(29)
المترفون وما يفعلون
قال ابن منظور في لسان العرب: "الترَفُ: التَّنَعُّمُ، والتُّرْفةُ النَّعْمةُ، والتَّتْريفُ حُسْنُ الغِذاء. وصبيٌّ مُتْرَفٌ إذا كان مُنَعَّمَ البدنِ مُدَلَّلًا والمُتْرَفُ: الذي قد أَبْطَرَتْه النعمةُ وسَعة العيْشِ. وأَتْرَفَتْه النَّعْمةُ أَي أَطْغَتْه".
فالمترف هو المقبل على الدنيا وملذاتها دون حدود، كما قال تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ). فهؤلاء المترفون منقطعون للدنيا بكلهم، مقبلون على شهواتها وزخارفها وزبرجها، منقادون لها، يتبعون خطواتها دون أدنى تبصر.
ولذا كانوا هم أسّ الفساد في كل مجتمع من المجتمعات البشرية، يقفون دائما في وجه الأنبياء والمصلحين، لأن هؤلاء يدعون إلى الحق، ويأمرون الناس بالقسط، ويحاربون الظلم، فينبري لهم المترفون معارضين دعوتهم. يقول تعالى: (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ). فالمترفون يكفرون بالرسالات قبل تفحصها، استكبارا منهم، واغترارا بما لديهم من نعم زائلة يجعلونها معيار أفضليتهم على غيرهم.
إن انغماس المترفين في الحياة الدنيا جعلهم لا يبصرون ما وراءها: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا . ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ). ولذا فإن منطقهم مبني على أساس الحسابات الدنيوية فقط، وقائم على تضليل الآخرين عن إدراك الحقائق التي يدعوهم إليها الأنبياء. فالنبي لا ينظرون إلى مقاماته المعنوية السامية التي اصطفاه الله بها، بل يركزون على بشريته الأرضية التي يتساوون معه فيها، فهو يأكل ويشرب مثلهم. ولذا لا فضل له عليهم، كما يرون، وليس وراء طاعته سوى الخسران، لأنه كذاب أشر، ولا شيء بعد الحياة الدنيا، بل هي غاية الغايات. يقول تعالى: (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ. أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ. هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ. إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ. إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ).
ولأنهم كذلك، فقد قطعوا صلتهم بالله تعالى تماما، يقول تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ). فالجَرم كما يقول اللغويون هو القطع، ومنه جَرمتُ النخل أي قطعته، ويقال لصِرام النخل الجِرام. وقد أدى هذا القطع إلى تمسكهم بما كان عليه آباؤهم، واعتباره وحده الميزان الذي ينبغي أن يوزن به كل شيء، بغض النظر عن صلاحه أو فساده: (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ). وقد أوصلهم هذا التفكير الأعوج والإصرار على الكذب والفجور وممارسة الظلم وتبريره إلى مصيرهم الأسود يوم القيامة: (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ . وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ . لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ . إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ . وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ . وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ).
ومن هنا يأتي توجيه الإمام علي لنا بالابتعاد عن ساحة المترفين، حتى لا نكون منهم فنلحق بهم. يقول عليه السلام: فارتحلوا منها، يرحمكم الله بأحسن ما بحضرتكم ولا تطلبوا منها أكثر من القليل ولا تسألوا منها فوق الكفاف، وارضوا منها باليسير، ولا تمدُّنَّ أعينكم منها إلى ما متع المترفون به، واستهينوا بها.