أخلاقيات الحوار في القرآن الكريم
نحو ثقافة قرآنية (8)
بخلاف منهج التعتيم والحجر على العقول والأفكار، وتكميم الأفواه والأقلام؛ شرع الله - سبحانه وتعالى – الباب واسعاً للحوار والجدال الموضوعي( )، وتداول الرأي وعرْضِ الدليل؛ في سبيل الوصول إلى العلم والحقّ والصواب.
ولكن.. كيف تؤتي شجرة الحوار ثمارها اليانعة؟!
لكي تؤتي شجرة الحوار ثمارها اليانعة تحتاج إلى تضافر عوامل عدة، منها:
1ـ التحلي بأخلاقيات الحوار.
2ـ استعمال المنهج المقنع.
3ـ تجنب المناقشة غير الموضوعية.
وسنتحدث في هذه الحلقة عن (أخلاقيات الحوار)، ونذر (منهج الحوار) و(المناقشة غير الموضوعية) إلى حلقات أخرى.
أخلاقيات الحوار:
لكي تنجح عملية الحوار والجدال سعت كثير من الآيات القرآنية إلى تتويج وتأطير وتسوير وتحديد وضبط هذه العملية بمجموعة من الأخلاقيات والمناقبيات والمُثل والآداب، منها:
1ـ الحرية والانفتاح (الاستماع للرأي الآخر):
يشعر كثير من الناس عندما يعتزمون خوض نقاش أنّهم داخلون إلى (حلبة مصارعة)، و(معترك حرب طاحنة)، و(معركة كسر عظم)، و(قضية حياة أو موت)، و(مسألة وجود أو عدم)!!، ومن ثمّ لا يتركون مجالاً للرأي المقابل أن يتنفس الهواء، ولا يعطون للخصم أي منفذ للرد وعرض آرائه وأدلته، بل.. ولا حتى أسئلته.
إنّ هذا المنهج العقيم لا يتبدى في حواراتنا العقدية فحسب، بل.. يمتد لكلّ صنوف الجدال عندنا: السياسية منها والثقافية والأسرية والاجتماعية وغيرها..، ويصلّ حتى لنقاش الشيخ مع مريديه، والمعلم مع طلابه، والأب مع أبنائه، والأخ مع إخوانه الأصغر!!
وذاك ما يجعل حواراتنا ونقاشاتنا عقيمة غير مجدية وغير منتجة وغير مثمرة، وأشبه بـ (حوار الطرشان)، و(الجدال السفسطي)، و(الفكر السجالي)، تجعل الطرف المجادل ـ إن استمع!! ـ فإنّما يستمع لكي يكرّ وينقضّ ويقصف، وتجعل الطرف الآخر - ولو ظلّ صامتاً أو أظهر القبول!! - فهو غير مقتنع بشيء مما طُرح، وصمته الوديع الشفاف لم يكن إلا تزجية للوقت، ونوعاً من حيل الدفاع تمارسها الذات بالهروب للداخل والانطواء والتقوقع والانسحاب؛ للانفلات من مخالب ذاك الغثاء السمج!!
بينما يطلب الله من معتنقي منهجه في المجادلة أن يفتحوا مسامع قلوبهم، ويرهفوا آذانهم لسماع الطرف الآخر والرأي الآخر وأدلته.
إنّ عدم فتح المجال لسماع فكر الطرف المقابل يجعل فكره يترسخ لديه، وإن لم يستطع تطبيقه في العلن فسيطبّقه في السرّ، وإذا حانت الفرصة للتمرّد العلني على الفكر السائد الغالب فلن يأل جهداً في إبداء ذلك والثورة العاصفة عليه، وهذا ما يجعلنا نؤمن بضرورة فتح المجال للرأي المقابل والطرف المقابل ليعرض ما لديه، والإصغاء إليه بكلّ رويّة وسعة بال.
إنّ فتح المجال للرأي الآخر من شأنه معرفة آراء الطرف المقابل وحججه، ومن ثمّ وضع اليد عليها؛ لمعالجة مكمن المشكلة والاختلاف، وذاك أمر لن يُعرف إذا لم يشرع له المجال الأوسع لإبدائه وإبرازه بكلّ حرية وصراحة ووضوح.
إنّ صدورنا ينبغي أن تتسع لنسمع كلام الآخرين عن مبادئهم وأفكارهم ومواقفهم مهما كانت مباينة وصاعقة!!، ولو كانت حول تأييد التدخين، أو تعاطي الخمور والمخدرات، أو الاستماع للغناء، أو (التفحيط بالسيارة)، أو استعمال الهاتف والجوال ووسائل التواصل الاجتماعي والإنترنيت للمعاكسة والمغازلة، أو ترك الحجاب والصلاة والصوم وسائر العبادات، أو الصداقة بين الجنسين، أو إقامة علاقات جنسية خارج إطار الزوجية، بل.. وحتى حول وحدانية الله وأصل وجوده، وتفسير الوحي بالإلهام الداخلي الذاتي، والنبوة بالعبقرية، وأنّ النبي محمداً هو من ألف القرآن، وأنّ القرآن تأليف بدائي باهت، وتشريعاته عروبية مستلة من جفاف الصحراء لتناسب أجلاف الصحراء، وعدّ نظام الإمامة شكلاً من التوارث القبلي العمودي السلطوي الاستبدادي، أو غير ذلك..؛ فالحوار الحرّ المنفتح لا يقوم على وجود أسوار وخطوط حمر ومناطق محظورة وممنوعة و(تابو).
إنّ أهمّ مبدأ في دين الإسلام هو عقيدة التوحيد، توحيد الله، ومع ذلك قبِل القرآن الكريم مناقشة هذا المبدأ برهانياً، وطلب من الآخرين الإتيان ببرهان على خلافه إن كان ثمة لديهم ذلك!!
يقول الله تعالى:
- ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾( ).
- ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾( ).
- ﴿قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً﴾( ).
2ـ التركيز على الثوابت والمشتركات:
بين البشر ثوابت ومتغيّرات.
وبينهم مشترَكات ومفترَقات.
والبعض ينطلق في جداله من مناطق الاختلاف والتغيّر والتوتر والنزاع (المتغيّرات)، ويركز على التباينات والاختلافات (المفترَقات)، فلا يستطيع أن ينجح في إدخال الطرف المقابل في عملية حوارية، وإذا ما تمّ الدخول فيها، فليست إلا برهة يسيرة من الزمن حتى تتعالى الأصوات، ويقع النزاع!!
لكنّ القرآن الكريم يعلّمنا أنّه في ظلّ الجدال الناجح ينبغي الانطلاق من (الثوابت) الجامعة، والتركيز على (المشترَكات)، وعدم إنكار التقاربات العقدية والمعرفية والسلوكية مع المخالفين.
فالدعوة إلى الله تبتغي الوصول إلى الحقّ والإيصال إليه، وما دمنا في عملية الحوار قد اكتشفنا أنّ بعض ذلك متحقق لدى الطرف المقابل؛ فتلك حقيقة لا يمكن تجاوزها، ولا نكرانها، ولا التعالي عليها، وإنّما ينبغي جعلها أساساً مشتركاً يُبنى عليه الحوار، وأرضية مشتركة يلتقي فيها الطرفان.
إنّ وجود (ثوابت) و(مشترَكات) في عملية الحوار تمثل ركيزة جامعة يمكن الانطلاق منها، والارتكاز عليها، لاسيما حين تكون من الأدلة التي يمكن الاحتكام لها والارتكاز عليها في عملية بناء الأفكار ونقدها.
يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾( ).
يا أهل الكتاب، نحن ـ المسلمين ـ نؤمن بالذي أُنزل إلينا، وهو القرآن المجيد، ونؤمن بما أُنزل إليكم من توراة وإنجيل وصحف، فذاك كلّه يستمد من مشكاة الوحي السماوي!!
ولسنا نقول بأنّ إلهنا غير إلهكم، فإلهنا وإلهكم واحد، هو الله، لا إله إلا هو، ولا إله ولا ربّ سواه!!
يأمر الله المسلمين أن يقولوا لأهل الكتاب من يهود ومسيحيين ومجوس هذا، وهم يعلمون أنّ اليهود يقولون: عزير ابن الله، وأنّ المسيحيين يقولون: بالتثليث والأقانيم الثلاثة: (الأب، والابن، وروح القدس)، وأنّ السيّد المسيح ابن الله، أو الله المتجسّد: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ﴾( )، و﴿إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾( ).
وفي آية أخرى يفتح الله المدى لأوسع من دائرة أهل الكتاب؛ ليشمل (الصابئة)، ويرسخ دور الثوابت والمشتركات وأثرها، فيقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾( ).
والقرآن ـ هنا ـ يطلب من المسلمين أن يضعوا تعريفاً للمؤمن يرى أنّه: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾، وأن يقولوا هذا لليهود والنصارى والصابئة، مع أنّهم يعلمون أنّهم يختلفون في بعض العقائد مع اليهود والنصارى، ويعلمون أنّ الصابئة يقدسون النجوم!!
