| 4 |
فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها
الاستقامة على الطريقة كما ذكر القرآن الكريم تؤدي بأهلها إلى الرخاء والوفرة، كما قال تعالى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً). والمراد بالطريقة ما رسمه الدين من برنامج للإنسان ينبغي أن يسير على هديه.كما تؤهلهم لمزيد من المنح الربانية الخاصة العظيمة التي بينها قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ . نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).
والاستقامة تعني الثبات والدوام على المنهج المستقيم والبقاء عليه. ونظرا لشديد أهميتها، فقد أمر الله خير خلقه الثابت على زحاليفها في الزمن الأول بلزوم الاستقامة، فقال تعالى: (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ). وأمر بها نبيه موسى وأخاه هارون (عليهما السلام) بالتزامها بقوله: (فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). كما أمر نبيه أن يأمر الناس بها، فقال: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ).
في المقابل فقد أقسم إبليس متعهدا أنه سوف يترصد لعباد الله على صراطه المستقيم ليحرفهم عنه، ويخرجهم منه ما استطاع إلى ذلك سبيلا: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ.
والمتأمل في آيات الكتاب العزيز يلحظ العناية الربانية بالمؤمنين من عباده بتثبيتهم، كما قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ.
فالمؤمنون ثابتون بتثبيت الله لهم على طريق الحق لا يضلون ولا يزلون ، لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأسسوا بنيانهم على تقوى من الله ورضوان، وساروا في طريقهم على هدى من الحجج الواضحة، على بصيرة من أمرهم، تولاهم الله برعايته وعنايته: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).
فهُم كما وصفهم الإمام الصادق حين قال: يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ فِيه ثَمَانِي خِصَالٍ: وَقُوراً عِنْدَ الْهَزَاهِزِ، صَبُوراً عِنْدَ الْبَلَاءِ، شَكُوراً عِنْدَ الرَّخَاءِ، قَانِعاً بِمَا رَزَقَه اللَّه، لَا يَظْلِمُ الأَعْدَاءَ، ولَا يَتَحَامَلُ لِلأَصْدِقَاءِ، بَدَنُه مِنْه فِي تَعَبٍ، والنَّاسُ مِنْه فِي رَاحَةٍ. إِنَّ الْعِلْمَ خَلِيلُ الْمُؤْمِنِ، والْحِلْمَ وَزِيرُه، والْعَقْلَ أَمِيرُ جُنُودِه، والرِّفْقَ أَخُوه، والْبِرَّ وَالِدُه.
إن أمر الثبات ليس بالهيّن اليسير، بل يحتاج لمدد إلهي. ولا أدلّ على ذلك من قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً).
فالخطاب في الآية للنبي ، وأنه لأجل تثبيت الله له، امتنع قربه من الركون فضلا عن ركونه لما يطلبه المشركون. يقول صاحب التحرير والتنوير، نافيا ركون النبي إليهم، وأنه "غير واقع ولا مقارب الوقوع لأن الآية قد نفته بأربعة أمور، وهي: (لولا) الامتناعية. وفعل المقاربة المقتضي أنه ما كان يقع الركون ولكن يقع الاقتراب منه، والتحقير المستفاد من شَيْئاً، والتقليل المستفاد من قَلِيلًا".
فعلى الإنسان أن يسعى دائما أن يبقى على صلة وثيقة بالله تعالى كي يكون أهلا للمدد الغيبي فلا تزلّ قدمه بعد ثبوتها، فينزلق في المنحدرات (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ).