(28)

القوة في خدمة البشرية

أ . بدر الشبيب *

هل كل من يمتلك القوة يصاب بالغرور، فيبطش بمن هم دونه بطش الجبارين، لا يردعه من ضميره رادع؟
ربما يجيب البعض بنَعَمْ مؤكدا ذلك باستحضار بيت أبي الطيب المتنبي الذي سارت به الركبان: 
والظلمُ من شِيَمِ النفوسِ فإنْ تجِدْ ذا عفّةٍ فلِعلّةٍ لا يظلمُ
ففي هذا البيت يؤكد أبو مُحسَّد أن الظلم طبيعة جُبِلَ عليها الإنسان، وأن الشخص العفيف الممتنع عن ظلم الآخرين يفعل ذلك لسبب عارض على طبيعته من ضعف أو عجز أو نحوهما.

وكلام أبي الطيب وإن صدّقته بعض النفوس، فإن نفوسا أخرى أعطاها الله القدرة والقوة، ولكنها تعفّ عن الظلم، ولا تقترب من ساحته، إيمانا منها بقبحه وشناعته، وأنه لا ينبغي لمثلها حتى مجرد التفكير في ممارسته. فيقول أحدهم وهو (الْقَوِيُّ الْأَمِينُ): (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ). ويقسم آخر بالله صادقا: واللَّهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً،  أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّه ورَسُولَه يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ.

القوة حين يتم استثمارها فيما ينفع الناس يكون لها أكبر الأثر في بناء الفرد والأمة والحضارة. فهذا نبي الله موسى يستغيثه الذي من شيعته على الذي من عدوه، فلما علم بمظلوميته وضعفه أغاثه بما منحه الله من قوة نصرة له. وهكذا استخدم ما أوتي من قوة لسقيا ابنتي شيخ مدين عند وروده مائها، حتى شهدت له بذلك إحداهما عند أبيها طالبة منه استئجاره: (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). وهذا ذو القرنين عندما طلب منه القوم إعانتهم لصدّ هجمات المفسدين لما شهدوه من قوته وصلاحه: (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى‏ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) فكان جوابه لهم: (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً). 
وبالقوة أيضا أمر الله تعالى أن تؤخذ تعاليمه وهديه ومواثيقه، فقال تعالى: (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وقال: (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) وقال: (يا يَحْيى‏ خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ). بل أمر المؤمنين بإعداد ما يمكنهم من أسباب القوة المختلفة لمواجهة أعدائهم، فقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ). يقول صاحب تفسير أضواء البيان: "فهو أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة ولو بلغت القوة من التطور ما بلغت. فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود على الحالات الأُوَل إذا طرأ تطور جديد".

إن التلبس بالقوة أمر مطلوب ومحمود، فالله تعالى هو القوي العزيز، كما أخبر عن ذاته المقدسة: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) وقال: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). فبقوته وعزته التي لا تُغلب ينصر عباده المؤمنين إن نصروه بقوتهم. وبقوته تعالى يأخذ الكفار أخذ عزيز مقتدر: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ). فهو جلّ شأنه مصدر القوة كلها، ويتجلى ذلك بتمامه لكل أحد في ساحة الحشر: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعا). 

فلنتلبس بالقوة سعيا لاستثمارها خير استثمار بما يعود على البشرية كلها بالخير، ولنطلبها منه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).
 

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام