انتهاك حرمة الأجساد الطاهرة في كربلاء -ج1

شبكة مزن الثقافية الشيخ أحمد العلي
انتهاك حرمة الأجساد الطاهرة في كربلاء
انتهاك حرمة الأجساد الطاهرة في كربلاء
  • تمهيد

مهما اختلف تعريف الإرهاب، لم يختلف اثنان في أنّ الذي حدث في كربلاء المقدسة هو من أفظع أنواع الإرهاب، وبجميع أقسامه؛ إذ إنّه قد يكون فردياً، أو جماعياً، وقد يكون منظّماً، أو غير منظّم، فالإرهاب الفكري والضغط النفسي والتسفيه والتحقير والقذف والعنف الجسدي والتكفير والإفتاء بهدر الدم، والقتل الجنائي والتهجير والتصفية الجسدية والتطهير العرقي والمذهبي، وإرهاب الدولة المتمثل بالضغط والمطاردة والحصار الاقتصادي واستخدام القوّة العسكرية والقتل المنظّم للمدنيين[1]، كلها مصاديق جليّة للإرهاب مورست في كربلاء من قِبل الجيش الأُموي.

إنّ خطة البحث المتّبعة في هذه المقالة تكتمل من خلال بيان عدّة مباحث:

  • الأول: تعريف المُثلة لغةً واصطلاحاً.
  • الثاني: الحكم التكليفي للمُثلة في الشريعة الإسلامية وبيان مصاديقها (بحث مقارن).
  • الثالث: المُثلة في القانون الوضعي (الإنساني).
  • الرابع: البيت الأُموي والمُثلة.
  • الخامس: مصاديق المُثلة التي جرت على معسكر الإمام الحسين عليه السلام .
  • السادس: سياسة انتهاك الأجساد وقطع الرؤوس.

وفي ما يأتي تفصيل تلك المباحث:

  • المبحث الأول: (المُثلة) لغةً واصطلاحاً

أوّلاً: التمثيل (المُثلة) لغةً

للتمثيل لغةً معانٍ متعددة: منها: التنكيل، ومنها: التصوير، ومنها: التشبيه وأداء الدور، وغيرها، ولا يهمنا منها إلّا المعنى الأول؛ لكونه المراد في بحثنا.

والمهم من التعاريف:

ما ذكره ابن منظور قال: «مَثَلْتُ بالحيوان: أَمْثُل به مَثْلاً، إذا قطعت أطرافه وشَوَّهت به، ومَثَلْت بالقتيل إذا جَدَعت أنفَه وأذنه أو مَذاكيره أو شيئاً من أطرافه، والاسم المُثلة، فأمّا مُثّل بالتشديد: فهو للمبالغة»[2].

ومثل ذلك ما ذكره ابن الأثير، ثمّ أضاف قائلاً: «ومنه الحديث: نهي أن يُمثَّل بالدواب، أي: تُنصب فتُرمى، أو تُقطّع أطرافها وهي حيّة»[3].

ثانياً: المُثلة اصطلاحاً

لا يخرج المعنى الاصطلاحي في تعريف المُثلة عن معناه اللغوي:

 فقد عرّفها الشيخ النجفي تعليقاً على عبارة صاحب الشرائع ـ «لا يجوز التمثيل بهم»  ـ قائلاً: «بقطع الآناف والآذان ونحو ذلك»[4].

وعرّفها الخطابي بقوله: «تعذيب المقتول بقطع أعضائه وتشويه خلقه قبل أن يُقتَل أو بعده، وذلك مثل أن يجدع أنفه أو أُذنه، أو يفقأ عينيه. أو ما أشبه ذلك من أعضائه»[5].

ويُستفاد من التعريفات المتقدمة عدّة أُمور:

أ ـ إنّ المثلة تشمل الإنسان والحيوان معاً.

ب ـ إنّ المثلة تشمل الحي والميت معاً.

جـ ـ إنّ المثلة تعني تقطيع أطراف الحيوان وتشويهه.

د ـ إنّ المثلة تتحقق بقطع الأنف والأُذن، والمذاكير، أو شيئاً من أطرافه، أو بجعل الحيوان هدفاً ويُرمى بالسهام وأمثالها، بل عُدّ من المُثلة حلق الشعر من الخدود، أو نتفه أو تغييره بالسواد[6].

هـ ـ إنّ التعريف الاصطلاحي الذي يحرّم المُثلة ينظر إلى المُثلة بأجساد الكفار وأمثالهم. أمّا حرمة التمثيل بأجساد المسلمين، فهي من المسلّمات في الفقه الإسلامي كما سيأتي.

  • المبحث الثاني: الحكم التكليفي للمُثلة في الشريعة الإسلامية وبيان مصاديقها (بحث مقارن)

المتتبع للفقه الإسلامي يجد أنّ مبحث المُثلة أخذ مساحة واسعة في أبوابه المتنوّعة، وكتبه المتعددة.

ولعلّ أهم مسألة في ذلك هي حرمة المُثلة بالمسلم حياً كان أو ميّتاً؛ لما لها من مساس بوضعنا الحاضر، وما تفعله العصابات الداعشية بالمسلمين باسم الإسلام.

أوّلاً: المُثلة بالإنسان المسلم

إنّ النهي عن التمثيل بالمسلم من الأُمور الثابتة في الشريعة الإسلامية، ولا يُعرف مخالف في ذلك على الإطلاق، بل إنّ من الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  النهي عن المُثلة حتى بالكافر.

ومع ثبوت التحريم للكافر يثبت التحريم للمسلم بطريق أوْلى، والأدلة الدالة على الحرمة بصورة عامة كثيرة جداً، بل دعوى الإجماع على حرمة المثلة بالكافر قد صرّح بها أكثر من واحد.

قال الهمداني& في معرض كلامه عن حرمة نبش القبور: «لا يجوز نبش القبور بلا خلاف فيه، بل إجماعاً... واستُدلّ له أيضاً بأنّه مثلة بالميّت وهتك له، ومقتضاه مسلَّميّة حرمة المُثلة وهتك حرمته، ولعلّه كذلك»[7].

وقال النجفي شارحاً لعبارة الشرائع : «(ولا يجوز التمثيل بهم) بقطع الآناف والآذان ونحو ذلك في حال الحرب بلا خلاف أجده فيه؛ لما سمعته من النهى عنه... وأكثر الفتاوى عدم الفرق في ذلك بين حال الحرب وغيره، وبين ما بعد الموت وقبله... بل لا فرق أيضاً بين ما لو فعلوا ذلك بالمسلمين وعدمه»[8].

وصرّح الزمخشري بأنّه: «لا خلاف في تحريم المثلة»[9].

وقال ابن عبد البر بعد أن ذكر الحديث الوارد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  القائل فيه: «لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تُمثِّلوا»: «أجمع العلماء على القول بهذا الحديث، ولم يختلفوا في شيء منه»[10].

وأمّا الروايات الدالة على الحرمة، فهي كثيرة:

منها:ما ورد في وصيّة الإمام علي عليه السلام  لولديه الحسن والحسين عليهما السلام  حينما ضربه ابن ملجم (لعنه الله): «يا بني عبد المطلب... اُنظروا إذا أنا متُّ من هذه الضربة فاضربوه ضربة بضربة، ولا يُمثّل بالرجل؛ فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور»[11].

ومنها: ما في رواية مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، أنّه قال: «إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا بعث أميراً له على سريّة أمره بتقوى الله... ثمّ يقول:... قاتلوا مَن كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلّوا ولا تُمثّلوا»[12].

ومنها: ما رواه عمران بن حصين، قال: «كان رسول الله يحثّنا على الصدقة، وينهانا عن المُثلة»[13].

ومنها: ما ورد عن ابن عمر أنّه قال: «لعن النبيُّ مَن مَثّل بالحيوان»[14].

ومنها: ما عن محمد بن عمرو بن عطاء: إنّ عمر بن الخطاب قال لرسول الله

 ـ صلى الله عليه وسلّم ـ: دعني أنزع ثنية سهيل بن عمرو، يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً؟! فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ: «لا أُمثّل به فيُمثّل الله بي وإن كنت نبيّاً»[15].

وهناك روايات أُخرى يأتي بعضها في مسألة (المُثلة بالكافر).

المستفاد من الروايات

ويُستفاد من الروايات المتقدّمة عدّة أُمور نشير إليها تباعاً:

أ ـ إنّ كثرة الروايات وتنوّعها يرفعها إلى الاستفاضة أو التواتر؛ ومعه لا نحتاج إلى البحث السندي، خصوصاً مع ضم الإجماع المتقدّم ذكره إليها.

ب ـ إنّ الروايات تنقسم إلى طائفتين رئيستين:

الأُولى: الروايات الدّالة على النهي مطلقاً.

الثانية: الروايات الخاصّة بالتمثيل بالكفار.

والاستدلال على حرمة التمثيل بالمسلمين يثبت بكليهما:

أمّا روايات القسم الأول، فهي تشمل المسلمين بإطلاقها؛ إذ دلّت على حرمة التمثيل بهم، خصوصاً وأنّ بعضها ينهى عن التمثيل بمطلق الحيوان.

وأمّا روايات القسم الثاني التي تدلّ على حرمة التمثيل بالكافر، فهي تدلّ على حرمته بالمسلم من باب أوْلى. كما اتضح أنّ التمثيل بالمسلم حرمته مُسلّمة لا يختلف فيها اثنان.

جـ ـ إنّ إطلاق الروايات يؤكد على أنّه لا فرق بين حال الحرب وغيره، وبين ما بعد الموت وقبله، ولا بين ما إذا فعلوا ذلك بالمسلمين أو عدمه، ولعلّ هذا هو مستند قول الشيخ النجفي في التعميم لجميع هذه الحالات. وقد تقدّم ذكر قوله.

د ـ إنّ هذه الروايات تُثبت أنّ النهي عن المثلة قد أكّده النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم  في عدّة مناسبات ومواقف، وهذا يدفع كما سوف يأتي الدعاوى القائلة: بأنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم  مثّل ببعض الأشخاص، وأنّه حينما رأى ما صُنِعَ بعمّه حمزة عليه السلام  توعّد قريشاً بأن يُمثِّل بسبعين رجلاً منهم.

ثانياً: التمثيل بالكافر

إنّ الآداب والأخلاق التي أوصى بها الإسلام لم تقتصر على كيفية المعاملة مع المسلم، بل توسَّعت في ذلك إلى أدب المعاملة مع أهل الذمة وكثير منها ترقى إلى حدّ الإلزام، بل توسَّع الشارع المقدس في ذلك؛ فجعل للحرب مع الكفّار آداباً خاصّة قد عجز عنها العالم المتحضر بكل قوانينه الوضعية المدَّعاة، وإن كشف هذا عن شيء فإنّما يكشف عن السماحة والرأفة لهذا الدين ولهذه الشريعة، فلم يكن الإسلام يوماً من الأيام ذا نزعة عدوانية أو توّاقاً للحرب والدمار، وكذا أتباعه، فأكثر الحروب التي خاضها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم  وأصحابه كانت حروباً دفاعية، والتي لم تكن كذلك فهي حرب وقائية هدفها إبعاد خطر الكفّار عن الرسالة الفتيّة التي تسعى لتخليص البشريّة من الكفر والظلم والاعتداء.

إنّ الهدف الأساس للدعوة والدعاة هو مخاطبة الخصم أوّلاً بالفطرة السليمة، ثمّ بالحجة والبرهان والدليل؛ فإن حصل له القناعة بها ودخل في أحضان الدعوة فبها، ومَن أبى وتعنّت واختار الطريق الآخر فله خياران:

أحدهما: الدخول في ذمة الإسلام، وإجراء عقد بينه وبين المسلمين، تُحقن به الدماء، وتُحفظ به الأموال، وله الأمان التام بين المسلمين.

