(25)
وما أدراك ما الإحسان!
أكّد القرآن على الإحسان وشجّع على ممارسته، واستنبط الفقهاء منه قاعدة الإحسان، مستدلّين على ذلك بقوله تعالى: (ما على الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ). فالمحسن لا يؤاخذ ولا يضمن ولا يُغرّم إذا كان العمل الصادر منه عن إحسان. يقول الشيخ فاضل اللنكراني في كتابه (القواعد الفقهية): "وقوله تعالى : "ما على الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ" منزلة ضابطة كلية وقاعدة عامّة ، لا بد من الالتزام بعدم اختصاص السبيل بالعقاب، بل له معنى عام شامل لكلّ ما يكون بضرر المحسن وموجباً لمؤاخذته والأخذ به ، سواء كان عقاباً في الآخرة ، أو أمراً ضرريّاً عليه في الدّنيا ، كضمانه وتغريمه وتعزيره".
فالذي يرى مال الغير في معرض التلف، فيقوم بحفظه بكل أمانة وإحكام بغرض إيصاله سالما إلى صاحبه، ثم تتم سرقة المال مثلا، بالرغم من كل الاحتياطيات اللازمة التي اتخذها للمحافظة على المال، فإنه في هذه الحالة لا يضمن لصاحب المال شيئا، لأنه كان محسنا في تصرفه، وقصد بفعله الإحسان، والإحسان لا ينبغي أن يقابَل إلا بمثله، كما قال تعالى: (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ).
ورسّخ القرآن مبدأ التمثل بالإحسان سلوكا باعتباره خلقا ربانيا عظيما يلمسه كل ذي بصيرة شاخصا في حياته، فقال: (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، وكذلك باعتبار أن عوائده وفوائده ترجع للمحسن نفسه، فلا يضيع من إحسانه شيء أبدا، وإن بدا له غير ذلك. يقول تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) ويقول: (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها).
ومن هذا المنطلق كان الأمر بالإحسان في كل مجالات الحياة الشخصية والأسرية والاجتماعية وغيرها، يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ). فالإحسان يتمثل اجتماعيا في جوانب عدة، كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وفي قوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وفي العلاقات الأسرية والاجتماعية في مثل قوله تعالى: (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) وفي قوله: (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها). وفي مجال الحياة الشخصية وإدارتها في مثل قوله: (فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) وقوله: (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقوله: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ). وفي مجال الحياة الزوجية في مثل قوله: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ). وفي المعاملات المالية في مثل قوله: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) وقوله: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) وقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً). وفي التربية والتنشئة في قوله تعالى: (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً).
وهكذا يربي القرآن الآخذين بهديه على التمسك بالحسن والأحسن قولا وعملا: (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً).
وما أجمل أن نختم بالهدي النبوي الشريف في الرواية عن الإمام الصادق أنه قال: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَدْ مَاتَ. فَقَامَ رَسُولُ اللهِ وَقَامَ أَصْحَابُهُ مَعَهُ فَأَمَرَ بِغُسْلِ سَعْدٍ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى عِضَادَةِ الْبَابِ، فَلَمَّا أَنْ حُنِّطَ وَكُفِّنَ وحُمِلَ عَلَى سَرِيرِهِ تَبِعَهُ رَسُولُ الله بِلَا حِذَاءٍ وَلَا رِدَاءٍ، ثُمَّ كَانَ يَأْخُذُ يَمْنَةَ السَّرِيرِ مَرَّةً وَيَسْرَةَ السَّرِيرِ مَرَّةً حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى الْقَبْر، فَنَزَلَ رَسُولُ الله حَتَّى لَحَدَهُ وَسَوَّى اللَّبِنَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: نَاوِلُونِي حَجَراً نَاوِلُونِي تُرَاباً رَطْباً يَسُدُّ بِهِ مَا بَيْنَ اللَّبِنِ، فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ وَحَثَا التُّرَابَ عَلَيْهِ وَسَوَّى قَبْرَهُ.
قَالَ رَسُولُ الله : إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَبْلَى وَيَصِلُ الْبِلَى إِلَيْهِ وَلَكِنَّ اللهَ يُحِبُّ عَبْداً إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَحْكَمَهُ.