أنا ربهم المستبد
"الأنا" كلمة مولّدة ارتبطت في صورة المجموع بحالة سلبية، فبمجرد أن تذكر "الأنا" تتبادر إلى الأذهان حالة الغرور وحب الذات والشعور الفردي الذي ينتج إقصاءً لما هو في الخارج. ومنه نشأ مصطلح الأنانية الذي يعرّف بأنه "الاعتقاد بأن المصلحة الشخصية الفردية هي الدافع الملائم لكلّ العمل الواعي"، وهو مصطلح يقابله في الإنجليزية Egotism.
ومقابل استغراق الذات في الذات، هناك حالات متفاوتة من الشعور والاهتمام ومراعاة الآخرين، قد تصل إحيانا إلى نكران الذات والتضحية بالنفس من أجل الآخرين، أو على الأقل التنازل عن بعض أو كثير من المصالح الذاتية من أجل الغير، وهي صفة امتدحها القرآن وجعلها صفة من صفات المؤمنين "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة".
من المؤكد أن حب الذات أمر فطري أراد به الله للإنسان أن يصعد سلالم الوصول إلى كمال النفس، غير أن الكثير يسيء فهم الوسيلة فتتحول عنده إلى غاية. أو يعتقد خطأ بأن الكمال هو بلوغ السلطة أوتحقيق الوجاهة أو امتلاك الثروات. وهكذا؛ يحب الإنسان أشياء كثيرة كطبيعة بشرية، فهو يحب الأمن والرفاه والراحة والشهرة والمديح والرئاسة. ولكن عندما تتحول الأمور المحبوبة عنده إلى محاور أساسية في حياته هنا تنشأ المشكلة.. أحيانا حب بعض هذه العناصر والتعلق بها تنعكس نتائجه فقط على الذات، بينما تتجاوز غالباً تأثيرات التعلق بالبعض الآخر من هذه العناصر إلى الغير. وعلى سبيل المثال؛ حب الإنسان للراحة قد لا يتسبب في مشاكل للآخرين كما هو الحال في حبه للرئاسة، الذي قد يدفعه إلى ارتكاب كل خطأ وجريمة في حق الغير من أجل الوصول إليها.
يتطور حب الذات ويتحول من شكله البسيط الفطري إلى شكل من أشكال الاستبداد وممارسة القمع. ومن المؤكد حسب علم النفس الاجتماعي أن كثيراً من العداوات البشرية تعود في الأصل إلى الأنانية، بينما يؤكد العلماء على حقيقة أن حب الخير للناس يحقق السلام.
لا نحتاج لكثير من الجهد لتأكيد أن الطغاة الماضين والمعاصرين إنما تجبروا نتيجة لطغيان الشعور الداخلي بالذات، وتناقص مساحة الشعور بالآخرين إلى حد العدم. وفي كل عصر هناك مبتلون بفرعون أو أكثر، واليوم يتوافر في العالم فراعنة أكثر من أي وقت مضى. ولا فرق بين طاغ يحكم بلاداً أو وزارة أو إدارة أو فريقا رياضياً. فجميعهم مسكونون بالأنا الاستبدادية، وجميعهم أضمر ما أظهر فرعون.
ما الذي يدفع الحاكم المستبد إلى قمع شعبه سوى إحساسه بأنه أحق بخيرات البلاد، وأنه أفضل العباد فيتحول من مجرد مستأمن إلى فرعون، فيحيط نفسه ببطانة تشبع نهم غروره، تمجده وتسبح بحمده وتسبغ عليه ألقاباً عجيبة، وتجعل منه كما للقذافي من ألقاب.
وما الذي يبرر للوزير سرقة موازنة الوزارة؟ وكيف تتحول إدارة عامة إلى مزرعة خاصة لعائلة؟ كيف يكون ذلك إذا كانت هناك حالة من التوازن في حب الذات وحب الخير للآخرين! إنما ابتلينا بكل ذلك نتيجة شعور هؤلاء بأن حبهم لذاتهم يجب أن لا يختلط أبداً بحب الخير للغير.
الحكام المستبدون خاصة في هذا العصر يعبثون بموارد الشعوب، ويسرقون الأراضي، ويلهفون الموازنات، ويجعلون من خيرات البلاد أملاكاً خاصة، ومن الدساتير والقوانين أحجبة تحول دون المس بالذات المفرطة بالشعور بالعظمة، تخولهم تغييب من يتوجه لهم بالنقد ناهيك عن معارضتهم.
والحروب التي تدور في العالم إذا ما أردنا إرجاعها إلى الجذور، سنصل إلى جذر حب الذات، فهي كما يصفها فولتير "كرة منفوخة بالهواء تخرج منها العواصف إذا ما ثقبناها"، فالنقد الذي يوجه للطغاة، ومحاولات تقويم الحاكم المستبد، والدعوة إلى التغيير تطلق كل هذا العنف وتبرر للحاكم إراقة الدماء، إذ كيف يتجرأ من هم عبيد في نظره إلى تجاوز دورهم الذي رسمه لهم انطلاقاً من "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". لذلك فإن الأنا ليست مجرد مثيرة للرعب كما يقول شوبنهاور، بل هل أصل كل الكوارث والحروب.
إن الشعور الاجتماعي السليم يوجه الانسان نحوت العطاء للآخرين، والتماس إسعادهم. والعظماء على مر التاريخ - وفي مقدمتهم الرسول الأعظم - كانوا يحبون الخير للناس، وقد دفعهم هذا الحب إلى اختيار العطاء منهجاً في حياتهم. وهكذا كان الأئمة عليهم السلام يتألمون لمصائر أعدائهم، حتى من شدوا أحزمتهم لحرب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، لم يواجههم إلا بالرحمة والعطف فلم يمنعهم من الماء مثلاً رغم أهميته في نتيجة المعركة.
إن نظرة الانسان المؤمن للآخر حتى المختلف هي نظرة مكتسبة من الخلق الإلهي الذي ينظر إلى الخلق نظر الرحمة والعطف والحب والشفقة. وتدفعه لاحترام الإنسان والتعايش مع المختلف. كما تعزز لديه قيمة التضحية من أجل الآخرين، وهنا لا بد أن نقف إجلالاً للشهداء الذين قدموا أنفسهم من أجل الدفاع عن المظلومين والمستضعفين، فليس هناك أعظم من الشهادة تتجلى فيها صفة الإيثار والبعد عن حب الذات