القضاء خلاف مقاصده
العدالة ليست حكم الأقوى" قالها أفلاطون في تضاد لعبارة "العدالة ليست سوى منفعة الأقوى" التي جهر بها أحد معاصريه، وهو ما يؤكد عليه تركي الحمد في وصف السلطة الحديثة في بعض الدول النامية بـ"سلطة الجائزة" وهو ما ذهب إليه باغنار من التفريق بين "سلطة السلطة" و "سلطة الإدارة"، واحالة الدولة بجميع أجهزتها إلى غايتها من تحقيق الحياة الكريمة، وحتمية فصل السلطات من أسس إدارة الدولة التي تغدو من دونها خلاف مقاصدها، مع التأكيد على حاجة أي تجمع بشري حديث لسلطة إلزامية تحدد السلوك الاجتماعي المسموح وتقيد السلوك الاجتماعي المخالف.
ويمكن التعويل على السلطة القضائية باعتبارها الرقيب والحكم في الفصل بين السلطة التنفيذية والمجتمع في حال المنازعات المنتظمة من خلال دستور وقانون أقرته السلطة التشريعية ، وذلك في الدول الدستورية المحتكمة للعقد الاجتماعي، وينشأ التزاحم بين السلطة والمجتمع حين تتداخل وتذوب الفوارق بين السلطات، وتحل القوة مقام القانون والتعسف والاستبداد في مواجهة العدل والكرامة، مع ملاحظة ينبغي أن لا تغيب وهي عدم وجود العلاقة المثالية من السلطة أو الفرد سواء بسواء حتى في الأنظمة العريقة في مجال تحديد الحقوق والواجبات.
وفي المقلب الآخر تتسع الفجوة بين الفرد والسلطة لدخول الأيديولوجية باسم الدين والعقيدة وتداخل السلطة المستمدة شرعيتها من الدين والإنابة عن الإله لتمرير الانفراد بالسلطة، فهذا سلطان عثماني يدبج مراسلاته السلطانية بعبارة "من السلطان .... ظل الله في أرضه" والتي يمكن ارجاعها لحديث رواه الطبراني والبيهقي : "السُّلْطَانُ ظِلُّ اللهِ فِي الأَرْضِ، فَمَنْ أَكْرَمَهُ أَكْرَمَهُ اللهُ، وَمَنْ أَهَانَهُ أَهَانَهُ اللهُ"، وهكذا تم اسناد الفعل السلطوي إلى فكرة الحق المطلق.
وفي مجتمعات لازالت تعيش على فكرة حق السلطة المطلق كان بالضورة أن تتبع السلطات الأدنى – كونها صنيعة أو تعيين أو منحة السلطان - الرغبة السلطوية في تنفيذ ما يمكن أن تكون مشيئته بلحاظ ارتباط رضاه برضا الله تارة عن إيمان وأخرى تزلفاً واسترزاق، والسلطة القضائية ليست استثناء هنا، عندها تتحول السلطة القضائية من إدارة لفض المنازعات بالعدل والحق إلى سلطة لتوطيد "الحق المطلق" بتجلياته الدنيوية وهو السلطان ، وهنا يمكن القول بأن القضاء وأحكامه سيفاً مسلطا بيد السلطان على رقبة الأفراد والجماعات واقتيادها إلى حيث يرتضي ويريد، وبالاتكاء على منظومة قضائية تابعة لمشيئته.
الأحكام القضائية حقيق بها أن تكون متناسبة مع "الجرم" لتحقق الهدف منها بالردع وتحقيق للعدالة التي تواضع عليها المجتمع، وحين تخالف هذا التوقع فإنها تصب في خانة زعزعة الاستقرار الاجتماعي وقبلها الثقة في النظام القضائي، الأحكام القضائية ليست فرصة للانتقام من المتهم أو الانتقاص من إنسانيته، بل هي خلاف ذلك، كون القضاء الحق إحياء للكرامة والإنسانية والعدالة بالدرجة الأولى، والأحكام المتطرفة تشددا أو تساهلا سواء بسواء لا تحقق المطلوب منها ولا تحقق الغاية المنشودة، ولا ينبغي لها أن تكون أداة لتحقيق مصالح سياسية أو أن تختطفها الإرادة السياسية إلى خارج أهدافها وغاياتها لتفقد السلطتين التنفيذية والقضائية شرعيتهما، وما لم يحققه العدل لا يمكن تحقيقه بالظلم والجور.