وثانيهما: اختيار موقف المواجهة مع المسلمين وإعلان الحرب عليهم، وفي مثل ذلك ليس للمسلمين من مواجهة هذا الخطر القادم بُدٌّ.

ورغم ذلك كلّه، نجد الإسلام المتمثل برسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم  قد أطّر الحرب مع الكفّار بإطار أخلاقي عام، ولم يُعطِ الحرية الكاملة للمحارب المسلم، ونهاه عن ارتكاب عدّة أشياء، منها قتل الأطفال والنساء وكبار السن والعجزة، ونهاه عن التمثيل بالكفار المقاتلين خصوصاً بعد التمكّن منهم، ووقوعهم أسرى بأيدي المسلمين.

ونحاول هنا بيان آراء الفرق الإسلامية في هذه المسألة، وكذلك معرفة الفروع المترتبة عليها، مع الإشارة إلى الأدلة، والاستثناءات الواردة عليها.

وحاصل الأقوال ما يلي:

القول الأول: حرمة المُثلة بالكفار

وهو ما ذهب إليه الإمامية وجمهور الفقهاء من بقية المذاهب.

إلّا أنّ أصحاب هذا القول وإن اتّفقوا على أصل الحرمة، إلّا أنّ هناك خصوصيات امتاز كل طرفٍ بها عن الآخر.

وسنأتي بهذه الأقوال تباعاً:

رأي الإمامية

لا خلاف بين فقهاء الإمامية في حرمة التمثيل بالكفّار بقطع الآناف والآذان ونحو ذلك في حال الحرب[16]، ويدل على الحرمة:

1ـ الإجماع المدّعى وتقدمت الإشارة إليه وذكر نصوصه.

2ـ الروايات والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وأهل بيته عليهم السلام ، وتقدّم الكثير منها. ويأتي البعض الآخر عند التطرّق إلى أدلة بقية المذاهب.

3ـ إنّ استعمال المُثلة مع الكفار قد يؤدي بالكفار إلى استعمالها مع المسلمين. وإثارة الكفّار للتمثيل بالمسلمين أمر غير جائز.

وصرّح الجواهري: بأنّ مقتضى النصوص وأكثر الفتاوى عدم الفرق في ذلك بين حال الحرب وغيره، وبين ما بعد الموت وقبله.

بل لا فرق أيضاً بين ما لو فعلوا ذلك بالمسلمين وعدمه.

آراء المذاهب الإسلامية الأُخرى

إنّ المتحصل من كلمات فقهاء المذاهب الأُخرى تبعاً لرواياتهم ثلاثة اتجاهات، وهي تدور بين القول بالحرمة، والقول بالكراهة، والقول بالجواز بشرط.

الاتجاه الأول: حرمة التمثيل بالكفّار

ذهب جمهور فقهاء[17] المذاهب ـ  إلّا الحنابلة ـ إلى حرمة التمثيل بالكفار بعد القدرة عليهم، ووقوعهم أسرى بأيدي المسلمين، والحرمة ثابتة سواء للحيّ منهم والميّت.

وقد صرّح جماعة بدعوى الإجماع على حرمة التمثيل بهم، منهم: الزمخشري، وابن عبد البر[18].

وقد تقدّم نقل كلماتهم في المسألة الأُولى.

واستُدل لهذا القول ـ بالإضافة إلى الإجماع المتقدم وجملة من الروايات السابقة ـ بما نُقِلَ: «عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصّته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً. ثمّ قال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا مَن كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً»[19].

والنهي الوارد في الرواية (ولا تُمثِّلوا) ظاهر في التحريم كما أكّد عليه علماء الأُصول واللغة.

وبيّن المباركفوري المراد من الكراهة في قول الترمذي: «وكره أهل العلم المُثلة»[20]: «أي: حرّموها؛ فالمراد بالكراهة التحريم... إنّ السلف رحمهم الله يطلقون الكراهة ويريدون بها التحريم»[21].

وقال الشوكاني: «(ولا تُمثّلوا)، فيه دليل على تحريم المُثلة»[22].

الاتجاه الثاني: كراهة التمثيل بالكفار

وهذا الاتجاه تفرّد به الحنابلة[23]، ولا يختلف الدليل الذي اعتمدوه من الروايات عن الدليل المعتمد في الاتجاه الأول، إلّا أنّهم حملوا النهي الوارد فيها على الكراهة، وليس على التحريم.

قال ابن قدامة: «ويكره نقل رؤوس المشركين من بلد إلى بلد، والمُثلة بقتلاهم وتعذيبهم»[24].

وقال ابن مُفلح: «ويُكره نقل رؤوسهم ـ  أي: الكفّار ـ من بلد إلى آخر، والمُثلة بقتلاهم... قال الشيخ تقي الدين: المُثلة حق لهم؛ فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر، ولهم تركها، والصبر أفضل»[25].

ويأتي في آخر البحث مناقشة هذا القول وبيان ضعفه.

الاتجاه الثالث: جواز المُثلة بشرط

وهذا القول ذهب إليه المالكية[26] وبعض فقهاء المذاهب؛ إذ نصّوا على جواز المُثلة بالكفار إذا مثّلوا بالمسلم معاملة لهم بالمثل.

واستدلوا بقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ) [27]؛ إذ جوّزت الآية المباركة المعاملة بالمثل بدون قيد، فيشمل ما نحن فيه، وهو جواز التمثيل بالكفّار معاملة لهم بالمثل.

وقال محمد السيف: «وقد وصلنا عندما كنّا في أفغانستان فتوى لفضيلة الشيخ محمد ابن صالح بن عثيمين مفادها عندما سُئل عن التمثيل بجثث العدو: إذا كانوا يمثّلون بقتلاكم فمثّلوا بقتلاهم، لا سيّما إذا كان ذلك يوقع الرعب في قلوبهم ويردعهم، والله تعالى يقول: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ)»[28].

وقد جاء في سبب نزول الآية المباركة، عن أُبيّ بن كعب أنّه قال: «لمّا كان يوم أُحد أُصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً، ومن المهاجرين ستة فيهم: حمزة؛ فمثّلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنُرْبيَنَّ عليهم. قال: فلما كان يوم فتح مكّة فأنزل الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ). فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفّوا عن القوم إلّا أربعة»[29]. رواه الترمذي قائلاً: «حديث حسن غريب من حديث أُبيّ بن كعب»[30].

وأورده الشيخ مقبل الوادعي في (الصحيح المسند من أسباب النزول)[31]، وهناك روايات أُخرى نسبت القول بالتمثيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وأنّه عَزَم على التمثيل بسبعين رجلاً من الكفار؛ فأنزل الله عليه هذه الآية وخيّره فيها بين الصبر والردّ بالمثل، فاختار الصبر على التمثيل بالكفار[32].

ملاحظات حول الاتجاهين الأخيرين

يلاحظ على الاتجاه الثاني والثالث عدّة ملاحظات:

الأُولى: إنّ الاتجاه الثالث لا يُعدّ قولاً في قبال الأوّل والثاني، بل إنّ أصحاب هذا الاتجاه يصرّحون بالحرمة، نعم الجواز المختار لهم ليس على إطلاقه، وإنما هو مشروط بما إذا مثّل الكافر بالمسلم.

ويرجع في الحقيقة إن قيل بجوازه إلى القصاص بالمثل.

الثانية: إنَّ الاستشهاد بالآية للاستدلال على القول بجواز التمثيل يبتني على أنّ الآية المباركة تجوّز التمثيل مطلقاً، مع أنّ الآية في صدد علاج مسألة أُخرى على

القول بها وهي جواز القصاص بمثل ما قام به الجاني على المجني به، خصوصاً إذا لاحظنا أنّه ليس بالضرورة أنَّ الأسير الذي في أيدي المسلمين من الكفار قد قام بالتمثيل.

الثالثة: إنّ القسم الثاني من الأحاديث الذي نسب الوعيد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بالتمثيل بالكفّار هي بالإضافة إلى عدم نقلها في الكتب المعتمدة، وضعف سندها كما صرّح ابن حجر تنافي ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  من النهي عن المثلة، ويؤكد ذلك فعله الخارجي؛ إذ لم يُعهد منه التمثيل بأحد مطلقاً، وما نُسب إليه من أمره بالتمثيل بأشخاص معينين فهو إمّا حادثة في واقعة معينة، وإمّا جرى ذلك بنحو القصاص منهم، وإمّا لكون رواياتها من الضعاف.

فما روي من وعيد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم  للمشركين قول مرفوض، والصحيح هو ما روي من أنّ أبا قتادة أراد التمثيل بقريش عندما رأى قتلى المسلمين، فمنعه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم  عن ذلك.

وهذا هو المناسب لأخلاقه وسجاياه صلى الله عليه وآله وسلم ، والذي يشير إليه أيضاً ما ورد في حديث أُبيّ بن كعب المتقدم من قول النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم  بعد نزول الآية المباركة: «نصبر ولا نُعاقب، كفّوا عن القوم إلّا أربعة»[33].

الرابعة: إنّ القول الثاني الذي انفرد به الحنابلة لا يرجع إلى دليل؛ وذلك:

أ ـ إنّ الحنابلة خالفوا جمهور فقهاء المسلمين؛ إذ ذهب كلٌّ من الإمامية والشافعية والمالكية والحنفية إلى حرمة التمثيل بالكافر.

بل هو مخالف لدعاوى الإجماع وحكم السلف بالحرمة، وقد تقدّم نقل النصوص الدالّة على الإجماع.

ب ـ إنّ أهم دليل لدى الحنابلة هو حمل النهي الوارد في الروايات على الكراهة، إلّا أنّ هذا مخالف لما ذهب إليه علماء الأُصول واللغة: من أنّ النهي ظاهر في الحرمة، خصوصاً إذا لاحظنا عدد الروايات الناهية عن التمثيل التي تصل إلى حدّ الاستفاضة أو التواتر.

جـ ـ إنّ مختارهم مخالف لسيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم  العملية؛ إذ لم يُلاحظ أنّه صلى الله عليه وآله وسلم  مثّل بأحدٍ أو أمر بالتمثيل بأحد، مع تأكيده على النهي عن ذلك في عدّة مواطن، ولعدّة موضوعات، فتارةً ينهى عن مطلق المُثلة بنحو مطلق، وأُخرى ينهى عن المُثلة بالحيوان، وتارةً أُخرى ينهى عن المُثلة بالطير، وتارةً ينهى عن المُثلة ولو بالكلب العقور، وتارةً ينهى عن المُثلة بالكفّار، فيوصي المحاربين بذلك وينهاهم عنه.

د ـ إنّ تفرّد الحنابلة بذلك وقولهم بكراهة التمثيل كراهةً تنزيهيةً فتح الباب واسعة أمام الفرق المدّعية للجهاد حديثاً ـ مثل: الدواعش، وقبلهم القاعدة ـ لاتخاذ هذه الفتوى وأمثالها مستنداً لهم؛ لارتكاب أبشع أنواع التمثيل في معارضيهم، ولم يُستثنَ أحد من ذلك، فذبحوا الكبار وقطّعوا أوصالهم، وحرّقوا الأطفال والأُسارى، ودفنوا الأحياء، ونبشوا الموتى.

كل ذلك يُفعل بالمسلمين وأهل القبلة من كافة الطوائف والملل الآمنة في ظلّ الإسلام.

وليت ذلك كان مع أعداء الله تعالى، أعني بهم: اليهود ودولتهم اللّقيطة، بل هم آمنون بفضل دعمهم لهؤلاء القتلة المردة، أتباع بني أُمية ـ لعنهم الله ـ ومَن نظّر لهم وأفتى بجواز ذلك.

