تأتي زيارةُ الأربعين.. بطاقتها الهائلة.. بسيلها البشري الجارف

في الطريق الى  كربلاء، وفي ساعاتٍ متأخرة من الليل، عند المشاة الهاربين من حرارة النهار.. رأيتُ شاباً ايرانياً، يواجهه كهلٌ نجفي.

الشاب معمم بعمامة سوداء، في قامته طول، في وجهه سُمرة، وعلى محيّاه علامات رِقّةٍ من تعبٍ ومن خشوع الايمان.. ، قد وضع كلتي يديه على كتفي الكهل، ويضرب باليمنى ضرباتٍ رتيبةٍ خفيفة علامةً على المحبّةِ والود. 

أما الكهل صاحب قامة متوسطة، رأسه قطعةِ شيبٍ واحدة، في يديه آثار خشونةٍ، كأنه عاملٌ أو زارع.. ومع قامته المتوسطة الا أن رأسه يعلو الشاب وعمامته معاً، اذ يقف على مرتفعٍ من الأرض، سمّر عينيه الى وجه الشاب.. يستمع بلهفةٍ الى كلماته استماعاً كخشوع الصلاة، منذهلٌ عن ما يجري حوله.

لفت ناظري آثار الفرح العارِمة على وجه الرجلين.. وهي عند الكهل النجفي العراقي أبين .. فرحة خدمة الزائر.. لم أعرف عم يتحدثان،  وهل يجيدان لغة بعضهما، او أن التفاهم بالإشارة وحدها؟ لا أعلم!

مررتُ بهما سريعا، لم يتوقف جسدي، لكن فكري توقف عندهما. 

تفكَّرتُ كثيراً: بحث مفكرو العالَم كثيراً، عن هويةٍ تجمع البشر ولا تفرّقها، فحاولوا ايجادها في عَلَمٍ و نشيد، وحدودٍ جغرافية.. حاولوها في ثقافةٍ قومية اثنية، في عِرقٍ آريٍ أو تُركيٍ أو عربيٍ .. لكنهم فرَّقوا أكثر مما جمعوا، بل فرَّقوا حين جمعوا.

وخلال بحثي عن موضوع "الهوية" لم أجد ما يوفِّر هوية تتجاوز كل فروقات البشر فتجمعهم تحت راية واحدة، واسمٍ واحد، واتجاهٍ واحد أفضل من "العقيدة".. بجانبيها، سليمةً او فاسدة! 

فطاقة "العقيدة" عجيبة، تجد البشر يتنازل عن كل ما يفرِّقه عن غيره، حين يجتمعان معاً عليها.

تذكرت جمَعةً مع أخوة رساليين وجدتُ فيها صديقين يتسامران: سودانيٌ وأفغاني.. شخصان من بيئتين مختلفتين تماماً: من قوميتين مختلفتين، لغتين مختلفتين، ثقافتين مختلفتين.. لكن كل واحد يحدِّث صاحبه غير آبهٍ بتلك الاختلافات، وكأنه صديق طفولته أو ابن ديرته.

تساءلت مع نفسي:  كم حاول الطغاة أن يفرِّقوا بيننا، وينشؤوا حواجز مصطنعة يفصلوننا عن بعضنا.. حتى يرى الواحد منّا غيرَه "خواجه" – كما يسمي المصريون الأجانب عنهم- ..  يفرِّقوننا لأنهم يعيشون على ضعفنا ويقتاتون من دمائنا وخيراتنا..

فقسمونا في حدود جغرافية وضعوها لنا حين احتلوا بلداننا وقسمّوها بينهم كأنها قطعةٌ من حلوى.. 

وفي داخل الحدود الواحدة قسمونا الى كردي وتركي و عربي و أعجمي .. 

وفي داخل القومية نفسها قسمونا الى شمالي و جنوبي وشرقي وغربي..

وفي المدينة الواحدة قسمونا الى "ابن ولاية" و "وافد" أو "مهاجر"..

وفي الأسرة الواحدة قسّمتنا "السياسة"، فهذا مشجعٌ لحزبٍ وذاك مناصرٌ لحزب آخر..

ثم هناك تقسيم الأجيال، وتقسيمات "الجندر" المبتدع، و تقسيماتٌ لو أحصيتها لوجدتها اكثر من تعدادنا!

أقول قسّمونا: .. وربما نحن الذين قسّمنا أنفسنا .. حباً للاستعلاء و طلباً لـ"أن تكون أمةٌ هي أربى من أمة"

كل هذه التقسيمات

ثم يأتي موسم الحسين .. 

و تأتي زيارةُ الأربعين.. بطاقتها الهائلة.. بسيلها البشري الجارف.. تجرف كل التقسيمات تلك، وتصهرنا جميعاً في بوتقة واحدة.
فاذا بالماشي لا يفكِّر بالذي يمشي جنبه، عربي أو أعجمي، ابن بلده أم لا..  

فالكل واحد .. 

بصفة واحدة "زائرُ الحسين"

ولا وجود لـ"خواجه" واحد بينهم!

فمن فرَّقتهم السياسة

يجمعهم الحسين 

ولا عزاءَ للظالمين!