نحو ثقافة قرآنية (14)
ما الذي يحرّك المجتمع؟
ضمن ما يتصل بـ (فلسفة التاريخ) ينبثق سؤال مركزي هام يقول: (ما العنصر الذي يحرّك التاريخ والمجتمعات؟)، (ما العامل أو العوامل التي تبعث الحركة في المجتمع والتاريخ؟)، (ما سبب الحركة في المجتمع؟)، (ما العامل الذي يشحنه بالطاقة والحيوية، ويبعث فيه الحركة والفاعلية والنشاط؟).
وللإجابة على هذا السؤال الهامّ تقاطرت محاولات ونظريات كثيرة، ومنها:
1ـ الجنس السامي (الراقي):
وترى أنَّ السلالات والأعراق البشرية متفاوتة من حيث العوامل الأنثروبولوجية، ففيها الرفيع الراقي السامي القادر على صنع الحضارات، وإنتاج العلوم والفلسفات والأخلاق والصناعات، وفيها المنحطّ الخسيس الذي لا يُنتظَر منه ذلك، وما هو إلا مستهلك فقط.
فالحضارة تقوم على عنصر (الجنس) والدم، والتاريخ تحرِّكه أجناس خاصة، لها يعود فضل جميع ما حقّقته البشرية من أعمال وإنجازات وتقدّم، وذاك انعكاس لخصائصها الذاتية، فالجنس الشمالي (الأوروبي) قادر على بناء الحضارة، بخلاف الجنوبي.
وشهدت هذه النظرية ظهورات متفاوتة زمنياً:
فقد نادى بها (أرسطو طاليس) [384 ـ 322 ق م] للعرق الأبيض الأوروبي.
كما نادى بها (آرثر دي جوبينو) [1816ـ 1882م] في (فصل المقال في لا تساوي الأجناس البشرية) للإنسان الأشقر الذي يشكِّله الجنس الهندو ـ أوروبي، وراحت نظريته ترتكز على الآتي:
أولاً: أنَّ الأعراق البشرية منها ما هو نقي راقٍ، ومنها ما هو منحط رديء!!:
فالأوربيون البيض أرقى من الزنوج والشرقيين، والرجل الأبيض لديه توافق أعظم بين مكوِّنات القوة الجسدية والذكاء والأخلاق، ومن بين كلّ الأجناس الموجودة يظلّ هو الأكثر حيوية، .. تلك الحيوية التي هي قوّة حياة أو جوهر تنتقل إلى ذريته، وهي أساس الحضارة والإبداع الإنساني.
ثانياً: النشاط العقلي للإنسان يتأثر بالخصائص العرقية، فالعرق الرفيع يمتاز بالذكاء دون غيره.
ثالثاً: العرق الآري هو أرقى الأعراق، والعرق الزنجي أدناها، وهناك أعراق وسطى، والتاريخ الإنساني هو تاريخ القيادة والحضارة الآرية!!
رابعاً: عزل الأعراق، ووضع كلّ منها في الموضع المناسب لدرجة رقيِّه أو انحطاطه.. ضرورة حضارية.
ونادى بها (ألفرد روزنبرج) [1893ـ 1946م] في (أسطورة القرن العشرين) [1934م]، للعرق الأزرق الجيرمني (الألماني)، وكذلك (هتلر) [1889ـ 1945م]، وعليها اعتمدت مقولات النازية وفكر هتلر.
2ـ نفسية الأمة:
واعتقد (غوستاف لوبون) [1841ـ 1931م] في مؤلَّفه (فلسفة التاريخ) بأنَّ لكلّ أمة خصائص نفسية تحدِّد مسار تطوّرها التاريخي، والتاريخ نتيجة للمزاج النفسي للأعراق، وأنَّ الأمة لا تستطيع أن تنفلت من مزاجها، ولو انفلتت فذاك إلى وقت قصير كالرمل الذي تثيره الزوبعة فيفلت من أسار الجاذبية إلى حين.
3ـ الجغرافيا:
فالبيئة الطبيعية هي صانعة الحضارات، فإذا كانت ذات مناخ معتدل سادت العقول المعتدلة البانية للحضارة، أما ذات المناخ الحارّ فتسودها الانفعالية وعدم القدرة على بناء الحضارة.
وإذا كانت البيئة على شاكلة مناطق صغيرة بين سلاسل جبلية (كاليونان) فسوف يسود الحكم الديمقراطي؛ لأنَّ البيئة أقسام صغيرة تستطيع أن تحكم نفسها.
وحين تكون سهلية منبسطة فسوف يسود فيها الحكم الملكي الإمبراطوري كتلك التي سادت في مصر والهند وبلاد فارس.
أما حين تكون جبلية أو واحات منعزلة فسوف يسود الحكم القبلي.
وقد آمن بهذه النظرية الفيلسوف الفرنسي (مونتسكيو) [1689ـ 1755م] ـ كما في كتابه (روح القوانين) أو (روح الشرائع) ـ، والسير (جون هالفورد)، كما ناصرها المؤرخ العربي ابن خلدون [732ـ 808هـ]، [1332ـ 1406م] في تاريخه الشهير (العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر)، المعروف بـ (تاريخ ابن خلدون).
وقد بلغ الأمر منتهاه عند (ماكندر) ـ وتبعه الدكتور جمال حمدان في كتابه (استراتيجية الاستعمار والتحرير) ـ، فراح يختزل تاريخ الصراع في العالم على أنَّه بين (قوَّة البحر، وقوّة البرّ، وقوَّة برمائية بينية)، ويكرِّر نفسه ضمن ثنائية الصراع بين (الرعاة والمزارعين)، (الرمل والطين)، (الجبل والسهل)، (الاستبس والغابة).
4ـ صراع النقائض:
ويرى الفيلسوف الألماني (هيجل) [1770ـ 1831م] أنَّ كلّ شيء يحتوي في داخله على نقيضه، وأنَّ هذا النقيض سيبرز ويتغلَّب، ثمّ ينشأ عنه نقيض له يتغلّب ـ هو بدوره ـ عليه، وهكذا يتحرّك التاريخ والحضارات ضمن سير تتابعي لصراع النقائض بتطورها الثلاثي (الوضع، النقيض، نقيض النقيض).
فالمجتمع يكون على صورة اجتماعية سائدة (وضع)، تخلق في داخله قوى نقيضة مباينة متطلعة إلى التغيير تسعى لهدمه وتجاوزه (نقيض)، فيتعملق الصراع بين القوتين المتسيّدة النمطية الهرمة، والمجددة الفتية، ثم لا يلبث أن تصل الثانية إلى مرادها، وتطبيق مبتغاها، لكنّ بقاءها على صورتها الجديدة التي جلبتها يحوّلها مع الزمن إلى نمطية، مما ينتج جماعة أخرى ساخطة على ذلك (نقيض النقيض)، وسائرة نحو التغيير، وينشأ صراع جديد، تسعى فيه القوى النمطية للحفاظ على الصورة الاجتماعية المتحققة، بينما تسعى الثانية للثورة على السائد النمطي واقتلاعه وإحلال الجديد، وهكذا دواليك..، وهذه الصورة الديناميكية من صراع النقائض هي التي تحرّك المجتمع.
5ـ الاقتصاد:
ويرى (كارل ماركس) [1818ـ 1883م]، [1234ـ 1301هـ] في كتابه (نقد الاقتصاد السياسي) أنَّ (الاقتصاد) هو العامل الذي يحرِّك التاريخ، وأنَّ جميع الجوانب الأخرى تابعة له، وأنَّ تطوّر وسائل الإنتاج وعلاقاته في مجتمع ما.. هو الذي يغيّر ذلك المجتمع.
وبعبارة أخرى، فالاقتصاد يمثِّل (البنى التحتية) التي يؤدي تغيُّرها إلى تغيُّر حتمي في (البنى الفوقية) التي تمثِّل الأمور العقدية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والعسكرية وغيرها..
فالماركسية معتمدة على فكرة الصراع نفسها، شأنها شأن صراع النقائض الهيجلي، لكنّها أكثر تحديداً، لا توكل الصراع الاجتماعي المحرّك للمجتمع إلى مجمل العناصر التي تشكل الوضع الاجتماعي السائد/ والنقيض الاجتماعي الهادف للتغيير، وإنّما تضيّق دائرة الأسباب إلى خصوص السبب الاقتصادي، وترى أنّه العامل الحقيقي في عملية التغيير، وأما التغيّرات الأخرى في الجوانب العقدية والأخلاقية وغيرها، فهي تبع للتغيّر الاقتصادي.
