(26)

من يضحك غدا؟

أ . بدر الشبيب *

قد يمارس الإنسان الضحك سخرية واستهزاء واستخفافا بأناس لا يرى أنهم يستحقون أدنى احترام، بل ربما لا يراهم أهلا للحياة، والحال أنهم أكثر منه علما وأكبر أخلاقا، بل قد يكونون في أعلى قمم الإنسانية. وهذا ناتج في الغالب عن جهله بهم وبمقاماتهم، و"الناس أعداء ما جهلوا"  كما ورد عن الإمام علي .
وقد تحدث القرآن عن هذا السلوك المشين في عدة آيات، وأوضح عواقبه الوخيمة على أصحابه؛ فقال تعالى في سورة المؤمنون: (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ . فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ . إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ). وقال في سورة المطففين: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ . وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى‏ أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ . وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ . وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ . فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ . عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ). فهذا الضحك المصحوب بالسخرية والتغامز واللذة، إذا تمكن من المرء واستحكم، وأصبح ديدنا له لا يفارقه، كما هو مفاد الإتيان بالفعل المضارع في قوله: (يَضْحَكُونَ) وقوله: (يَتَغامَزُونَ)، فإن صاحبه تنقلب لديه الموازين، فيرى أهل الإيمان ضالين، غافلا عن معايبه ونقائصه وإجرامه. وبالتالي فإنه يستمر في غيّه الذي يُرديه حتى يلقى مصيره الأسود حيث يكون هو محل ضحك من كان يضحك منهم.
وقد يضحك الإنسان من حديث هو أحسن الحديث، كما قال تعالى: (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) بناء على كون المراد بالحديث هنا القرآن، كما ذهب إليه بعض المفسرين. ونلاحظ هنا أن هذا النوع من الضحك ملازم للتلهّي والغفلة أو السّمود بحسب اللفظ التعبير القرآني: (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ). كما نلاحظ أيضا حالة الانقلاب في الانفعال والتفاعل لدى هؤلاء إلى ضدها تماما: (وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) مما يكشف عن الخلل الكبير الذي أصيبوا به في أنفسهم، وهم لا يشعرون.
كما قد يضحك الإنسان من الآيات البينات التي تكون خارقة للعادة، وتهدف إلى هدايته، فلا يتمعن فيها، ولا تقوده إلى ما وراءها، بل يظل حبيس نفسه وأوهامها معرضا عنها، غير آبهٍ بها: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ). ثم يذهب إلى أبعد من ذلك، في انقلاب آخر منه. فبدلاً من اندهاشه بالآيات وتسليمه وإذعانه لمقتضياتها، يقوم بالاستهزاء والضحك منها: (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ), وهكذا نرى هؤلاء متمادين في الغي، سادرين في الغفلة عما يراد بهم: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). 
لذلك كله نهى رسول الله عن كثرة الضحك في قوله: (إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب) وقال:  لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). كما نبّه الإمام الصادق للآثار الوخيمة لمثل هذا الضحك الساخر بقوله: (كم ممن كثُر ضحكه لاعباً يكثر يوم القيامة بكاؤه، وكم ممن كثر بكاؤه على ذنبه خائفاً يكثر يوم القيامة في الجنة سروره وضحكه). 
يقولون: من يضحك أخيرا يضحك كثيرا، فالأمور بنهاياتها ومآلاتها. والمسألة كل المسألة من يضحك غدا: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ . ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ).
 

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام