سلسلة نحو ثقافة قرآنية (11)

أدب التخاطب مع الله:النبي عيسى نموذجاً

لن نتناول الموضوع على مدى مساحة القرآن الكريم كاملة، بل سنسعى لتناوله من خلال مقطع واحد ذي ثلاث آيات.

يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (1).

  • المشهد الأول: الصيغة التعبيرية للحواريين:

كيف عبّر الحواريون عن طلبهم المائدة؟
ما صيغة خطابهم للنبي عيسى ؟
كيف عبّروا عن الله؟
ما هي أهدافهم من إنزال الله للمائدة؟

إنّ تعبير الحواريين ـ وهم حواريو نبي عظيم من أولي العزم ـ يتسم بالملامح التالية:

1ـ الخلو من التكريم وحفظ المقام:

يٌفترض في حواريين خُلّص يعيشون في ظلال نبي عظيم، ويعرفون قدره ومكانته أن ينادوه بما يحفظ له تلك المكانة السامية أو بعضها، فتلهج ألسنتهم بمثل: (يا نبيّ الله)، أو (يا رسول الله)، أو (يا نبيّنا)، أو (يا رسولنا)، أو (يا أيّها النبيّ)، أو (يا أيّها الرسول)، أو (يا روح الله)!!

لكنّ الحواريين ـ وهم حواريون ـ خاطبوا نبيهم الكريم خطاباً فاتراً خالياً من التعظيم والتكريم وحفظ مقام النبوة والرسالة والولادة المعجزة له، وفضّلوا أن ينادوه: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ!!

2ـ الإيحاء التشكيكي بقدرة الله:

إنّ ظاهر جملة ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء أنّها جملة تشكيكية، لا تبيّن اليقين الغامر بقدرة الله على كلّ شيء، فتصديرها بحرف الاستفهام ﴿هَلْ الذي يُسأل به عن "التصديق الإيجابي، دون التصور، ودون التصديق السلبي"(2).. مشكلة، واقترانه بالفعل ﴿يَسْتَطِيعُ.. مشكلة ثانية، فكأنّ السؤال عن أصل قدرة الله على ذلك؛ "فإنّ السؤال المذكور في أولها ـ بظاهره ـ خالٍ من رعاية الأدب الواجب حفظه في جنب الله سبحانه، وقد انتهى الكلام إلى وعيد منه تعالى لمن يكفر بهذه الآية، وعيداً لا يوجد له نظير في شيء من الآيات التي اختصّ بها سبحانه أنبياءه!!....، فهل كان ذلك لكون الحواريين ـ وهم السائلون ـ أساؤوا الأدب في سؤالهم؛ لأنّ لفظهم لفظ مَن يشكّ في قدرة الله سبحانه؟!!"(3).

وقد "شعر المسيح بالقلق من طلب الحواريين هذا.. الذي يدلّ على الشكّ والتردد، على الرغم من كلّ تلك الأدلة والآيات، فخاطبهم و﴿قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"(4).

3ـ الإيحاء التشكيكي بكون الله ربّهم:

فهم يقولون لنبيّهم المسيح : ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ، وكأنّ الله (ربّ للمسيح) دونهم؛ مفضّلين باستعمالهم كلمة ﴿رَبُّكَ انزياح الكلمة عن كلمات تعبيرية أكثر أدباً تدخلهم في سياج المربوبين لله مثل: (ربّنا) أو (إلهنا)، أو محايدة مثل: (الله)!!

وهي عادة دأب عليها بنو إسرائيل في لجاجهم مع النبي موسى :

ـ ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا (5).
ـ ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (6).
ـ ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (7).
ـ ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (8).
ـ ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (9).

4ـ التطلع للأهداف المحدودة المباشرة من المائدة:

لقد حوت عبارة الحواريين أربعة أهداف مرتجاة من إنزال المائدة، هي بالترتيب:
أـ الأكل منها: ﴿نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا.
ب ـ اطمئنان القلب وبلوغ اليقين والتسليم: ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا.
ج ـ العلم بصدق نبوة عيسى ، وما بلّغ به عن ربّه: ﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا.
د ـ الشهادة على المعجزة: ﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ.