فالتغيّر الاقتصادي أساسي تحتي، وكلّ تغيّر غيره تبعي فوقي.
6ـ الطاقة الجنسية:
وعزا (سيجموند فرويد) [1856ـ 1939م] إلى الطاقة الجنسية (الليبيدو) عند الإنسان كلّ نشاطاته، ومنها بناء الحضارة وتحريك التاريخ، والمعرفة والاقتصاد والسياسة والدين.
ورأى أنَّ الغرض الأساس لكلّ فكرة وعمل يقوم به الإنسان ـ خيراً كان أم شراً ـ، وكلّ ما يتحرّك ضمن دائرة (الشعور) إنَّما هو إشباع للحاجات الحسية والشهوة المختزنة في داخله في (اللاشعور)، غاية الأمر أنَّه تعبير محرَّف عن تلك الحاجات.
فالشاب الذي عشق فتاة بهية فاتنة، تملكت عليه نفسه، وتحطمت طموحاته دون بلوغ المرام، وسعى إلى تناسي الخيبة، والتخلص من سعير العذاب المشتعل في جواه ـ يقوم ذهنه بتحويل لهيب وهجه الجنسي من الشعور إلى اللاشعور، وفيما يبدو أنّ الدافع خمد وانطفأ يظلّ يعمل بضراوة ونشاط في مكانه الجديد الخفي المستتر، ويسيِّر تصرّفات ذلك الشاب الذي قد تزجي إليه نفسه حيلة من حيل الدفاع النفسي، وتدفعه عبر (الإبدال) إلى رعاية الأيتام أو المحتاجين أو العجزة كصورة محرَّفة عن غرامه العاثر، وبذاك يتم الفعل الاجتماعي!!
7ـ البطل:
وهناك من رأى بأنّ السبب الصانع للحركة في المجتمعات والدول والتاريخ هو (البطل) الملهم، و(القائد) الفذ، و(الكاريزمي) الجذّاب، القادر على خلق القناعات والتحشيد والتحريك وإحداث التغيير والنهوض الاجتماعي والحضاري، فحضارات الأمم يعود صنعها دوماً إلى (بطل) ـ أو أبطال قلائل ـ ظهر فيها، واتسم بمستوًى من النبوغ والفاعلية يفوق معاصريه، أما بقية الناس فهم أتباع منساقون لا يملكون تلك القدرة الفاعلة المحرّكة.
وقد آمن بها (توماس كارليل) [1795ـ 1881م] في كتابه (في الأبطال وتقديس البطولة وعنصر البطولة في التاريخ)، الذي صدر في 1841م.
كما آمن بها شبنجلر [1880ـ 1936م] في (أفول الغرب) أو (انحطاط الغرب) أو (تدهور الحضارة الغربية) ـ حسب اختلاف عناوين الترجمات ـ.
كما آمن بعض الإسلاميين بهذه النظرية بتقريبين:
أولهما: أنّ المنعطفات الأساسية لتطور الأمم كان مترافقاً زمنياً مع وجود الأنبياء، وبعثة الأنبياء، فتطور الأمم والمجتمعات في شتى الاتجاهات كان رهن وجود النبي وتحريك الوحي لعجلة التقدم.
لقد حفلت حركة المجتمع والتاريخ البشري بالقوة والنشاط "بفعل ظهور الأنبياء والرسل العظام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ على مسرح الحياة البشرية، الذين أقالوا عثرات التاريخ، وأمدوا الإنسانية بمختلف القدرات والإمكانات الصالحة لبقائها واستمرارها. فقد مثلت حركة النبوات في عملها جانب الرعاية الإلهية لحركة التاريخ؛ حيث عملت على تعميق مجرى الحياة، ومقاومة كلّ محاولة للتوقف"[1] .
فالأنبياء جاؤوا لمجتمعاتهم يحملون جذوة الهدى ومشعل النور (البينات)، وهذا يمثّل الفكر النظري لقاعدة التغير، ولا يكتفون بذلك، بل يمارسون عملية التغيير و(إخراج الناس من الظلمات إلى النور)، وبهذا يجمعون بين الجانبين النظري والتطبيقي معاً:
ـ ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[2] .