  • المبحث الثالث: المُثلة في القانون الوضعي(الإنساني)

 بعد الاطلاع على الحكم الشرعي للمثلة لا بدّ من تبيين أحكامها في القانون الوضعي فنقول:

إنّ التمثيل بالجثث محظور في القانون الدولي الإنساني، بل اعتُبر من جرائم الحرب المعاقب عليها.

ولمعرفة أوسع حول الموضوع لا بدّ من إلقاء نظرةٍ حول نظرية العقاب في القوانين الوضعية، فقد كانت القوانين الوضعية حتى أواخر القرن الثامن عشر تنظر إلى المجرم نظرة تفيض عنفاً وقسوة، وكان من العقوبات المقررة المعترف بها قانوناً الحرق والصلب، وتقطيع الأوصال، وصلم الآذان، وقطع الشفاه واللسان، والوشم بأداةٍ محماة في النار، ووضع أطواقٍ من الحديد، والنفي، والجلد، والحبس.

ولم تكن العقوبات في الغالب تتناسب مع أهمية الجرائم التي قررت لها، فمثلاً كان القانون الإنجليزي حتى آخر القرن الثامن عشر يعاقب على مائتي جريمة بعقوبة الإعدام، ومن هذه الجرائم سرقة أكثر من (شلن) من شخص ما، أي: ما يقابل خمسة قروش تقريباً في العملة المصرية، وكان القانون الفرنسي يعاقب بالإعدام على مائتين وخمس عشرة جريمة معظمها جرائم بسيطة.

وكما كان الإنسان الحي أهلاً للمسؤولية والعقاب فكذلك كان الأموات، بل كذلك كان الحيوان والجماد، فكان القانون يُجيز محاكمة الإنسان حياً، ويُجيز محاكمته ميتاً، ويُجيز محاكمة الحيوان والجماد، وكان الأساس الذي تقوم عليه العقوبة هو الانتقام من المجرم وإرهاب غيره.

أساس العقوبة في القرن الثامن عشر وما بعده

وفي القرن الثامن عشر بدأ الفلاسفة وعلماء الاجتماع يعملون على هدم الأساس الذي تقوم عليه العقوبة، ويحاولون إقامتها على أساس آخر، فمثلاً:

أ ـ يرى (روسو) أنّ الغرض من العقوبة هو حماية الجماعة من المجرم ومنعه من إيذاء غيره.

ب ـ برّر (بكاريا) العقوبة بأنّها حقّ الدفاع يتنازل عنه الأفراد للجماعة، وأنّ الغرض منها تأديب المجرم وزجر غيره.

جـ ـ وبرّر (كانت) العقوبة بالعدالة.

د  ـ ويرى البعض التوفيق بين مذهب المنفعة ومذهب العدالة، فرأى أن لا تكون العقوبة أكثر ممّا تستدعيه الضرورة، ولا أكثر مما تسمح به العدالة.

وتمتاز النظريات السابقة بأنّها تُهمل شخصية المجرم وتنظر إلى الجريمة؛ ولذلك لم تؤدِّ إلى حل مشكلة العقاب حلاً يحسن السكوت عليه.

هـ  ـ ظهرت بعد ذلك النظرية العلمية أو النظرية الإيطالية، وهي تقوم على إهمال الجريمة إهمالاً تامّاً، والنظر إلى شخصية المجرم؛ فيرى أصحاب النظرية أن تكون العقوبة متناسبة مع عقلية المجرم وتكوينه وتاريخه ودرجة خطورته، فالمجرم المطبوع على الإجرام يُبعَد إبعاداً مؤبداً عن المجتمع أو يُحكَم عليه بالإعدام، ولو كانت جريمته بسيطة، أمّا المجرم الذي تجعل منه المصادفات والظروف مجرماً فيعاقب عقاباً هيّناً ليّناً، ولو كانت جريمته خطيرة، أمّا المجرم الذي يرتكب الجريمة تحت تأثير العاطفة فلا ضرورة لعقابه.

ولم تُفلح هذه النظرية العلمية في حل مشكلة العقوبة أيضاً؛ لأنّها تنظر إلى المجرم وتُهمل الجريمة، ولأنّها تفرّق بين المجرمين دون فارق ملحوظ أو محدود.

و ـ إنّ بعض علماء القانون وجدوا أنّ النظريات القديمة قد أخفقت؛ لأنّها تحتفي بالجريمة وتُهمل شأن المجرم، وإنّ النظرية العلمية أخفقت؛ لأنّها تحتفي بالمجرم وتُهمل الجريمة؛ فرأوا أن يدمجوا الفكرتين اللتين تقوم عليهما هذه النظريات ويُقيموا عليهما نظرية جديدة بحيث يتمثل في العقوبة على كل جريمة فكرتان: فكرة التأديب والزجر، وفكرة شخصية المجرم.

ولكنّ هذه النظرية المركّبة فشلت أكثر ممّا فشلت النظريات السابقة؛ لأنّها تقوم على فكرتين تناقض إحداهما الأُخرى في أكثر الأحوال، فالنظر في كل عقوبة إلى شخصية المجرم لا يحقق دائماً فكرة التأديب والزجر؛ أي: حماية المجتمع وعلى الأخص في الجرائم الخطيرة التي تمسّ الأمن والنظام والأخلاق، والأخذ بفكرة حماية المجتمع في كل عقوبة يمنع من الالتفات لشخصية المجرم في الجرائم الخطيرة والبسيطة على السواء.

الشريعة والقانون

يمكن القول: بأنّ نظرية الشريعة تجمع بين كل النظريات الوضعية التي ظهرت ابتداءً من القرن الثامن عشر، فالعقوبات في الشريعة إنّما شُرّعت لمنفعة الجماعة، ولإصلاح الأفراد، ولحماية الجماعة من الجريمة، وتمكينها من الدفاع عن نفسها ضد الإجرام. والعقوبات في الشريعة لا يصح أن تزيد عن حاجة الجماعة، كما لا يصح أن تقلّ عن هذه الحاجة، فهي من هذه الوجهة إجراء تقتضيه العدالة والمصلحة معاً، وهذا ما ادّعاه (روسو) و(بكاريا) و(كانت).