فما أبعد البون بين أخلاق القرآن هذه وبين الروح الغريب السائد بين بعض المسلمين اليوم، والذي يدفع أناساً من كلّ فئة منهم ليقولوا عن الفئة الأخرى: إنّ ربّهم ليس ربّنا، ونبيّهم ليس نبيّنا، وقرآنهم ليس قرآننا، وجنتهم ليست جنّتنا، وإذا كان مصيرهم إلى الجنة فسنختار النار؛ لأنّا لا نريد الجنة التي سيدخلونها!!
اليهود والنصارى والمجوس والصابئة يمثّلون للمسلمين أمثلة ونماذج من الآخر المختلف الخارجي، فهو ينتمي إلى دائرة خارج دينهم تماماً، بينما يمثّل المسلمون (سنة وشيعة) بين أنفسهم طرفين للآخر المختلف الداخلي، فهو اختلاف مذهبي ينطوي تحت دوحة دين واحد، ونبي واحد، وقرآن واحد، لكنّ الله يأمر المسلمين أن يتحدثوا مع المختلف الخارجي بأدب جمّ لم يستطع كثير منهم أن يجسّده حتى في اختلافاتهم البينية الداخلية!!؛ مما يقنعنا كثيراً باختلاف (الدين) عن (الفهم الديني)، وتغاير (فكر الإسلام) عن (فكر المسلمين)، وافتراق (ثقافة الإسلام) عن (ثقافة المسلمين).
3ـ الحوار بالتي هي أحسن:
وبعد (الثوابت) و(المشتركات) تبقى أمور تُصنّف في دائرة (المتغيّرات) و(المفترقات)، وينبغي حلّها بالحوار والمجادلة.
بهذه الطريقة نكون قد قللنا مساحة الاختلاف، وضيقنا دائرته، فما عدنا بحاجة لمناقشة كلّ شيء، بل تسليط الضوء على المتغيّرات والمفترقات فقط، ولن نعالجها بالانزواء والانغلاق، ولا بالاقتتال وسيل الدماء، بل بالحوار والمجادلة.
فأيّ حوار نريد؟
وما طبيعة المجادلة التي ترنو عيون قلوبنا وعقولنا إليها؟
حين يسبر المحاور بسفينته محيط الحوار الخِضمّ الموار المتلاطم يجد نفسه في كلّ حين أمام أربع جهات وخيارات مختلفة، عليه أن ينهج إحداها فحسب!!، وهي:
أ- الجدال بالتي هي أسوأ.
ب - الجدال بالسيء.
ج - الجدال بالحسن.
د - الجدال بالتي هي أحسن.
وأمام هذه الخيارات الأربعة المختلفة والمتدرّجة في مستواها المناقبي الأخلاقي يأمر الله تعالى سفينة الحوار ـ دوماً ـ بسلوك طريق واحد لا غير، هو: الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، ويقول: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾( ).
ومعنى ذلك أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر بسلوكِ أسماها وأعلاها وأنبلها، ورسم ضابطة عامة للحوار والجدال المرضي عنده هي (الجدال بالتي هي أحسن).
وفي آية أخرى أكّد الله ـ سبحانه وتعالى ـ هذا المبدأ السامي النبيل فقال: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾( ).
وهكذا.. فبعد سماع ما لدى الطرف المقابل من رأي وفكر واعتقاد يأتي دور مناقشته بالتي هي أحسن..
ويوضّح القرآن الكريم الأثر الاجتماعي الفعّال لانتهاج سبيل (التي هي أحسن)، وقدرته على تحويل العدوّ اللدود إلى صديق حميم: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾( ).
4ـ الركون إلى الحجة والدليل والبرهان:
ومن المجادلة بالتي هي أحسن الركون إلى ظلال شجرة الحجة والدليل والبرهان والركون إلى (قوة المنطق) لا (منطق القوة)، فـ (الحجة تقرع بالحجة) و(الدليل يقرع بالدليل) و(البرهان ينازل بالبرهان).
يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾( ).
وفي كثير من حوارات القرآن الكريم طالب القرآن المختلفين بالبرهان لإثبات الفكرة، ولم يستخدم لغة التعالي والتسفيه والقمع تجاههم:
ـ ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾( ).
ـ ﴿أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾( ).
ـ ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾( ).
وطلب الله من نبيّه الأكرم محمد إعلام الآخر المختلف باستعداده التام الصادق وعزمه الفعلي الراسخ على اعتناق الحقّ أين كان، واتباع رأي المختلف إن كان صحيحاً، وعدم التعالي عليه، فمن لوحة حوار النبي محمد مع اليهود تسجل عدسة القرآن الكريم المشهد التالي: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾( ).
5- إنصاف الخصم (مبدأ النصفة):
البعض حين يخوض الحوار والنقاش يؤمن مسبقاً بضرورة الصلابة والقوة وعدم الانكسار أمام الطرف الآخر؛ لأنّ ذاك يمثّل (هزيمة) ساحقة ماحقة مذلة له، و(انتصاراً) جبّاراً متغطرساً للآخر، قد يدوّنه التاريخ، وتسير به الركبان، ويعلّمه الكبار للصغار!!
وهذه الصلابة قد تعني - لدى البعض - عدم التسليم للطرف المقابل وأدلته مهما تكن إيجابية وصحيحة ومنطقية ومتينة ومؤصّلة، على طريقة (إنّها نعجة ولو طارت!!)، أو لا أقلّ عدم التصريح بأنّها مقنعة، والتخلص من ذلك إما بإغلاق الجدال، أو القيام بعمل موارب مموِّه كتبديل الموضوع، أو الانسلال منه بصمت، فهي في فكره الاستراتيجي حرب ضروس يتمّ اقتحامها بعنف، ويلزم الانسحاب منها بشكل تكتيكي وهادئ ومدروس!!
بينما يطلب القرآن منّا إنصاف الخصم (مبدأ النصفة)، هذا المبدأ النبيل الذي يرتكز على منطلق، ومنهج، وهدف، ونتيجة:
أـ منطلق مبدأ النصفة:
منطلق مبدأ النصفة (الإنصاف) يقضي بخوض الحوار دون مسبقات حكمية معيارية لصالح الذات وضد الخصم، والتحلّي بالشجاعة الأخلاقية الكافية في إمكانية التشكيك في فكر الذات وفكر الغير على حدّ سواء، والاستعداد للتنازل عن الخطأ وقبول الصواب، وفتح الباب مشرعة للوصول للأفضل والأحسن: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾( ).
"فلم يُعطِ النبي في أسلوبه هذا لنفسه صفة الهدى، ولم يدمغ خصمه بصفة الضلال، مع إيمانه العميق بأنّ القضية في واقعها الأصيل لا تبتعد عن ذلك؛ ليترك المجال للقضية أن تتحرّك في حرية؛ لتصل إلى النتيجة الحاسمة من موقع الحرية الفكرية المنطلقة مع الحوار في الخطّ الصحيح"( ).
ومن هذا أمر الله لنبيّه محمد أن يقول لنصارى نجران: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾( ).
فهو لا يقول: (ثمّ نجعل لعنة الله عليكم)، ولو قال ذلك لما قبلوه منه، وإنّما قال: ﴿فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾، وهي جملة مفتوحة ترضي الطرفين أخلاقياً؛ فاللعن على الكاذب، سواء أكان منّا أم كان منكم.
ويقول الإمام الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.. » ( ).
وإذا كان هذا وحياً إلهياً، ومارسه النبي المعصوم، فما الذي يعيقنا نحن، ولسنا ممن تتنزل عليه الآيات والوحي، ولا نملك لأنفسنا عصمة من الخطأ؟!
وهذا يعني أنّ الذات حتى لو كانت في أتمّ درجات اليقين بفكرها من ناحية المضمون والمحتوى، عليها من الناحية الأسلوبية أن تقف على الحياد، وتتحدث مع المختلف بأسلوب الحياد.
فالطرف الآخر إذا علم أنّنا في عملية الحوار نقطع سلفاً بصوابنا وخطئه، وعدم قابليتنا حتى للتشكيك في قناعات الذات؛ فسيؤمن أن لا جدوى لدخول الحوار معنا؛ لأنّه يجد أنّنا نعتقد بصرامة بأنّ كلّ ما لدينا صواب لا يمكن التنازل عنه، وكلّ ما لديه باطل لا يمكن قبوله؛ فما فائدة الحوار إذاً؟!، وهل يُرتجى من هكذا عملية غير إضاعة الوقت والجهد، والتشبّع بالضغط النفسي، والتشنّج الفكري، وإثارة نقاط التوتر، وإيقاظ الجروح الغافية؟!
ب ـ منهج مبدأ النصفة:
ومنهج مبدأ النصفة وطريقة المعالجة فيه تبتني على إعطاء القيمة والمنزلة والمعيار للبرهان والحجة والدليل، فالبرهان هو الذي يثبت صحة فكرة وخطأ أخرى، وينبغي الاحتكام إليه حتى لا تُحكى الأفكار هذراً، وتُرسل إرسال المسلّمات: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾( )، ﴿أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾( ).
فالبرهان في الحوار والمعرفة هو بمثابة (التجربة) التي ترتكن إليها العلوم التجريبية في التسليم بشيء أو رفضه.
ج ـ هدف مبدأ النصفة:
والهدف في مبدأ النصفة يقضي بالتسليم لنتائج الحجة والدليل والبرهان، واتّباع الحقّ والصواب أنّى كان، ومن أيٍّ صدر، والسير في ركابه: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾( )، ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾( ).
إنّ اتباع الحقّ خصلة نبيلة ينبغي الحرص عليها، ولو كلّف الأمر الاعتراف بالخطأ ﴿فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾( ).
ويقول الإمام الصادق : "اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد، وأرني الحقّ حقاً حتى أتبعه، وأرني الباطل باطلاً حتى أجتنبه، ولا تجعلهما عليّ متشابهين، فأتبعَ هواي بغير هدًى منك، واجعل هوايَ تبعاً لرضاك وطاعتك، وخذ لنفسك رضاها من نفسي، واهدني لما اختُلف فيه من الحقّ بإذنك، إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"( ).
وكم هناك من فرق بين البصير الذي يعتنق النور، ويمشي في درب الهداية، وبين الأعمى الذي يتخبط في الظلمات، ويمشي مكبّاً على وجهه:
ـ ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾( ).
ـ ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾( ).
ـ ﴿أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾( ).
ـ ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾( ).
ـ ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾( ).
د ـ نتيجة مبدأ النصفة:
الإنصاف (النصفة) ـ وإن تضمن الاعتراف بالخطأ، والإذعان للحقّ ـ قيمة وفنّ، ويحتاج إلى مهارة وحسن أداء؛ فالإذعان للحقّ خير من المكابرة، وتصحيح المسار خير من السير في متاهات الظلام.
والإنصاف دليل على نضج المتسم به، ورشده الفكري، ونبله وشجاعته، وإعلائه للقيم والحقّ، وصدقه مع ربّه ومع ضميره وذاته والآخرين؛ وذاك يجعله يكبر في عين نفسه، ويصل إلى مرحلة (الرضا عن الذات) و(الصلح مع الذات والقيم والآخرين)، و(سعادة الضمير والروح والقلب)، ثم يكبر في عين الطرف الآخر والناس، ويضفر برضا الغير.
ومن شأن الإنصاف أن يخدم الحقّ والعلم، ويسرع في خطى سيرهما نحو الكمال.
يقول الله تعالى في معرض ذكره لقصة أصحاب الكهف، والحوار الدائر في عددهم: ﴿وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾( ).
ويقول الإمام الحسين : "أيّها الناس، اسمعوا قولي، ولا تعجلوني حتى أعظكم بما لحق لكم عليّ، وحتى أعتذر من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي، وأعطيتموني النصَف؛ كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصَف من أنفسكم ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ﴾ ( )، ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ ( )" ( ).
وعلى الطرف المقابل تماماً تكون نتيجة المكابر على الحقّ، المنفلت من ربقة الإنصاف والإذعان للصواب، الذي يتعالى على الحجج البيّنة، والآيات المبصرة، ويتلفع بالجحود والنكران، على الرغم من يقينه الوجداني الداخلي بصواب ذلك.
يقول الله تعالى في قصة نبيّه موسى ، ورفض فرعون وقومه الحجج والآيات البينات التي جاء بها لهم:
﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾( ).
فالمكابر يكابد الصراع الداخلي في قعر الذات، وانشطار الذات وتشظّيها بين يقين وجحود، يقين داخلي وجحود خارجي، يمزّق الروح، ويصدّع القلب الحيّ والضمير الحيّ، ويلقيهما في أتون نيران الوخز والتأنيب واللوم والعتاب الحارق، قبل أن يتحولا إلى قلب قاس وضمير ميّت بفعل التكرار الذي يجعل أغشية الستر وكثبان الظلام تطمس نور القلب والضمير، وتُخرس صوتهما الصادق!!
وهذا يعني أنّنا إذا أردنا أن نكون منصفين متحلّين بمبدأ النصفة، فلابدّ أن يكون (منطلقنا) نزيهاً يحمل قابلية كوننا على الصواب أو كون غيرنا على الصواب، ومن ثمّ يكون (منهجنا) أن نعرض الأمور بحجة ودليل وبرهان، ويكون (هدفنا) التسليم للحقّ واتّباعه، وبذلك سنصل إلى (نتيجة) تُوشِحنا برضا الله، ورضا الذات، ورضا الآخرين، ونرفل في بحبوحة السعادة وجنة التآلف والتوافق..