الكرامة هل تدفعنا للهجرة؟

ناصر موسى الحسين *
ربما لاحظ كثير منا رغبة العديد من المبتعثين من أبناء مجتمعنا في البقاء في بلاد الغرب حيث يتلقون تعليمهم العالي، وسعيهم لترتيب أوضاعهم القانونية كمقيمين دائمين تمهيداً للحصول على الجنسية في تلك الدول. تختلف الدواعي لكنها تلتقي في أنهم وجدوا بديلاً أفضل من البلد الأصلي ومسقط الرأس. الحالة ليست جديدة تماماً، فالهجرة قديمة وهي حركة طبيعية في حياة الإنسان لازمته منذ بداية وجوده على هذه الأرض. على مر التاريخ، هاجر الإنسان – فرداً وجماعة - بحثا عن الحرية والأمن والطعام والماء والتجارة والتعلم والعلاج والاكتشاف والمغامرة والغزو وغير ذلك من أسباب ودوافع. يسود شعور داخلي بأن مجتمع القطيف – خلافاً للمجتمع الإحسائي الذي يتسم بقابليته الكبيرة للهجرة- لا يميل للابتعاد عن أرضه، إذ يغلب عليه تعلقه الشديد بأرضه وتمسكه فيها إلى حد مفرط، ساهم في إنتاج مشكلات ثقافية واقتصادية. ولكن يبدو أن هذا الشعور ليس قدراً لا يتغير، وهو معرض للتلاشي أمام التحديات التي تواجه المجتمع القطيفي الذي يسعى كغيره من المجتمعات إلى العيش بحرية وكرامه في ظل نظام عادل يؤمن لهم المتطلبات الأساسية وفي مقدمتها الأمن. في خضم الأحداث السياسية والأمنية التي شهدتها المنطقة على مر العقود الستة الماضية تمسك بعض الناس بالتراب باعتباره مقدساً وطنياً، واستدعي بعضهم نصاً باعتباره دينياً بينما هو ليس كذلك وهو: حب الوطن من الإيمان. أو تمثل بقول الشاعر: بلادي وإن جارت علي عزيزة / وأهلي وإن ضنوا علي كرام بينما حبذ آخرون خاصة في زمن نشاط التيارات القومية خوض تجربة الاغتراب في مصر ولبنان والعراق وسوريا وغيرها من الدول العربية والأجنبية. لم يبتعد أولئك كثيراً عن هموم مجتمعاتهم، وربما وجدوا فرصة لخدمتها من هناك في بيئة تحترم كفاءاتهم وتحتضن تطلعاتهم الطبيعية وتوقهم للحرية والعدالة. هل حب الوطن فعلاً من الإيمان؟ وكيف نوفق بين هذه العلاقة وبين الحث العقلي والديني على الهجرة؟ وكيف نفهم الروايات تضع الأهمية والقيمة للتراب الذي يجد عليه المرء الكرامة، كما في الرواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام "ليْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ" ؟. حب الوطن ليس من الإيمان بالمفهوم الديني، فالنصوص الدينية لا تسبغ أي قدسية لمسقط الرأس أو تراب المنشأ. لقد حث الله -سبحانه وتعالى- الإنسان المسلم على الهجرة وجاءت أحاديث النبي وأهل بيته الكرام وسيرتهم العملية لتؤكد على أهمية الهجرة وتأثيراتها العملية على الإنسان والمجتمع. غالبا ما ساهمت هجرة المجتمعات في تحقيق الكثير من المصالح من أبرزها نشوء مواطن جغرافية تحولت إلى أوطان تحكمها أنظمة في شكل بدائي ما لبثت أن تحولت إلى دول مستقلة تحكمها أنظمة متقدمة. بينما ساهمت الهجرة الفردية أحياناً كثيرة في خلق شخصيات مؤثرة في محيطها الجديد وأيضاً في مجتمعها الأصلي. هل تشكل التحديات الراهنة دافعاً كافيا للاتجاه نحو الهجرة للخارج؟ من المؤكد والواضح أن الطائفة الشيعية تتعرض إلى سحق ممنهج، عبر حزمة من البرامج والسياسات، ويبدو أننا –في هذه اللحظة- من الضعف بحيث لا يمكننا استثمار الوضع الإقليمي لتوفير حماية أو لتحقيق بعض المطالب، بل على العكس تماماً، فالوضع الإقليمي يساهم في الضغط على الطائفة يوماً بعد آخر، خاصة في ظل انعدام الرشد السياسي الرسمي في التعاطي مع المكونات الداخلية، بل النظر إليها والتعامل معها باعتبارها أوراق ضغط على دول وأحزاب خارجية. وكذلك بسبب غياب رؤية مقرونة ببرنامج لدى الجماعات السياسية والدينية. الهجرة الجماعية يبدو أنها سالبة بانتفاء القوانين الدولية التي لا تسمح بها. أما فردياً ففي مثل هذه الظروف يبدو أن فكرة الهجرة تعتبر حلاً لمن لا يطيق العيش دون كرامة. وهذا خيار مكلف دون شك، ومرهق بالنظر إلى التفاصيل، لكنه يبقى حلاً في النهاية لمن يروم الحرية والكرامة. فالعالم لا يتوقف عند هذا التراب أو ذاك، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَاُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً ". خلاصة القول: ليس هناك ما يجعلنا نتمسك بالجغرافيا إذا توفرت فرص أخرى للعيش في أماكن أخرى من العالم. ولأن "خير البلاد ما حملتك"، ولأن موطننا لا يوفر لنا سبل العيش الكريم نتيجة السياسات الإقصائية والإستئثار بالقرار والثروات، وباعتبار أن الموطن لا يوفر لنا الأمن فالمرء هنا يعيش حالة من القلق والخوف لمجرد التعبير عن الرأي في الشأن العام، لذا فإن خيار الهجرة يكون طبيعياً. وضمن هذا الإطار نستطيع فهم هذه الرغبة التي تدفع شبابنا للبقاء في البلاد الأجنبية، لا بدافع البحث عن لقمة العيش وإنما الكرامة التي بدونها لا تطيب اللقمة.
كاتب وصحفي سعودي