إعلام كيماوي
في معمعة البحث عن مسؤول عن الكارثة الانسانية التي راح ضحيتها نساء وأطفال وشيوخ في ريف دمشق، وفي اللحظة التي يحبس العالم أنفاسه انتظاراً لتحديد من المسؤول عن إطلاق السلاح الكيماوي، وما سيترتب عليه من شن حرب دولية على سوريا فيما لو ثبت أن الحكومة هي التي قامت بتنفيذ هذه المجزرة؛ في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة، ينبري بعض الإعلاميين والقنوات الإعلامية لتجعل من نفسها جهازاً فنياً متخصصاً في الأسلحة الكيماوية لتقرر أن الحكومة السورية هي التي قامت بالجريمة. ومتخذة لنفسها مكاناً فوق الجميع، فوق الضحايا وأولياء الدم والمنظمات الدولية والمحلية والمتخصصين في البحث الجنائي الدولي.
يوم أمس الأحد بثت إذاعة بي بي سي العربية تقريراً حول حالة الترقب في العالم العربي لما قد يجري على سوريا، واحتمال قيام الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها بضربة عسكرية تأديبية، إذا ما ثبت أن الحكومة السورية هي من قامت بتنفيذ مجرزة ريف دمشق باستخدام السلاح الكيماوي. واستضافت الإذاعة أحد الصحفيين من القاهرة ليقدم رؤيته لما يجري. قرر هذا الصحفي خلال حديثه أن الحكومة السورية هي التي قامت بالمجزرة البشعة، مما دفع بمقدم البرنامج إلى طرح سؤال استنكاري بأن الفريق المختص بالبحث عن أدلة حول استخدام السلاح الكيماوي غادر يوم أمس دمشق وأمامه أسبوعان على الأقل للتوصل إلى نتيجة فكيف قررت مسؤولية الحكومة السورية؟.
الخبير رولف تراب الذي عمل موظفاً في منظمة حظر الاسلحة الكيماوية في لاهاي ويعمل خبيراً استشارياً في مجال نزع الأسلحة، تحدث لوكالة الأنباء الألمانية قائلاً: لست متأكداً من أن الفريق والأمم المتحدة لن يتعرضا لضغوط كبيرة ليكونا أسرع قليلاً في تقديم التقرير النهائي، وأن المدة التي ينبغي أن تعطى للفريق هي 30 يوماً بناء على نص اتفاقية الأسلحة الكيماوية لعام 1997، وأن أمام مهمة الفريق المختص بالبحث في هذا الموضوع ما بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، لاختبار وفحص العينات.
لكن بعض الاعلاميين العرب يمتلكون قدرات أكبر من الفنيين الدوليين ومن الأمم المتحدة ومن أوباما نفسه ومن معه من خبراء ومستشارين وأجهزة متحفزة لتجريم سوريا. إعلاميونا أكثر مهارة؛ مهارة ذلك الصحفي الذي فضح نفسه عندما فشل في تحديد لون علم بلاده فضلاً عن تفسيرات ألوانه بعد أن ادعى أنه يفهم في كل حاجة. لذلك لا يترددون في إطلاق تصريحات (كيماوية) مبكرة تنسجم مع مشروع أمريكا وإسرائيل لتدمير المنطقة.
هذا مجرد نموذج لانسياق الإعلاميين للضجيج الممنهج الذي ترسم المؤسسة السياسية أبعاده ولغته، وهو سلوك غير مسؤول ويشكل كارثة لا تقل عن كارثة الأسلحة الكيماوية؛ إذ يتحول الاعلامي أحياناً من مسؤول عن التغيير إلى مساهم في التدمير.
هؤلاء ينظرون للأحداث بمناظير رجالات السياسة، فيقعون في تناقضات لا تجد – في هذه اللحظة القاسية- من يثيرها أو يحاسبهم عليها، لكن ما أن تنجلي الغبرة وتهدأ أصوات المعركة حتى تصبح هذه التصريحات والمواقف المتناقضة مادة تتناقلها شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما شاهدناه في تجربة ليبيا وتونس ومصر على وجه الخصوص، فالمواقع الالكترونية تضج بفضائح الإعلاميين.
إن ما تطلقه كثير من القنوات الإعلامية والإعلاميين في عالمنا العربي والإسلامي بشكل عام يعد مشاركه في تزييف الحقيقة وتشويه المشهد، وقد شاهدنا جميعاً خلال السنتين الماضيتين الفضائح التي تبين رخص هذه القنوات وتسافلها والتزامها نهجاً سياسياً بدلاً من التمسك بالنهج الإعلامي المسؤول الذي ينطلق من الحيادية وتطبيق شعارالرأي والرأي الآخر.
إنها الحماسة الزائفة اللامسؤولة التي تحفز هذه القنوات وهؤلاء الإعلاميين لبث ما هو أخطر من الأسلحة الكيماوية مدفوعين بعقدهم أو بأمراض البحث عن الشهرة أو المال. حماسة تطلق النار على مجتمعات بأكملها بعد أن أطلقت رصاصاتها على قواعد ومواثيق الشرف الإعلامية التي كانوا يتشدقون بها.
الخلاصة:
- إن وسائل الإعلام والمنتمين إلى هذا الحقل يتعرضون إلى ضغوط للقيام بمهام لا تنسجم مع دورهم الحقيقي في ممارسة مسؤولية السلطة الرابعة للحفاظ على المكتسبات ودعم التنمية، وقد دلت الأحداث خلال السنتين الماضيتين على ابتعاد الكثير من وسائل الإعلام عن المنهج السليم في التعاطي مع الأحداث بحيادية.
- إن خطورة وسائل الإعلام لا تقل عن أسلحة التدمير الشامل، فللكلمة فوهة مدمرة، وأن أدنى مسؤولية للإعلامي هي أن لا يساهم في استخدام الكلمة للقتل وتبرير الحروب، وإنما لحماية المجتمعات وإشاعة السلم.
- الإعلاميون معنيون بوقفة جادة لتقرير موقفهم، وللعودة إلى مبادئ العمل الإعلامي الحيادي، والانتقال من موقعهم الدوني الحالي إلى الدور الحقيقي الذي يجب أن يكونوا عليه وهو التأثير في اتخاذ القرارات السليمة التي تتفق مع مواثيق الشرف الاعلامي، والتي تركز على تحقيق السلم والتنمية.
كاتب وصحفي سعودي