كن قرآنياً تكن حسينياً
أي أثر عظيم كان لاسمه؟، فلا يذكره نبي إلا خنقته العبرة وأخذ يجهش باكيا، فهذا قبل أن يتشرف الكون بوجوده، أما بعد ولادته فعلى غير العادة حيث السرور والبهجة التي تكون عند أهل بيت المولود فلقد أقيم مأتمٌ آنذاك.
ولا زال للاسم أثره فبعد أن سقط السبط الشهيد من على صهوة جواده ورُفع على القنا رأسه أبى إلا أن يبقى على ذلك القنا؛ ليشعل فتيل الثورة في قلوب الأحرار، ويزلزل بذلك عروش الظالمين مدى الأعصار، إلى أن يأتي مَن شعاره (يا لثارات الحسين) لينقذ الناس من الضلالة ويرفع عنهم مآسي الظلم والجور والجهالة وحيرة الضلالة، فهذا الإمام الحسين الذي جعل من اسمه ثورة للأحرار بتضحيته، فهل نحن حسينيون على نهجه؟
عندما ننتسب إلى أشخاص بمثل هذه العظمة نشعر بوجداننا أن الفرق شاسع بين واقعنا وبين حياة أولئك العظماء، فأنّى لنا أن نقطع تلك المسافات الشاسعة ونقترب من الإمام الحسين فنكون حسينيين فعلا؟؛ فكيف نلتحق بالركب الحسيني الذين قال عنهم: «لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي»؟(1)
الالتحاق بالركب الحسيني يعني اقتفاء آثارهم والاتصاف بأخلاقهم وفضائلهم أليس كما يقول المثل «قل لي من تصاحب أقل لك من أنت» فأن نكون حسينيين فعلا هذا يعني أن نكون كأصحابه الذين استشهدوا معه ، فننظر أين كانت تكمن فضيلتهم ؟ أليس في تضحيتهم بأنفسهم والتي تدل على وفائهم لإمامهم، وتلك الفضيلة إنما هي لبصيرتهم النافذة التي قد استمدوها من الكتاب والعترة؛ فهل لنا أن نكون كذلك؟
الآيات البينات(البصائر) والتحوّل الإيماني:
فلنتأمل ما الذي جعل سحرة فرعون مؤمنين من الدرجة الأولى بعد أن كانوا مؤازرين للباطل مبارزين للحق؟
التحوّل الإيماني إنما كان صنيع تلكم البينات التي كانت على يد نبي الله موسى والتي قد عاينوها ببصائر قلوبهم ، فجعلت منهم ثابتين مستقيمين على الإيمان رغم كل التهديد من فرعون وشدة الوعيد منه؛ إليكم الآيات التي تنقل الحديث الدائر بين فرعون وسحرته: (قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِیرُكُمُ ٱلَّذِی عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَـٰفࣲ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِی جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ وَلَتَعۡلَمُنَّ أَیُّنَاۤ أَشَدُّ عَذَابࣰا وَأَبۡقَىٰ قَالُوا۟ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاۤءَنَا مِنَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ...) (2).
فهذه البينات من نبي الله موسى هي معجزات وهذا أثرها الطيب كما ترون حيث اتصفوا بأفضل الصفات وهي التضحية في سبيل الله، فهل تتوافر بين أيدينا أيضا بينات فنتحلى بتلك الفضيلة؟ ، تقع الإجابة على ثلاث مقدمات:
١-ماذا تعني البينات؟
البينات هي تلكم الحقائق الواضحة التي لا يمكن أن تخفى على عاقل ذي وجدان متيقظ غير غافل، فهي قد تخفى أو يُلهى عنها وكأنها غير موجودة لأقل غفلة مع شدة وضوحها، وكمثال على حقيقة واضحة بينة هي أن العلم بالغيب يستلزم الاستكثار من الخير والحفظ عن الأسواء كما يقول القرآن نقلا عن النبي:(...وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَیۡرِ وَمَا مَسَّنِیَ ٱلسُّوۤءُۚ...)(3)
وهذه الحقيقة واضحة ولكن الجن كانوا يدّعون علم الغيب مع وضوح كذب ذلك بالنسبة لهم، وليبين الله لهم كذب ما يدعون حَبَك لهم ذلك الموقف الذي صدمهم بالحقيقة ولذلك استعمل القرآن لفظة تبينت والذي نستفيدها من هذه الآية:(فَلَمَّا قَضَیۡنَا عَلَیۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦۤ إِلَّا دَاۤبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَیَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ ٱلۡغَیۡبَ مَا لَبِثُوا۟ فِی ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِینِ)(4)
٢-ماذا بعد البينات:
لنعلم أولا أن القرآن الكريم هو كتاب بينات فإنه سبحانه يقول عنه: (شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ...)(5)
أما الغاية من البينات هي غاية القرآن نفسه وهي التوصل إلى حالة التذكر والتي هي نفسها البصيرة يقول سبحانه وتعالى في أول سورة النور:( فِیهَاۤ ءَایَـٰتِۭ بَیِّنَـٰتࣲ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ)(6) فالغاية التذكّر، والذي يعني تذكّر تلك الحقائق الكبرى التي قد فطر الله الانسان على معرفتها ، ولأن الانسان ما دام في الدنيا فإنه ينشغل بها وبزخارفها فيغفل عن تلك الحقائق الواضحة، أو أنه أمام الشبهات وتلبيس الحق بالباطل تخفى عليه تلك الحقائق، فيحتاج إلى من يثيرها وينبهه على وجودها.