ـ ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾[3] .
ـ ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[4] .
ـ ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[5] .
ـ ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾[6] .
ـ ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[7] .
ـ ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾[8] .
ـ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[9] .
ـ ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾[10] .
وثانيهما: أنّ القرآن الكريم يشير إلى الدور العظيم الذي يحققه (البطل) في إحداث الحِراك الاجتماعي والتغييرات والتطويرات الاجتماعية، على نحو قوله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[11] .
وهذه الآية الكريمة أشارت إلى الأمرين معاً: فذاك الحِراك والتغيّر الاجتماعي الذي حصل في مجتمع بني إسرائيل ترافق مع وجود نبي بينهم (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ/ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ)، والذي قادهم إلى تنفيذه ورسمه واقعاً على أرض التحقق (بطل) هو طالوت ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾، ثم قاد الدولة الفتية (بطل) هو النبي داوود ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾.
وتزدان دوحة القرآن النضرة بكثير من الأمثلة النبوية المغيّرة والمحرّكة لمجتمعاتها:
فالنبي لوط جاء لإحلال قيمة الشرف والانضباط الأخلاقي، ومواجهة الرذيلة والشذوذ.
والنبي شعيب جاء لمواجهة الظلم الاقتصادي، وإحلال العدالة الاجتماعية.
والنبي موسى أنقذ بني إسرائيل من الظلم السياسي والاجتماعي الذي صبّه عليهم فرعون وملؤه.
8ـ الروح الكلّي للعصر:
ورأى (ولتر شوبرت) في كتابه (أوروبا وروح الشرق) أنَّ الحضارة في كلِّ عصر تبنيها الروح السائدة فيه والتي تميِّزه.
9ـ الحرية:
وتسود لدى النظام الديموقراطي الرأسمالي قناعة بأنّ أساس حركة التاريخ والتقدم الاجتماعي هو (الحرية) بما تشرعه من باب مفتوح للمنافسة، وبما تنتجه روح المنافسة من الوصول إلى الأصلح والأفضل، فالحرية تنتج المنافسة، والمنافسة تنتج الأصلح.
وهذه الحرية لها جوانب أربعة عُرفت بـ (الحريات الأربع)، وهي: الحرية الشخصية، والحرية الفكرية، والحرية الاقتصادية، والحرية السياسية.
وجاءت هذه الفكرة مؤسسة على الأفكار المنبثقة من الثورة الفرنسية [1789م]، ومبدؤها الذي قامت عليه ودعت له (الحرية والعدالة والمساواة)، وشعار (دعه يعمل، دعه يمرّ).
10ـ الإرادة الإلهية:
فمنذ القدم اعتقد (بوليبوس) [حوالي 210ـ 125 ق م] أنَّ القدر هو الذي يسيِّر التاريخ، وهو مبدأ وغاية العالم.
ويعيد الأسقف الفرنسي (بوسييه) [1627ـ 1704م] ـ تغيُّر التاريخ والحضارات إلى المشيئة الإلهية المتصرِّفة.
فحركة التاريخ لا ترجع إلى أسباب ضمن الطبيعة أو بنية الواقع أو عمل البشر، بل.. ترسمها يد الغيب المهيمنة.
11ـ الفكرة الدينية (المبدأ الأخلاقي):
يرى (كسر لنج) أنَّ الفكرة الدينية أو (المبدأ الأخلاقي) ـ كما يسميه ـ هو سبب انطلاق المجتمعات، فالعقيدة المسيحية بروحها الخُلقي تمكّنت من القبائل الجرمانية، وبعثت فيها الروح الفعّالة التي بنت الحضارة المسيحية، فهذه الحضارة قامت على (روح) المسيحية و(تقاليد) الجرمانية.
كما نادى بها من قبْله المؤرخ الفرنسي (جيزو) [1879ـ 1949م].
ويشترط مالك بن نبي [1323ـ 1393هـ]، [1905ـ 1973م] تفاعل هذا السبب مع عناصر الحضارة الثلاثة؛ ليتم بناؤها؛ لأنَّ "الوسيلة إلى الحضارة متوافرة ما دامت هنالك فكرة دينية تؤلِّف بين العوامل الثلاثة: الإنسان، والتراب، والوقت، لتركِّب منها كتلة تُسمّى (حضارة)" [12] ؛ لأنَّ الفكرة الدينية تبني الإنسان، وهو يقوم بدوره في بناء الحضارة[13] .