5ـ الإيحاء التشكيكي بصدق نبوة عيسى :

لقد كان من بين أهداف الحواريين من نزول المائدة: ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا.
فهل لا زالت قلوبهم عطشى إلى الاطمئنان؟!
وهل لا زال يختلج في لواعج قلوبهم ظمأ لمعرفة مدى صدق عيسى في نبوته؟!
أوليسوا مؤمنين به، بل المصطَفين الخلّص من المؤمنين؟!

6ـ الرغبة في الإعلان والمشاهرة:

فالحواريون يرغبون أن يكونوا الشهود على المعجزة، ودليل العيان على الحدث الباهر: ﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ!!

تلك كانت صيغة طلب الحواريين..

ولا يفوتنا أن نبيّن أنّ إصرارنا الملحّ على كلمة (الإيحاء) جاء للحكم على التعبير وظلاله، وليس على قلوبهم، أو التشكيك في كونهم  (حواريين) مؤمنين خُلّص مصطَفين، ولا جهلاً بتخريجات المفسّرين لسؤال الحواريين: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء بأنّ (الاستطاعة) ـ هنا ـ بمعنى (الحكمة والمصلحة)، وليس (شكاً في أصل القدرة)، أي (هل يرى ربّك من الحكمة والمصلحة ﴿أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء؟)، أو أنّها بمعنى (الإطاعة والإجابة)، أي (هل يطيعك ربّك ويجيب سؤالك إذا سألته؟)، أو أنّ السؤال عن الفعل دون القدرة عليه، أي (هل يفعل يفعل ذلك ربّك؟)، أو أنّه تعبير عن رغبة الحواريين أن يرتقي إيمانهم إلى (عين اليقين) بعد أن حصلوا على (علم اليقين)(10). وجاء إصرارنا لنقول: إنّ تعبيرهم يشي بذلك على نحو الإشارة فقط (إيحاء)، وليس على نحو الدلالة المطابقية.

  • المشهد الثاني: الصيغة التعبيرية للنبي عيسى :

لكنّ النبي عيسى المسيح حين وجّه الطلب إلى الله أعاد صياغته بصورة باهرة، نلمح فيها البون الشاسع بين تعبير الخواصّ والخُلّص (الحواريين)، وتعبير النبي المعصوم، بما جعل التعبير الثاني ينضح بالأدب النبوي الجمّ في التخاطب مع الله.
ونستطيع في هذه الصياغة النبوية الندية أن نقف عند الملامح التالية للأدب النبوي مع الله:

1- تقديم الثناء على الله:

فقد اختار النبي عيسى في صياغته الفذة لخطابه اللفظين الجامعين، فاستلّ الاسم العلم لله، الجامع لكلّ صفاته (الألوهية) الحقّة وهو ﴿اللَّهُمَّ، وأعقبه بالاسم الجامع لكلّ صفات (الربوبية) والرعاية منه - سبحانه - لخلقه وشؤونهم ﴿رَبَّنَا.

2ـ حذف أداة النداء:

وهو أسلوب بلاغي يحكي قرب المخاطب من المتكلم بما لا يحتاج لتدبيج أيّ أداة نداء، فلم يقل: يا إلهنا، يا ربّنا، بل قال: ﴿اللَّهُمَّ رَبَّنَا، وتلك عادة كثيراً ما يذكرها القرآن في الدعاء الشفاف الموجّه إلى الله سبحانه، وحين يعلّم الداعين كيفية التضرّع والابتهال إلى الله:
ـ ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (11).
ـ ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (12).
ـ ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (13).
ـ ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلا تَبَارًا (14).
ـ ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (15).
ـ ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (16).

3- نسبة الذات البشرية إلى الله:

النبي عيسى بن مريم يستشعر في عمق ذاته ووجدانه العناية الربانية، وأنّه عبد في ظلال تلك الربوبية الدافقة بكلّ خير، فأصرّ على نسبة الذات البشرية إلى الله، فلم يقل: ربُّ، بل.. ﴿رَبَّنَا، فأضاف (ناء المتكلمين) إلى كلمة (ربّ)؛ وذاك يفيد الخصوصية والنسبة والانتماء، ففرق بين (أبٍ، ابن ٍ، أخ ٍ، عمٍّ)، و(أبي، ابني، أخي، عمّي).

4- من الخطاب المشكك إلى دعاء الموقن:

في إعادة صياغة الخطاب توارت عبارة التشكيك ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ!!؛ ليحلّ محلّها أسلوب الدعاء، بما يحكيه من صدور من دانٍ إلى عالٍ، من محتاج إلى غني، من عاجز إلى قدير، وجاء الدعاء على طريقة الدعاء الواثق المتيقِن بقدرة الله: ﴿رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء.

5- تغيير الأهداف، وعددها، وترتيبها:

رتّب الحواريون أهدافهم الأربعة من إنزال المائدة؛ ليكون (الأكل منها) هو الهدف الأول، يليه الاطمئنان والتسليم، والتصديق بنبوة النبي عيسى ، والرغبة في الشهادة والإعلان والمشاهرة.

وحين وجّه النبي عيسى طلبهم إلى الله سبحانه، غيّر الأهداف، وعددها، وترتيبها، فقال: ﴿تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ!!

لقد تغيّرت الأهداف، لتصبح:

أـ وجود عيد خاصّ لأمة عيسى : الأول منهم والآخر، الحاضر منهم والغائب، يمتدّ في الزمن، ويتكرّر مع الأجيال، يحكي الفرحة والبهجة بالفعل الإلهي، ويدوّن المعجزة العظيمة.
ب ـ شهود الآية الربانية والمعجزة الإلهية.
ج ـ نيل الرزق من الله.

وتقلّص عدد الأهداف من أربعة إلى ثلاثة: إما بدمج بعضها، أو بإسقاط بعضها أصلاً، ووضع هدف بديل هو الصحيح.
فجملة ﴿وَآيَةً مِّنكَ إما أنّها تختزن في داخلها  بلوغ (التسليم واليقين) و(التصديق بنبوة عيسى) معاً؛ لأنّها تقود إليهما.
وإما أنّها تعبّر عن غرض نيل آية ربانية، بغضّ النظر عن غرضي (التسليم واليقين) و(التصديق بنبوة عيسى)، اللذين هفت إليهما قلوب الحواريين.

وتغيّر ترتيب الأهداف، فـ (الأكل منها) كان أول الأهداف في ترتيب الحواريين!!، وتدحرج ليصبح الأخير في دعوة النبي عيسى : ﴿وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
يقول السيّد الطباطبائي عن طلب الحواريين (الأكل من المائدة): "وقد كان الحواريون ذكروه مطلوباً بالذات؛ حيث قالوا: ﴿نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا، فذكروه مطلوباً لذاته، وقدّموه على غيره، لكنّه ـ عليه السلام ـ عدّه غير مطلوب بالذات، وأخّره عن الجميع، وأبدل لفظ (الأكل) من لفظ (الرزق)، فأردفه بقوله: ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ"(17).

6- الكناية:

لم يأتِ النبي عيسى بغرض الأكل صراحة، ولم يسمّ غرضه بـ (الأكل) ـ كما فعل الحواريون ـ الذين قالوا: ﴿نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا، وإنّما عبّر عنه بالكناية والتلميح، فسمّاه (الرزق) وطلب الرزق من الله: ﴿وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وإن كان هذا الرزق (المائدة) سيأكلون منه حتماً، من باب المآل والمنتهى.

7- الثناء على الله وحمده ختاماً:

فكما بدأ السيّد المسيح دعاءه بالتمجيد لله ـ سبحانه وتعالى ـ وقال: ﴿اللَّهُمَّ رَبَّنَا، ختمه بما يليق به سبحانه، فقال: ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ؛ لتكون جملة الطلب متوسطة مسوّرة بالثناء على الله، ويكون الثناء بدءاً وانتهاء.

  • وقفات:

1ـ أدب التخاطب مع الله:

لا شكّ أنّ باب الله مفتوح لداعيه، وحجابه مرفوع لراجيه(18)، ويمكن لأيّ أحد أن يدعوه بما يشاء، متى يشاء، كيف يشاء، مقدّماً طلبه ودعاءه بالطريقة التي يرتئيها، ولكنّ ساحة القدس الإلهي ساحة عظيمة ينبغي لمن يريد ولوجها أن يتحلى بأدب اللقاء، وأدب السؤال، وأدب الدعاء.

