيسه لنا التجربة التي يمنطقها العقل المدرك  للحقائق .

و ربما يبدو أحد طرق التقييم  أشبه بنظام داخلي يوجهه الضمير الإنساني الذي  يصدر من العقل الواعي  والعارف بحقائق الأمور، كالتقوى الناتجة عن المعرفة بالله والمؤدية للرغبة في الوصول لطهارة الروح ومحاولة السكون بطمأنينة للعيش بسلام،  ويمكننا إذاً تسميتها بنظام " محاسبة النفس " ، المحاسبة التي تبني لا تهدم ، فلو جئنا لهذا الأمر لوجدنا أن البعض ينكص ويتراجع أمام أخطائه التي ارتكبها بحمق أو ارتكبها الآخرين في حقه، لينغلق عليها ويعرقل طاقاته البشرية والإبداعية ويشعر بعدم أهميته وجدواه للخوض في غمار الحياة وبالتالي يفقد المجتمع عضو قد يكون منتج وفعال أكثر من كونه ضار هذا لو رجعنا لمساحة الخطأ في حياته والتي غالباً كانت ستضره وحده مهما كان حجمها، أما من ناحية الحساب الايجابي الذي أتحدث عنه فلست من يدعي بأن الجديد ما أقوله لأن جميع عقائد السماء تنص على الدعوة لهذا الأمر بمحاسبة النفس والعمل على الإكثار من جوانب الخير والتقليل جوانب الشر فيها، وخضوع المرء  لرأي  الآخرين فيه عندما يسمحوا لأنفسهم بمحاسبته خاصة لو كان رأيهم فيه سلبي لهو ظلم يرتكبه تجاه نفسه لو صدقهم ، لأنه يعطيهم بذلك الفرصة لأن يتسلطوا عليه ويحاكموه ولأنه معهم من الأساس محكوم برحمة الله وعنايته ولطفه فسلطة الحكم والإدانة ليست من حقهم، لكن لا مانع من التعديل والتوجيه لو وجد ما يستدعي ذلك خاصة ممن نثق بحسن نواياه معنا.

ومن الجانب الآخر ربما تكون هي مجرد المتعة فقط في تصيد الأخطاء والرغبة في التفوق أو إسقاط بعض السلبيات عليهم لكن الأكيد هو أنهم حين يبدءون بمحاسبة الآخرين بقسوة متناسين أنفسهم التي لا تكاد تخلو من أخطاء وما قد تنطوي عليه من عيوب قد تكون جسيمة فهم في نهاية الأمر يفتقدون لأبسط  الطرق في ميراث التعامل الحضاري

 

كاتبة وقاصة (سعودية )