حسن الخلق
من أهم الأمور التي أولاها التشريع المقدّس أهمية قصوى ، وأخذت مساحة كبيرة من دقائق التقنين والتشريع الأخلاق الحسنة ونعني بها صدور الأفعال الحسنة عن ملكة راسخة فـي النفس بسهولة ويسر دون الحاجة إلى التفكير والتروّي .
ومما يؤسف له في واقع كثير من المتدينين أنهم يولون بعض الأوامر الشرعية ـ كالصوم والصلاة ـ إهتماماً كبيراً ، ويتناهون عن بعض المحرمات الشرعية البينّة كالخمر و الزنا و ..... ولكنهم لا يلتفتون إلى واقعهم الأخلاقي وحسن سلوكهم مع الآخرين حتى يتراءى للبعض أن مسألة الأخلاق ليست بتلك الأهمية في الإطار العام للتشريع أو أنها من النوافل غير الملحة التي يصح التغاضي عنها .
مع أن مطالعة يسيرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة كافية لإعطاءنا بصيرة واضحة تجلّي الصورة وتجعل من المسألة الأخلاقية العنصر الأهم في التشريع حتى يكون الدين قائماً على أساس الأخلاق فهذا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول : إنما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق ، وهو بذلك يحصر مهمته من البعثة والرسالة بتتميم مكارم الأخلاق ، ومع كون الحصر هنا إضافي قطعاً إلاّ أن ذلك يعطينا ويرينا مدى التشدد الذي يريد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إبداءه تجاه المسألة الأخلاقية ويقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر : (الدين المعاملة) مما يشي بنوع من التوأميّة بين التديّن وطريقة التعامل مع الآخرين ، ناهيك عن كثير من الأحاديث التي تتجه بنفس الإتجاه وتؤكد عين هذا المضمون .
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : أكثر ماتلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق [1].
ويقول الإمام الصادق : إن الله تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه ويروح [2].
وعنه : إذا خالطت الناس فإن استطعت أن لا تخالط أحداً من الناس إلاّ كانت يدك العليا عليه فافعل ، فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة ويكون له خلق حسن فيبلّغه الله بخلقه درجة الصائم القائم[3].
وعن الإمام الرضا عن آباءه ـ عليهم السلام ـ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : عليكم بحسن الخلق فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة وإياكم وسوء الخلق فإن سوء الخلق في النار لا محالة[4].
ويبقى الإشكال في البعض الذين يستثقلون تغيير طباعهم والإشتغال بتزكية أنفسهم وتهذيب أخلاقهم ، بل يزعم البعض أن أخلاق الإنسان غير قابلة للتغيير ، وأن الطبع ـ كما قالوا ـ غلب التطبع ، وراحوا يسردون الأدلة والبراهين التي زعموا دلالتها على ذلك ولكن التجربة وواقع المرتاضين والمزكين لأنفسهم أقوى دليل على إمكان ذلك ، وقد قيل أن الوقوع دليل الإمكان ، بالإضافة إلى أن الإقرار بذلك يعني إبطال وصايا الأنبياء ومواعظهم ، وهذا هو القرآن الكريم يصرح قائلاً ﴿قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها﴾[5] وكيف يُدّعى عدم إمكان تغيير الطبع البشري وقد دلت التجارب على تغييرطباع البهائم والحيوانات، فكيف بالإنسان وهوالمكلّف الحر والمختار .
نعم ، لكنّ ذلك يحتاج إلى عزيمة وهمة وإرادة صلبة وقبل كل ذلك الإقرار بسوء هذا الواقع وبعده عن الخط المستقيم الذي رسمه الله لعباده بل الإعتراف بحرمة بعض الأخلاق السيئة وإن الإنسان معاقب عليها كما يعاقب على تركه الصلاة والصوم ، نقول ذلك لأن أهم المثبطات عن تغيير النفس ـ فوق ما ذكر ـ إستسلام الإنسان لأخلاقه السيئة ظانّاً أنها أمور لاعقاب عليها أو أن العقاب عليها سهل يسير وهذا بذاته ما جعل كثيراً من الأمراض الأخلاقية تتفشّى في أوساط المجتمعات الدينية كالغيبة والنميمة والسخرية والإفتراء والبهتان حتى صارت تشكل زاداً للمجالس يأكل منه الجميع دون أدنى إنكار أو تحرج مما يجعل من ممارسة هذه الذنوب أمراً سائغاً هيّناً وشر الذنوب ما استخف به صاحبه.
وحين يصوم الإنسان فتصوم معه بعض الجوارح وتنمو فيه روح الإرادة فإن ذلك يمهد الطريق لمن يعزم على ترك رذائل الأخلاق والتحلّي بمحاسنها فيصبح هذا الشهر منطلقاً لتصحيح مسيرة الإنسان في أخلاقه وهي على نوعين :
الأوّل : مايرتبط بسلوكه الشخصي كالغضب وعدم السيطرة على اللسان في الثرثرة والهذر من الكلام .
الثاني : مايرتبط بسلوك الإنسان تجاه المحيطين به إبتداءاً من عائلته وأسرته وإنتهاءاً بالمجتمع المحيط به كالغيبة والنميمة وخشونة الطبع في العلاقة مع الآخرين .
نعم ، ليكن هذا الشهر الشريف وأجواءه الروحيّة محطة إنطلاق نحسّن من خلاله طباعنا ونكف عن الآخرين أذانا ونصل فيه أرحامنا إمتثالاً لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم (أيها الناس من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام ومن خفّف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفّف الله عليه حسابه ومن كفّ فيه شره كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه ) .
ومن نافلة القول التذكير بأن إعتدال الأخلاق على جادة الشرع تنشأ أولاً بالتطبّع حتى يصبح لدى الإنسان طبعاً إذ أن الأخلاق إمّا أن تكون من طبع الإنسان وجبلته أو مكتسبة بالمجاهدة والرياضة بحمل النفس على الأعمال التي تتناسب مع الخلق المطلوب فمن أراد أن يجعل من نفسه حليماً ـ مثلاً ـ فعليه أن يتكلّف الحلم بمشقتة ويواظب عليه تكلّفاً مجاهداً لنفسه حتى يصبح الحلم له طبعاً وهذا مايحتاج إلى ثبات ونبذ اليأس والتوكل على الله .