وينُسب للإمام الصادق أنّه قال: "احفظ آداب الدعاء، وانظر مَن تدعو، وكيف تدعو، ولماذا تدعو؟، وحقّق عظمة الله وكبرياءه، وعاين بقلبك علمه بما في ضميرك، واطّلاعه على سرّك، وما يكن فيه من الحقّ والباطل، واعرف طرق نجاتك وهلاكك، كيلا تدعو الله بشيء منه هلاكك، وأنت تظنّ فيه نجاتك، قال الله ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا"(19).

2ـ الدعاء المأثور، والمغيّر، والمخترَع:

الأدعية التي تلهج بها ألسنتنا واحدة من ثلاثة: 
أـ الدعاء المأثور.
ب ـ الدعاء المغيِّر لشيء من المأثور.
ج ـ الدعاء المخترَع.
والمعصومون طلبوا منّا الالتزام بالأدعية المأثورة، كما أُثرت، وكما وردت في لسان القرآن الكريم والسنة النبوية والروايات الشريفة، وعدم التغيير فيها، فضلاً عن اختراع أدعية من عنديّات أنفسنا!!

ففي الرواية عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله [الصادق] : "ستصيبكم شبهة؛ فتبقون بلا علَم يُرى، ولا إمام هدى، ولا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق، قلتُ: كيف دعاء الغريق؟، قال: يقول: (يا الله، يا رحمن يا رحيم، يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك). فقلتُ: (يا الله، يا رحمن يا رحيم، يا مقلّب القلوب والأبصار، ثبّت قلبي على دينك). قال: إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ مقلّب القلوب والأبصار، ولكن قل كما أقول لك: (يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك)" (20).

فالدعاء الذي أغدقه الإمام الصادق ـ هنا ـ على عبد الله بن سنان، فيه: (يا مقلّب القلوب)، غير أنّ ابن سنان أضاف لها: (والأبصار)، لكنّ الإمام طلب منه الالتزام بالمأثور كما ورد، وعدم التغيير فيه: (قل كما أقول لك)!!

وفي الرواية عن زياد القندي، عن عبد الرحيم القصير قال: دخلتُ على أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ، فقلتُ: جعلتُ فداك، إنّي اخترعتُ دعاء!!، قال: دعني من اختراعك، إذا نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، وصلّ ركعتين تهديهما إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ"(21).
وفي هذه الرواية نشهد عبد الرحيم القصير قد (اخترع) دعاء من عنده، و(ألّف) دعاء من نسجه، لكنّ الإمام وقف في وجه هذا (الاختراع) و(التأليف)!!، بحيث أنّه لم يسمعه منه أساساً، وعوضاً عن ذلك علّمه الطريقة السنية الصادرة من أهل بيت العصمة والطهارة.

3ـ صوابية الدعاء ودقته ومصلحته:

ولعلّ واحداً من أسباب طلب المعصومين منّا أن نلتزم في الدعاء بما ورد وأُثر في القرآن الكريم، أو الحديث أو الروايات: أنّنا قد ندعو بأدعية خاطئة، ونظنّ دعاءنا صواباً، أو ندعو بدعاء صحيح، ولكنّه ليس دقيقاً، أو ندعو بدعاء ليس في مصلحتنا تحققه!!
 
وقد ورد فيما سبق من رواية منُسوبة للإمام الصادق : "واعرف طرق نجاتك وهلاكك، كيلا تدعو الله بشيء منه هلاكك، وأنت تظنّ فيه نجاتك، قال الله ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا"(22).

ويقول الشيخ الطبرسي في تعليقه على هذه الآية المباركة: "قيل في معناه أقوال:

أحدها: إنّ الإنسان ربّما يدعو في حال الزجر والغضب على نفسه، وأهله، وماله، بما لا يحبّ أن يُستجاب له فيه، كما يدعو لنفسه بالخير. فلو أجاب الله دعاءه لأهلكه، لكنّه لا يجيب بفضله ورحمته، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة.

والآخر: إنّ معناه: أنّ الإنسان قد يطلب الشرّ؛ لاستعجاله المنفعة.

وثالثها: إنّ معناه: ويدعو في طلب المحظور، كدعائه في طلب المباح"(23).