ويمكن القول: بأنّه لا خلاف بين الشريعة والقوانين على المبادئ والأُصول التي تقوم عليها العقوبة، وإنّما الخلاف في الكيفية التي تُطبّق بها هذه المبادئ، والحدود التي تُطبّق فيها، فقد طبّقت الشريعة كل المبادئ التي تعترف بها القوانين الوضعية، ولكنّها لم تجمع بينها في كل العقوبات، ولم تُسوِّ بينها في كل الجرائم، بل جعلت لكل مبدأ منطقة يعمل فيها وحده أو مع غيره.

وهذا بخلافه في القوانين الوضعية، التي حاولت الجمع بين كل هذه المبادئ والتسوية بينها في كل الجرائم والعقوبات؛ مما أدّى بهم إلى الإخفاق في نظرياتهم.

وأخيراً نقول: بأنّنا أشرنا في بداية هذه النقطة إلى ما كان يسير عليه القانون الوضعي قبل القرن الثامن عشر من وحشية وتمثيل وقسوة وعنف، وبعد القرن الثامن عشر أخذ القانون الوضعي بأوّل مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية؛ إذ أصبحت العقوبة فيه قائمة على أساس التأديب والزجر بقصد حماية المجتمع، ولم تعُد هناك حاجة للتمثيل والتشهير، ولم يعُد منطق القانون يقبل محاكمة الأموات والحيوانات والجمادات؛ وهذا المبدأ الأوّل الذي لم يعرفه القانون إلّا في القرن الثامن عشر قد عرفته الشريعة مع غيره من المبادئ من القرن السابع الميلادي؛ ولذلك تركّزت المسؤولية الجنائية على يوم نزول الشريعة في الإنسان الحي، ولم يجعل غيره أهلاً لها، ولم يُعرف عن الشريعة ما عُرف عن القانون من محاكمة الأموات، بل عُرف عنها أنّها تأباه أشدّ الإباء، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  عن المُثلة ولو بالكلب العقور، ومَن لا يرضى المُثلة للحيوان فهو دون شك لا يرضاها للإنسان.

ويكفي الشريعة الإسلامية فخراً بعد هذا أنّها سبقت تفكير الإنسان بأحد عشر قرناً، وأنّ العالم يسير على آثارها من قرنين ولا تزال تسبق تفكيره بمراحل[34].

  • المبحث الرابع: البيت الأُموي والمُثلة

إنّ ما فعله يزيد (لعنه الله) من أفاعيل بأجساد الشهداء في واقعة عاشوراء ـ وهو ما سنتعرّض له لاحقاً عند المبحث الخامس إن شاء الله ـ وما أمر به أن يُنْفَّذ بحقهم على أيدي جلاوزته يُعدّ من أفظع المواقف والأفعال التي تكشف عن عمق ورسوخ هذه النزعة الإلحادية الخبيثة في نفسه، أعني: نزعة التمثيل بأجساد القتلى بعد قتلهم، وهذه النزعة لم تكن ارتجالية طارئة على يزيد، بل هي نزعة ورثها من آبائه وأُمهاته وتجذّرت في نفسه الميّالة إلى الشر.

ومما يزيد هذا التجذّر تربيته التي تلقّاها في البيت الأُموي، وسنقتصر على ما ورثه يزيد من القسوة والعنف المتمثلة بانتهاك الأجساد والتمثيل بها، فله أُسوة بجدّته هند وأبيه معاوية[35].

وإليك بعض ما أورده التاريخ حول ذلك:

هند آكلة الأكباد

الحقد الأُموي أعمى لم يرعَ أيّ حدّ من حدود الإنسانية ولو أدناها، فمَن يصدّق بأنّ امرأة تمثّل بجثث الشهداء، وتحثّ غيرها على التمثيل ببقية الجثث لشهداء معركة أُحد، ولم تكتفِ بذلك، بل عمدت إلى كبد حمزة عليه السلام  عم النبيّ ولاكته، فأصبح في فمها كالصخر.

وهذه الحادثة قد تواتر نقلها، قال المفيد&: «كانت هند بنت عتبة جعلت لوحشيّ جعلاً على أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أو أمير المؤمنين أو حمزة بن عبد المطلب سلام الله عليهم.فقال: أمّا محمد، فلا حيلة لي فيه؛ لأنّ أصحابه يطيفون به، وأمّا عليّ؛ فإنّه إذا قاتل كان أحذر من الذئب، وأمّا حمزة، فإنّي أطمع فيه؛ لأنّه إذا غضب لم يُبصر بين يديه... وجاءت هند فأمرت بشقّ بطن حمزة وقطع كبده والتمثيل به، فجدعوا أنفه وأُذنيه ومثّلوا به، ورسول الله مشغول عنه لا يعلم بما انتهى إليه أمره»[36].

وفصّل ابن إسحاق في تمثيل هند ومَن معها بشهداء أُحد بقوله: «حدّثني صالح ابن كيسان، قال: وقفت هند والنّسوة اللّاتي معها يُمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجدّعن الآذان والأنف، حتّى اتّخذت هند من آذان الرجال وأُنُفهِم خِدماً وقلائد، وأعطت خِدمها وقلائدها وقرطها وحشيّاً غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تُسيغها فلفظتها، ثمّ علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها، فقالت:

نـحن جـزينـاكـم بيـوم بـدر                 والحرب بعد الحرب ذات سُعْر

ما كان عـن عتبة لي من صَبْرِ            ولا أخـي وعـمِّــه وبِـكري

شَفَيتُ نفسي وقَضَيتُ نذري               شفيتَ وحشيُّ غليل صدري

فشـُكرُ وحـشيٍّ عـليّ عمـري              حـتى تـرمّ أعـظمي في قـبري

ومرّ الحُليس بن زبّان بأبي سفيان وهو يضرب بزجّ الرمح في شدق حمزة بن عبد المطلب ويقول: ذق يا عُقَقُ (يا عاق). فقال الحُليس: يا بني كنانة، هذا سيّد قريش يصنع بابن عمّه ما ترَون! فقال أبو سفيان: اكتمها عنّي فإنّها كانت زلّة!

