شهر الله: رحلة في آفاق الطهارة ؟!

باسم البحراني *

 

 ها هو ذا شهر رمضان الكريم يُطلُّ علينا من جديد، حاملاً معه آمالاً تتشوّق إلى لقائه منذ عام مضى، إحدى عشر شهراً مضت ثقيلةً على من هيّمهم حبُّ الله، وذاك لأن شهر رمضان هو شهر الله، وشهر العبادة، وشهر القرآن وربيعه، وبالتالي شهر رمضان هو ذلك الموسم الذي تورق فيه القلوب، وتتفتح فيه أزهار الأفئدة المشتاقة، وبكلمة هو شهر الحب الإلهي بحق...

 ولكن، وللأسف الشديد، كثيرٌ منا يجهل قيمة هذا الشهر العظيم الذي ساقه الله إلينا ليتلَّطف علينا بكرمه ومنّه وجوده العميم، كما جعله سبحانه فرصةً لعباده ليراجعوا أنفسهم، ويتأملوا في مسيرة عام أو ربما عمر كامل، ومن ثم يستأنفوا العمل بروح منفتحة على رحاب الرحمة الإلهية الواسعة، مبتعداً عن ترسبات الماضي وسلبياته، ولكن وكما ذكرتُ نحن في حاجةٍ ماسةٍ لتوثيق صلاتنا ومعرفتنا بالقيمة الحقيقية المودعة في هذه الساعات المباركة، والتي لا يعلم مقدارها إلا الله، ويكفينا في ذلك أن الله جعل ليلةً واحدةً منه خيراً من ألف شهر.

 أتذكر أنني سمعتُ حكايةً مضمونها أن قوماً مروا في أرض يطبق عليها الظلام، فخاطبهم قائدهم بأن من أخذ من هذه الأرض سيندم، والذي لن يأخذ لن يكون أحسن حالاً من صاحبه، فانقسم القوم بين فريقٍ قرّر عدم بذل أي جهدٍ أو عناء فمادام أنهم سيندمون أخذوا أم لم يأخذوا فهم لن يأخذوا، أما القسم الآخر فقالوا في أنفسهم أنهم ما داموا سيندمون، فلماذا لا يحاولون أن يتعرفوا على سبب هذا الندم، فهم لن يخسروا شيئاً على أي حال، وهكذا، حتى إذا ما خرجوا من تلك الأرض إلى حيث النور، اكتشفوا أن تلك الأرض كانت مليئة بالأحجار الكريمة والثمينة، فمن أخذ ندم على أنه لم يأخذ أكثر، ومن لم يندم عضّ على أصابع الندم لأنه لم يكلّف نفسه بعض الجهد ليأخذ شيئاً منها، ولكن، ولات حين مندم.

 وإذا ما تأملنا حالنا مع هذا الشهر المبارك والكريم، لوجدناه لا يختلف كثيراً عن هذه الصورة التي تحكيها هذا الحكاية، فكم منا من يعيش هذه اللحظات القدسية دون أن يستفيد منها ولو المقدار اليسير، وحتى لو أن يستفيد منها فإنه لا يتجاوز المقدار البسيط كما ذكرتُ؛ لذا نحن مدعوون إلى محاولة اكتشاف أسرار هذه العظمة، وثق تماماً –عزيزي القارئ- أنك كلَّما اقتربتَ أكثر من معرفتك لقيمة هذا الشهر وحرمته ومكانته، كلما التصقت به أكثر فأكثر، فـ"الناس أعداء ما جهلوا" كما يقول مولى الموحدين أمير المؤمنين الإمام على ابن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام.

 وفي ظني أن من أهم الوسائل التي يمكن أن تكشف لنا شيئاً من هذه الأسرار هي أحاديث بيت العصمة والطهارة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهم الأعرف بهذه الأسرار والخفايا، وفي مقدمتهم الرسول الأكرم محمد ، الذي قال تلك الخطبة الرائعة في آخر جمعة من شعبان ليتهيأ الناس لاستقبال شهر الله الكريم، هذه الخطبة التي كلما قرأتها جعلتك تعيش في عالم نوراني لا يمكن وصفه، وشحنتك حماسةً واندفاعةً، فكأنك تودُّ حينها أن لا تدع لحظةً واحدةً من لحظاته تضيع منك دون أن تستثمرها فيما يقرِّبك فيها من الله عزّ وجلَّ، هذه الخطبة التي يقول فيها صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين: "عن أحمد بن محمد بن سعيد، عن علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه عن الرضا عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبنا ذات يوم فقال: أيها الناس انه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة، وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فان الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يُتحنّن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلاتكم، فإنها أفضل الساعات، ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه، أيها الناس إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أو زاركم فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين، وأن لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين أيها الناس من فطر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه قيل: يا رسول الله فليس كلنا نقدر على ذلك، فقال صلى الله عليه وآله اتقوا النار ولو بشق تمرة، اتقوا النار ولو بشربة من ماء أيها الناس من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازا على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ومن كف فيه شره كفَّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيما أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضا كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة علي ثقل الله ميزانه يوم تخفف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور، أيها الناس إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة، فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عنكم، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم، قال أمير المؤمنين عليه السلام: فقمت فقلت: يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله"  .

 هذه الخطبة التي لو تأملها الإنسان، وقرأ ما وراء سطورها لاكتشف أي فرصةٍ يعيشها دون أن يعلم، ولعرف أن عليه المسارعة إلى استثمارها أحسن استثمار، فلعلها لا تتكرر مرةً أخرى.

 ولعل نظرةً سريعةً في هذه الكلمات الربانية التي أفاض بها سيد المرسلين نجد أن هناك خطوطاً عريضةً تعرضتْ لها هذه الكلمات، ونحن بدورنا نشير إلى أمرين مهمّين:
 الأول: الجانب العبادي الروحاني، وما يشتمل عليه من صلاةٍ ومناجاة يزخر بها هذا الشهر الكريم كدعاء الافتتاح وأدعية السحر... كلها كفيلة بأن تربي الإنسان وتعيده إلى الجادة، فتربية الإنسان وغرس القيم الفاضلة فيه، وتطهيره لهو هدفٌ سامٍ من أهداف هذه الكلمات الرائعة.

 الثاني: من الأمور المهمة التي تتعرض لها هذه الكلمات هو الاهتمام بالجانب الاجتماعي من زيارات وصلة أرحام، وما أشبه، إذ لا يخفى أهمية ذلك على المجتمع، مما يقوّي العلاقات والروابط بين أبنائه.

 ودعنا نتساءل، ما السبب الذي يجعل من هذا الشهر يحوز على كل هذه الأهمية؟! وما الذي يدعو الرسول وأهل بيته الكرام عليهم السلام، يدفعوننا دفعاً إلى الاغتراف من معينه الروحاني الجمِّ؟!!

لولم يكن ذا شأنٍ عظيمٍ عند الله تبارك وتعالى.

 فلنتدبر فيه جيداً حتى لا تفوتنا الفرصة السانحة...

 

كاتب ( السعودية )