ومِن بين المؤمنين والمتقين مَن يلهج بالدعاء ليل نهار: (اللهمّ أدخلني جنّة عدن) أو (اللهمّ أدخلني جنّة الخلود)، وهو يعتقد أنّها أسمى جنان الله وأعلاها وأرفعها، ولا يعرف أنّ أسمى الجنان للناس إنّما هو (الفردوس)؛ ولذلك قال رسول الله : "إذا سألتم الله فسلوه (الفردوس)؛ فإنّه أوسط الجنّة وأعلى الجنّة"(24)، وقال أمير المؤمنين : "لكلّ شيء ذروة، وذروة الجنّة الفردوس"(25)، وقال المفسّرون: إنّه "أفضل مناطق الجنّة"(26).

ومثل هؤلاء المؤمنين والمتقين لو أجاب الله دعاءهم المتكئ على خطأ معرفي لظنوا أنّهم مغبونون، وأنّ ما أفنوا أعمارهم في طلبه، واشرأبت أعناقهم ومهجهم إليه؛ لم يعطوه!!
فضلاً عن كثير من الناس ـ ولاسيما النساء ـ الذين يدعون على أنفسهم وأولادهم وبيوتهم بالويل والثبور، وعظائم الأمور، وقصف الطائرات، ودهس السيارات، ولظى الحرائق، ونزول النائبات!!

لكنّ الله أحكم الحكماء، وهو أعلم بالضمائر والسرائر وخفيات المقاصد، الأمر الذي يمكن تلافيه في الأخذ بزمام قياد الدعاء المأثور

 الوارد من الله ومن خلقه الذين أكمل الله عقولهم، وعصمهم عن الخطأ والزلل.

 


 

(1) سورة المائدة، الآية 112- 114.
(2) جمال الدين ابن هشام، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب 1/ 456، تحقيق وتعليق: الدكتور مازن المبارك، ومحمد علي حمد الله.
ويقول محمد الأنطاكي:
(التصديق) هو: السؤال عن (الحدث).
و(التصور) هو: السؤال عن (الشيء): ذاتاً، أو زماناً، أو مكاناً.
فأما (هل) فهي للتصديق الإيجابي وحده، نحو: (هل جاء زيد؟)، ، وأما (الهمزة) فهي للتصديق الإيجابي والسلبي، وللتصور أيضاً، وأما سائر أدوات الاستفهام فهي للتصور فقط، مثل: (مَن جاء؟)، و(متى سافرت؟)، و(أين سافرت؟) [محمد الأنطاكي، المحيط في أصوات العربية ونحوها وصرفها 3/ 245، الحاشية (1)].
(3) السيّد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 6/ 225.
(4) الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 4/ 177.
(5) سورة البقرة، الآية 61.
(6) سورة البقرة، الآية 68.
(7) سورة البقرة، الآية 69.
(8) سورة البقرة، الآية 70.
(9) سورة المائدة، الآية 24.
(10) الميزان في تفسير القرآن 6/ 230ـ 231.
(11) سورة البقرة، الآية 201.
(12) سورة آل عمران، الآية 8.
(13) سورة الفرقان، الآية 74.
(14) سورة نوح، الآية 28.
(15) سورة إبراهيم، الآية 40.
(16) سورة الأعراف، الآية 151.
(17) الميزان في تفسير القرآن 6/ 236.
(18) يقول الإمام السجاد : "يا مَن بابه مفتوح لداعيه، وحجابه مرفوع لراجيه" [الصحيفة السجادية/ 407، مناجاة الراجين].
(19) العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار 90/ 322، ح 36.
(20) الشيخ محمد بن الحسين بن بابويه القمي (الصدوق)، كمال الدين وتمام النعمة/ 351، الباب 33 (ما أخبر به الصادق ـ عليه السلام ـ من وقوع الغيبة)، ح 49.
(21) الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 3/ 476، باب صلاة الحوائج، ح 1.
(22) بحار الأنوار 90/ 322، ح 36.
(23) الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 6/ 226.
(24) الشيخ محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، م3، ج 9، باب (وكان عرشه على الماء)، ص 153.
(25) السيّد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن 6/ 305، ح 6814.
(26) الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 9/ 343.