عباءة الشيرازي وإدارة الاختلاف بالقيم الإنسانية النبيلة

شبكة مزن الثقافية حيدر الجراح/ مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

 
رغم انها عباءة بالية بالكاد تتماسك خيوطها، الا انها بقيت تحتضن الجميع.

اتحدث عن إدارة الاختلاف.. كان بارعا فيه ولا زال كذلك. لا تناقض بين الماضي والحاضر والمستقبل.. فنصوصه الحاضرة بيننا الان وغدا هي التي يمكن ان تنير طرقنا حول كيفية التعامل مع اختلافاتنا مع الاخرين، وان ندير هذا الاختلاف لصالح انسانيتنا، ولصالح عيشنا المشترك مع المختلفين عنا في هذا الوطن..

اول خطوة في وعي الاختلاف هي فن الاعتذار الجميل للآخر المختلف إذا لحقته اساءة حتى لو كانت دون قصد فعل او كلمة او حتى إشارة يفهم منها الانتقاص، وفعلها الشيرازي، ولم يتردد ان يقول:

عفواً سامحني فأنا لم أقصدك وما هو إلا بيت من الشعر ورد في سياق كلام اخاطب به الجميع في مجلسي.

ثاني خطوة في وعي الاختلاف عدم الاقدام على ما يسيء الى المختلف، وفعلها الشيرازي وقطع وعدا على نفسه الا يقرأ مثل ذلك الشعر من على منبره، وامتدت تلك التجربة الى اخر عمره الشريف..

ثالث خطوة في وعي الاختلاف كان يتحمل كل الناس ولا يرد على المعتدي بالمثل ويتواصل مع من يقاطعه ويوصل العطايا الودية والهدايا التقديرية الى الخصوم، واذا سمع عن احد او جماعة بعد ذلك يتحدثون بالسوء عنه، لم يكن يرد عليهم اساءتهم بالمثل بل كان يقول: نحن السبب يلزم رعايتهم اكثر ثم الحوار معهم حول مواقفهم.

رابع خطوة في وعي الاختلاف هي الصبر على المختلف، حتى لو كان هذا المختلف يتوسل بخطاب جارح، ويلجأ الى شتى الوسائل للنيل من المقابل، وهذا في منطق الأخيار وسيرة الأئمة (عليهم السلام) هو من أهم آليات الجواب بمثل هذه المواضع والقضايا.

خامس خطوة في وعي الاختلاف، هي الحوار مع المختلف، لمحاولة تقويم ما انحرف من قوله وسلوكه..

سادس خطوة هي العفو، وكان الشيرازي يعفو كثيرا عمن اساء اليه في اختلافه عنه، بالرغم من شدة الاساءة وفداحتها.

وكانت فلسفته بسيطة في تفسيره لاتخاذ مثل تلك المواقف، فهو يقول:

اننا بمقدار ما نصرف من جهد على الرد نتخلف عن اداء الواجب ومواصلة مسيرتنا.. ثم يضيف: ان المعارضين هنا وهناك كل يوم يقولون شيئا او يصدرون بيانا او ما شابه ذلك هل نترك اعمالنا ونشتغل بالرد عليهم؟

وتختفي خلف تلك الفلسفة البسيطة في التعامل مع الاخرين، اقتداء عظيم بشخصية الرسول الاكرم واهل بيته متأسيا بقول رسول الله : (صل من قطعك واعف عمن ظلمك).

وقول الامام زين العابدين في دعاء مكارم الاخلاق : ((اللهم... وسددني لان اعارض من غشني بالنصح ومن قطعتي بالصلة ومن اغتابني الى حسن الذكر)).

كان في حياته (قدس سره) يؤمن بأنه ليس هناك عدو في قائمته، وإنما الكل أصدقاء، لذلك كان مبناه هو التَحَمُّل والمداراة لمختلف شرائح الناس، رغم ابتلائه بخصوم الدّاء، بحكم موقعه كمرجع تقليد ومصدر للقرار ولإدارة شؤون مجتمعه.

لم يسمع منه كلمة واحدة ضد أحد من خصومه، رغم الكثير مما ينقل اليه عن اساءاتهم البالغة بحقه، فكان يذكر اولئك الخصوم دائماً بالخير.

سلوك مثل هذا لا تجده إلا عند أناس اقتدوا بالأنبياء؛ لأن الأنبياء هم الذين عرفوا الحق، وعرفوا الحقيقة، ورأوا نور الله.

كان احترام الاختلاف وادارته بهذه الطريقة واحدا من نقاط قوته، ففي كل فكر متقدم، وفي كل قائد حكيم؛ إنه يجمع المختلف، وطالما هو في كتبه ومحاضراته يؤكد: اذا اختلف اثنان من أصحابه كان يوصيهما بتحمل الآخر، وكان يوصي اصحابه وتلامذته بسيرة النبي .

في معظم ماكتبه نجد أن واحداً من أهم محاور فكره هي: جمع الكل، هذه الكلمة التي تكاد تكون نادرة في أذهان الكثيرين من القادة والزعماء والسياسيين والشخصيات، لان الناس غالباً ليسوا مستعدين لتحمل الخصومة، ولا مستعدين لتحمل من يخالفهم في الرأي، ولكن هو حتى مع مخالفيه، حتى من يسبّه ويشتمه كان يكرمه، وكان عندما يأتي إليه يستقبله، ويقدم له النصيحة، وهو يعلم أنه يأخذ منه النفع، ويوصل إليه المضرة. وعلى حد تعبير احد الشخصيات: أنا أتعجب أن يد السيد ليس فيها (ملح) بالنسبة إلى الكثيرين.؟! لأن الكثير من الواجهات والرموز يصلهم خير السيد ـ ولكنهم يضمرون الشر له.

توفر الامام الراحل على هذه الطاقة من التحمل، وامتلك هذا القلب الواسع الكبير.

هذا المنهج هو الإدارة بالقيم الإنسانية العليا، الإدارة عبر الأخلاق، والإدارة عبر المعنويات.

كان يدير عمله وله تأثير على القلوب وعلى الأرواح بشكل كبير.

حتى انه لو اساء اليه احدهم في محضره، لا يرد عليه بشيء سوى بابتسامة ترتسم على وجهه المبارك، وكأن لسان حاله يقول كما قال الله العظيم في كتابه الكريم: ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.

ما احوجنا اليوم الى مثل تلك القيم الانسانية النبيلة ونحن نرى ان اختلافاتنا وخاصة السياسية والمذهبية تكاد تعصف بوجودنا وبأوطاننا ومستقبل اجيالنا.