وقالت هند أيضاً:[37]

شفيـت من حمزة نفـسي بأُحُدْ              حـتى بقـرتُ بطـنهَ عـن الكبد

أذهبَ عنّي ذاك ما كنتُ أجد               من لَذْعة الحزنِ الشديد المعتمد»(1).

معاوية قاطع الرؤوس

قساوة أبي یزيد لم تكن أقل من قساوة أُمّه هند، خصوصاً إذا جمعنا الأحداث القاسية التي جرت أيّام حكم معاوية وما فعله من التنكيل والتمثيل بأصحاب الإمام عليّ عليه السلام  وشيعته، وأوضح نصّ على ذلك ما في (تهذيب التهذيب) إذ قال: «كان بنو أُميّة إذا سمعوا بمولود اسمه عليّ قتلوه»[38].

وهذه بعض النماذج التي قام بتطبيقها أزلام معاوية بأمرٍ منه، وتحت إشرافه، وهي كثيرة:

1ـ ما قاله أبو جعفر البغدادي: «وصلب زياد بن أبيه مسلم بن زيمر، وعبد الله ابن نجي الحضرميين على أبوابهما أياماً بالكوفة، وكانا شيعيين؛ وذلك بأمرِ معاوية، وقد عدّهما الحسين بن علي (رضي الله عنهما) على معاوية في كتابه إليه: ألستَ صاحب حجر والحضرميين اللذين كتب إليك ابن سميّة أنّهما على دين عليٍّ ورأيه. فكتبت إليه: مَن كان على دين عليٍّ ورأيه فاقتله وأمثِل به. فقتلهما ومثّل بأمرك بهما، ودينُ عليٍّ وابنُ عمِّ عليٍّ الذي كان يضرب عليه أباك يضربه عليه أبوك[39] أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف أبيك تجشّم الرحلتين اللتين بنا منّ الله عليك بوضعها عنكم؟!»[40].

وعلّق الأميني على ذلك: «هلمّوا معي يا أهل دين الله! هل اعتناق دين عليّ عليه السلام  مما يُستباح به دم مسلم، وتُستحل المُثلة والتنكيل المحظورة في الشريعة المطهّرة، الممنوع عنها ولو بالكلب العقور؟! أليس دين عليّ هو دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم  الذي صدع به عن الله تعالى؟! نعم، هو كذلك. لكن معاوية حايد عن الدين القويم ولا يقيم له وزناً ما، ولا يكترث لمغبّة هتكه، ولا يتريّث عن الوقيعة فيه»[41].

2ـ ما فعله بعمرو بن الحمق بعدما تمكّن هو وجلاوزته منه ومن رفاعة بن شداد في الموصل، وبعد أن نجح رفاعة من الإفلات منهم، فأُخِذ عمرو بن الحمق «فسألوه: مَن أنت؟ فقال: مَن إن تركتموه كان أسلم لكم، وإن قتلتموه كان أضرّ عليكم. فسألوه فأبى أن يُخبرهم، فبُعث به ابن أبي بلتعة عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي، فلمّا رأى عمرو بن الحمق عرفه، وكتب إلى معاوية بخبره، فكتب إليه معاوية: إنّه زُعِمَ أنّه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص كانت معه، وإنّا لا نريد أن نعتدي عليه فاطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان. فأُخرج فطُعِنَ تسع طعنات فمات في الأُولى منهنَّ أو في الثانية»[42]. «وبُعث برأسه إلى معاوية، فكان رأسه أوّل رأس حُمل في الإسلام»[43].

ونتساءل مع الشيخ الأميني: «إنّه أيّ مبرِّر لابن هند في أمره بإتمام الطعنات التسع بعد الطعنة المودية به؟! وهل في الشريعة تعبّداً بأن يُفعل بالمقتصّ منه مثل ما فعله بمن يقتصُّ له؟! أو يكتفى بما هو المقصود من القصاص من إعدام القاتل؟ ولعلَّ عند فقيه بني أُمية مسوّغاً لا نعرفه. أضف إلى ذلك حمل رأسه من بلد إلى بلد، وهو أوّل رأس مطاف به في الإسلام»[44].

قال النسّابة أبو جعفر محمد بن حبيب في كتاب (المحبّر): «ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي وكان شيعيّاً، ودير به في السوق، وكان عبد الرحمن بن أُمّ الحكم أخذه بالجزيرة»[45]. وقال ابن كثير:«فطيف به في الشام وغيرها، فكان أوّل رأس طيف به، ثمّ بعث معاوية برأسه إلى زوجته آمنة بنت الشريد وكانت في سجنه فأُلقي في حِجرها. فوضعت كفّها على جبينه ولثمت فمه وقالت: غيّبتموه عنّي طويلاً ثم أهديتموه إليّ قتيلاً، فأهلاً بها من هديّة غير قالية ولا مقيلة»[46].

ولو أردنا تتبع ما فعله معاوية من مجازر وقطع للرؤوس والتمثيل بمعارضيه لبلغ ذلك المئات من الصفحات، فنكتفي بهذه النماذج التي فيها عبرة لمن اعتبر.

تبقى مبحثين في الجزء القادم إن شاء الله.