12ـ نظرية التحدي والاستجابة:
درس المؤرخ الإنجليزي (جون أرنولد توينبي) [1889ـ 1975م] 21 حضارة إنسانية، وحاول الوصول إلى القوانين العامة التي تتحكم في قيامها وتطورها وانحلالها، ووصل إلى أنّ (التحدي) هو العامل الصانع للحضارة، وأنّ الشعوب والأجناس يواجهها (التحدي) البيئي بعوامله: الجغرافية الطبيعية، والإنسانية البشرية، سواء أكان تحدياً داخلياً ضمن بنية المجتمع، أم خارجياً صادراً من مجتمعات أخرى، وسواء أعاد للجانب النفسي، أم الفكري، أم التنظيمي، أم المادي.
- ولهذا التحدي مستويات ثلاثة:
أـ التحدي القاسي:
وهو التحدي الأكبر من قدرة المجتمع، والذي لا يستطيع الإنسان تطوير آليات للتغلب عليه.
ب ـ التحدي الضعيف:
وهو التحدي الذي لا يستفزّ طاقة الإنسان، ولا يحرّكه لكي يطور ذاته.
ج ـ التحدي الخلاق:
وهو التحدي الذي يستفزّ طاقة الإنسان، ولكنّ الإنسان قادر على تطوير آليات للتغلب عليه، مثل حالة الشعوب التي صنعت الحضارات.
ولكي تبني الشعوب الحضارة تحتاج إلى (استجابة) ورد على (التحدي)، وبمقدار مواجهتها للتحديات الطبيعية والبشرية تكون استجابتها:
أـ فإذا تغلبت على المشاكل والصعاب، كانت استجابتها إيجابية ناجحة، تشدّها إلى حبل التقدم والانطلاق.
ب ـ وإذا عجزت عن التغلب على المشاكل والصعاب، كانت استجابتها سلبية فاشلة: إن لم تركلها إلى بحر الفناء والزوال، ستركسها في مستنقع السكون الذي يزرّقها بإبر الخدر والتوقف والجمود.
وكلّما عجزت عن التحدي سرت إليها عناصر التفسّخ والزوال[14] .
يقول توينبي: «إنّ تاريخ كلّ أمة من الأمم إنّما هو استجابة لتحدي الظروف التي وجدت فيها، وإنّ الإنسان حقّق الحضارة؛ استجابة لتحدي موقف ذي صعوبة خاصة«[15] .
13ـ نظرية الصراع وصِدام الحضارات:
وقد حاول بعض الإسلاميين المقاربة بين نظرية توينبي والقرآن الكريم، فردّ عنصر التطوّر الاجتماعي إلى (نظرية الصراع) بين المجتمعات والحضارات، أو (الصراع بين البشر والشيطان)، أو (الصراع بين الخير والشرّ).
وقد كتب صامويل هانتنغتون مقالته الشهيرة (صِدام الحضارات) في صيف 1993م، ونشرها في مجلة (الشؤون الخارجية) الأمريكية، ثم حوّلها إلى كتاب موسّع صدر في 1996 بعنوان (صِدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي)، والذي أحدث دوياً هائلاً وتموّجات عاتية في العالم من أقصاه إلى أقصاه.
في حين أشار الدكتور شحادة الناطور إلى أنّ حركة التاريخ تحمل ديناميكية استمراريتها معها؛ إذ هي تعبير عن جوهر الصراع بين قطبين متضادين بكلّ ما يمثلانه من أبعاد وتفرّعات في حياة الجماعة البشرية، إنّه الصراع الواسع الشامل بين بني البشر/ والشيطان وجنوده، والتقابل المتشابك الدائم بين الخير والشرّ على أوسع الجبهات، إذا ما أُريد للحياة البشرية أن تتطور وتتصف بالاستمرارية والاتصال، فإذا توقفت عن ذلك تحجرت وتجمدت وعجزت عن النمو، وقد ينتهي الأمر بها إلى الزوال"[16] .
14ـ نظرية التدافع:
ورأى بعض الإسلاميين أنّ لفظة (الصراع) ذات إيحاء عدائي صِدامي تقاتلي تحاربي، تستحضر في مخيلتها صليل السيوف، وبريق الأسنة، والأشلاء والدماء، فسعى لتخفيف لهيب المصطلح، وتسميتها بـ (نظرية التدافع) أو (تدافع المجتمعات والحضارات)؛ ليقول: إنّ التدافع بين المجتمعات والدول والحضارات هو عنصر تقدمها وتطورها.
ورأى أنّ القرآن الكريم يشير إلى أنّ المجتمعات في حالة (تدافع)، يدفع بعضها بعضاً، ويحرّك بعضها بعضاً: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[17] ، ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[18] .
وإلى جانب وجود فكرة (التدافع) في هاتين الآيتين الكريمتين، فإنّهما تعطيان تجربتين فعليتين لذلك: في أولاهما: استطاعت قوى الخير إزالة كابوس الشرّ، فهزم بنو إسرائيل في زمان طالوت عدوهم، وقتلَ داوودُ جالوتَ، وانتقل المُلك إليهم. وفي الثانية: استطاعت قوى الشرّ مغالبة قوى الخير، وطردها.
وهذا يعني أنّ قوى الخير وقوى الشرّ، كلاهما تخضعان لعالم الأسباب وقانون السنن.
كما يقول القرآن الكريم: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾[19] .
فالحِراك الاجتماعي يجعل الدوائر تدور على الأخيار والأشرار معاً: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾، والأيام المسرّة أو المحزنة أو التي تشهد حكم أناس وقوتهم غير مقصورة على أناس معينين، بل.. إنّ سير عجلة الزمان يجعلها تنتقل بين الناس والمجتمعات، فتتبادل المواقع، وتتناوب على عناصر القوة والغلبة، أو الضعف والشتات.
15ـ نظرية التنافس:
وذهب قسم من الإسلاميين إلى إنّ صورة الحركة الاجتماعية المطورة للمجتمع ليست بالضرورة عنفية احترابية صِدامية (صراع)، أو صورة مغالبة وإجلاء يدفع فيها مجتمع غيره، ويزيحه عن موقعه، ويحلّ مكانه (تدافع)، وفضّل تسميتها بـ (نظرية التنافس) أو (تنافس المجتمعات والحضارات)، ليقول: إنّ صورة الحركة بين المجتمعات قد تكون إيجابية يسعى فيها الطرفان لبلوغ الأفضل والوصول إليه (تنافس/ منافسة) دون صراع وتدافع، وأنّ سبب حركة المجتمعات وتطورها هو التنافس بينها في الوصول إلى الأفضل، وأنّ الحركة الاجتماعية ينبغي أن تكون طرفينية (تفاعل/ مفاعلة) تصدر من المجتمعين معاً، مستفيداً من قوله تعالى: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾[20] .
16ـ حوار الحضارات:
تبنى المفكر الفرنسي روجيه غارودي [1913ـ 2012م] فكرة (حوار الحضارات) في كتابه (من أجل حوار بين الحضارات)، الذي صدر في 1977م[21] ؛ ليركز على البعد الأكثر دينامية في تفاعل المجتمعات والحضارات، وهو بُعد الحوار، الذي يوفر للمجتمعات تجاذباً طرفينياً للفكر والحديث، وتواصلاً جدياً فاعلاً، واستماع واع، ومن ثم يهبها التبادل الإيجابي لعناصر القوة والتطور.
وتقوم نظرية حوار الحضارات عند غارودي على أنّ النظرة إلى الآخر ينبغي أن تشاد على علاقة الاختلاف والتجاور، لا على علاقة الاحتواء والإدماج والنسخ ـ كما يرى فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) ـ، ولا على علاقة التصادم والتنافر والصراع ـ كما يرى صامويل هانتنغتون في كتابه (صِدام الحضارات) ـ[22] .
وقد تبنّاها كثير من الإسلاميين، ودعا لها الرئيس الإيراني الأسبق السيّد محمد خاتمي في خطابه الذي ألقاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أغسطس 1998م، وأصدر في سياقه الشيخ محمد الري شهري كتابه: (الحوار بين الحضارات في الكتاب والسنة) في 2000م، والذي يقول فيه: "إنّ الهدف من حوار الحضارات هو التوصل إلى فكر أفضل من أجل إيجاد حياة أفضل"[23] .
ثم وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 53 لسنة 1998م عليه باختيار سنة 2001م، سنة للأمم المتحدة للحوار بين الحضارات.
17ـ تعارف الحضارات:
وذهب الأستاذ الشيخ زكي الميلاد إلى إيكال سبب تقدم وتطور المجتمعات والحضارات إلى (التعارف)، وفضّل تسمية هذا الفعل الاجتماعي المحرّك بـ (نظرية التعارف) أو (تعارف الحضارات)؛ ليعطيها دلالة إيجابية؛ تأسيساً على أنّ (تعارف الحضارات) هو المفهوم المؤسس لمفاهيم (الحوار والوحدة والتعاون)، والذي يحدّد لها شكلها ودرجتها وصورتها، ويحافظ على فاعليتها، وإزالة مسببّات النزاع والصدام[24] ، وفوق ذلك لتتسم العلاقة بين المجتمعات والدول والحضارات بالتعارف، فتتعرف على غيرها وعلى الآخر، ولا تقتصر بمعرفة الذات والتقوقع على الأنا الجمعية، ولكي تتسم بالسلم الاجتماعي والمشاركة بين جميع الأطراف، مبتعدة عن الصدام والنزاع.
وقد اشتقّ الأستاذ الشيخ الميلاد اسم هذه النظرية من قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[25] .
ورأى أنّ مفهوم التعارف أملته خمس مسائل، مقتبسة من الآية الشريفة، وهي:
أولاً: أنّ الخطاب في الآية الكريمة موجّه إلى الناس جميعاً، وليس لخصوص المؤمنين أو المسلمين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾.
ثانياً: أنّ الخطاب في الآية يذكّر بوحدة الأصل الإنساني المشترك بين جميع أفراد البشرية: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾.
ثالثاً: أنّ الخطاب في الآية يقرّ بالتنوع الإنساني كحقيقة اجتماعية وقانون تاريخي: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾.
رابعاً: أنّ خطاب في الآية موجّه إلى الناس كافة بزاوية (التعارف) تحديداً، لا بزاوية (التحاور) أو (التوحّد والاندماج) أو (التعاون)؛ على اعتبار أنّ (التعارف) أشمل وأعمق، وحاوٍ لجميع تلك المفاهيم الأخرى، ومن شأنه إزالة كلّ مسببات النزاع والتصادم: ﴿لِتَعَارَفُوا﴾.
خامساً: أنّ الانطلاق من قاعدة (التفاضل والمقارنة) أو (تخيير الكلمة في القرآن الكريم)، والتساؤل: لماذا لم تستخدم الآية الكريمة كلمة (ليتحاوروا)، أو (ليتوحدوا) أو (ليتعاونوا)، وفضّلت كلمة ﴿لِتَعَارَفُوا﴾؟، يفيدنا أنّه عائد لكون (التعارف) هو المفهوم المؤسس لمفاهيم (الحوار/ والوحدة/ والتعاون) [26] .
- ملاحظات:
1ـ لعلّ أهمّ نقد يمكن توجيهه لهذه الاتجاهات والنظريات هو: اعتمادها على بُعد واحد في تفسير حركة التاريخ والمجتمع، تعتقد أنَّه ـ وحده ـ السبب المتربّع على العرش، والمتصرِّف في الأمور، والمحرّك لدفة الأشياء.
وبعبارة أخرى، فالاعتراض قائم على عزل عامل واحد من العوامل، وعدّه (المصدر الأوحد) للظاهرة الاجتماعية، وتفسيرها به، وإن كنّا لا نعترض على كونه (أحد المصادر) لها، فالمركب الاجتماعي كالمركب الكيميائي يختزن في أحشائه عناصر عدة، لو فُصل أحدها لفقد المركب خاصيته تلك.
2ـ ليس من السهولة تحديد النظرية الإسلامية في تفسير حركة التاريخ والمجتمع، وكثير من هذه النظريات له نصيب من الصحة بوصفه أحد الأسباب المؤثرة، ولعلّ أقرب نظرية هي: القيم الأخلاقية المؤلفة والمحرّكة لعناصر الحضارة الثلاثة: الإنسان، والتراب، والوقت؛ لأنّ كلمة (القيم) اسم جامع لكلّ القيم المؤثرة كالتنافس والحوار والتعارف.