ومصطلح التذكر في القرآن الكريم يُعنى به إبصار الحقيقة مع ترتيب الأثر، فمن دون قيد ترتيب الأثر لا يعتبر تذكراً بحسب المصطلح القرآني؛ هكذا نفهم من قوله تعالى: (وَجِا۟یۤءَ یَوۡمَىِٕذِۭ بِجَهَنَّمَۚ یَوۡمَىِٕذࣲ یَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَـٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكۡرَىٰ)(7)، فعندما يرى الكافر والمسرف جهنم أمامه فإنه يبصر حقيقة العذاب *فيروم عند ذاك أن يتجنبها فهذه الحالة يسميها القرآن تذكر ، ولكن أنى له ذلك كما تخبر الآية إذ أنه لا يمكن له أن يتجنبها.
فهذه هي البصيرة عند التذكر والتي نقرأها في قوله تعالى:(إِنَّ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ إِذَا مَسَّهُمۡ طَـٰۤىِٕفࣱ مِّنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ تَذَكَّرُوا۟ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ)(8) ونرى هذه الآية قد تجلت في أصحاب الإمام الحسين ولا سيما العباس بن أمير المؤمنين فهو نافذ البصيرة كما ينقل عن الإمام الصادق: « كان عمنا العباس نافذ البصيرة»(9)، فعندما ينادي الشمر-لعنه الله- بالأمان له ولأخوته، يرد العباس بما ينبأ عن مدى بصيرته بقوله :«لعنك الله ، ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له»(10)
٣-حسينيون بالقرآن:
فالبينات في القرآن ليست بأقل من البينات التي كانت على يد النبي موسى إن لم تكن أكثر برهانا وبيانا، فكما كان لها الأثر العجيب على السحرة من التحوّل الإيماني والاستقامة على ذلك فإن لآيات القرآن ذات التأثير !؛ ولكن لايكون ذلك إلا لمن يقرأ القرآن وله قلب واعٍ؛ يقول تعالى: (إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِیدࣱ)(11)، فمعجزة النبي موسى قد رأها فرعون والملأ كما رآها السحرة ولكن لم يؤمن بها إلا السحرة والفارق أنهم أبصروها بقلوبهم عدا أولئك فإنهم رأوها بأم أعينهم ولم يبصروها بقلوبهم، كذلك هي الآيات البينات في القرآن الكريم إذ هي في متناول الجميع ولكن لا يبصر الحقيقة بها إلا من يتلقاها بقلبه، فالذي يكتفي بجوارحه دون قلبه الذي يتعقل به ما يسمع أو يرى فإنه لا يبصر الحقيقة وهذا ما نستبينه من الآية الكريمة قال تعالى: (وَمِنۡهُم مَّن یَنظُرُ إِلَیۡكَۚ أَفَأَنتَ تَهۡدِی ٱلۡعُمۡیَ وَلَوۡ كَانُوا۟ لَا یُبۡصِرُونَ)(12)
إذن فمن أراد أن يكون حسينيا مقتديا بالعباس وبقية الأصحاب فها هو كتاب البينات والبصائر بين يديه وما عليه إلا أن يفتح الأقفال عن قلبه ليرى به البصائر والتي هي غاية الغايات من القرآن الكريم حيث ينقل عن الإمام الصادق: «طوبى لمن جعل بصره في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه...»(13).
ولا وسيلة لتوصّل إلى غاية الغايات إلا بالتدبر فيه والذي هو الآخر يعتبر غاية في حد نفسه وجسر للوصول إلى التذكر؛ يقول تعالى: (كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ مُبَـٰرَكࣱ لِّیَدَّبَّرُوۤا۟ ءَایَـٰتِهِۦ وَلِیَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ)(14)