1] للتوسعة اُنظر: لونيسي، علي، آليات مكافحة الإرهاب الدولي. وأيضاً: د. هيثم عبد السلام محمد، مفهوم الإرهاب في الشريعة الإسلامية. وأيضاً: د. محمد نور فرحات، الإرهاب وحقوق الإنسان. وأيضاً: عابدين عبد الحميد قنديل، دراسة تحليلية لقانون مكافحة الإرهاب. وأيضاً: البراك، عبد الرحمن، الحرق والتمثيل بجثث الكافرين في القتال(مقالة). وأيضاً: الموسوعة العربية العالمية، مادة (الإرهاب).

[2] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج11، ص615.

[3] ابن الأثير، المبارك بن محمد، النهاية في غريب الحديث: ج4، ص294.

[4] النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام: ج21، ص77.

[5] الخطابي، حمد بن محمد، معالم السنن: ج2، ص279. العظيم آبادي، محمد شمس الحق، عون المعبود شرح سنن أبي داود: ج7، ص235.

[6] اُنظر: الزبيدي، محمد بن مرتضى، تاج العروس: ج15، ص683.

[7] الهمداني، رضا بن محمد هادي، مصباح الفقيه: ج5، ص436.

[8] النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام: ج21، ص78.

[9] الزمخشري، محمود، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: ج2، ص645.

[10] ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، التمهيد: ج24، ص233ـ234.

[11] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج29، ص128.

[12] المصدر السابق: ج15، ص59.

[13] أبو داود، سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود: ج1، ص602.

[14] البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج6، ص228.

[15] ابن كثير، إسماعيل، البداية والنهاية: ج3، ص378. اُنظر أيضاً: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج2، ص162.

[16] اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، المبسوط: ج2، ص19. وأيضاً: الحلي، ابن إدريس، السرائر: ج2، ص21. وأيضاً: النجفي، محمد بن الحسن، جواهر الكلام: ج21، ص77 ـ 78.

[17] السنباوي، محمد بن محمد، جواهر الإكليل: ج1، ص254. ابن عابدين، محمد أمين، حاشية ابن عابدين: ج3، ص224. الزيلعي، عثمان بن علي، تبيين الحقائق: ج3، ص244. النووي، يحيى، المجموع: ج16، ص314.

[18] الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي: ج2، ص431.

[19] النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم: ج5، ص139ـ140.

[20] الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي: ج2، ص431.

[21] المباركفوري، محمد عبد الرحمن، تحفة الأحوذي: ج4، ص 553.

[22] الشوكاني، محمد بن علي، نيل الأوطار: ج8، ص75.

[23] اُنظر: ابن قدامة، عبد الله، المغني: ج10، ص565. وأيضاً: ابن مفلح، إبراهيم بن محمد، الفروع: ج6، ص218. وأيضاً: البهوتي، منصور، كشاف القناع: ج3، ص69.



[24] ابن قدامة، عبد الله، المغني: ج10، ص565. ابن قدامة، عبد الرحمن، الشرح الكبير: ج10، ص459.

[25] ابن مفلح، إبراهيم بن محمد، المبدع: ج6، ص218.

[26] السنباوي، محمد بن محمد، جواهر الإكليل: ج1، ص254.

[27] النحل: آية126.

[28] عن مجلة (إرشيف ملتقى أهل الحديث): العدد81، ص398.

[29] الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي: ج4، ص361ـ362. السيوطي، جلال الدين،

الدرّ المنثور: ج4، ص135.

[30] المصدر السابق.

[31] الوادعي، مقبل، الصحيح المسند من أسباب النزول: ج1، ص126.

[32] الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، مستدرك الحاكم: ج3، ص197. الهيثمي، علي، مجمع الزوائد: ج6، ص119. الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير: ج3، ص143.

[33] اُنظر: العاملي، جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ج7، ص261ـ272. الأحمدي، علي، الأسير في الإسلام: ص251.

[34] اُنظر: عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي: ج1، ص621ـ631، باختصار وتصرّف. الموسوعة العربية العالمية، مادة: (عقوبة، عقوبة الإعدام).

[35] اُنظر: ما قاله العقاد حول أخلاق يزيد في كتابه الحسين أبو الشهداء: ص105ـ110.

[36] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج1، ص83.

[37] اُنظر: ابن هشام، عبد الملك، السيرة النبوية: ج3، ص607ـ 608، وأيضاً: اليوسفي، محمد هادي، موسوعة التاريخ الإسلامي: ج2، ص311 فما بعد. وأيضاً: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج2، ص204 وما بعدها. وأيضاً: الإصفهاني، علي بن الحسين، الأغاني: ج15، ص130فما بعد. وأيضاً: ابن كثير، إسماعيل بن عمر، تفسير القرآن الكريم: ج2، ص135. وأيضاً: القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن: ج4، ص187ـ 189. وغيرها.

[38] العسقلاني، ابن حجر، تهذيب التهذيب: ج7، ص319.

[39] هكذا وردت العبارة في المصدر: ولكن في مصادر أُخرى وردت هكذا «الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك». الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ص256. والمجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص213.

[40] البغدادي، محمد بن حبيب، المحبّر: ص479.

[41] الأميني، عبد الحسين، الغدير: ج11، ص61.

[42] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص197.

[43] اُنظر: الدينوري، ابن قتيبة، المعارف: ص292. وأيضاً: ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب: ج3، ص1174. وأيضاً: العسقلاني، ابن حجر، الإصابة: ج4، ص515. وأيضاً: ابن كثير، محمد بن إسماعيل، تاريخ ابن كثير: ج8، ص52. وأيضاً: الإصفهاني، علي بن الحسين، الأغاني: ج17، ص144ـ 154.

[44] الأميني، عبد الحسين، الغدير: ج11، ص59.

[45] البغدادي، محمد بن حبيب، المحبّر: ص490.

[46] ابن كثير، محمد بن إسماعيل، البداية والنهاية: ج8، ص52. وأيضاً لمن أراد التوسعة: الأميني، عبد الحسين، الغدير: ج11، ص7 وما بعدها.