قارون وجنون الثروة ( 2 من 2 )
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) سورة القصص
تحدثنا بالأمس ( قارون وجنون الثروة ( 1 من 2 ) ) عن تقلب الإنسان في نعم الله سبحانه وتعالى و مدى انشغاله بها لدرجة ظنه أنه حاز عليها عن جدارة و استحقاق ، ناسيا أن ذاته ووجوده وكل ما يتعلق بهما هو من الله تعالى الذي (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلٰکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) ﴿سبأ، 36﴾
و وقفنا لدى طبيعة الإنسان المفتون بالنعمة و صفات الإنسان المستثنى من حالة الافتتان و اختتمنا الحديث بذكر مدلول مطلع الآية (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) الذي هو إشارة إلى حالة إعراض قارون عن الله سبحانه وتعالى، حيث أسند الفعل للمجهول، بينما كان قومه يذكرونه بمصدر نعمته: (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ).
و استكمالا لما تبقى نذكر الوقفات التالية :
1- الاعتبار بتاريخ الآخرين ومصائرهم مهم جدا في تصحيح مسيرة الإنسان. ولا يكون ذلك إلا بالاطلاع على تاريخ الأمم السالفة، وانتزاع الدروس والعبر، واكتشاف السنن التاريخية، واستحضارها دائما. إن التاريخ لا يعيد نفسه إلا على من لم يقرأه، أو من قرأه للتسلية، أو أصحاب الذاكرة القصيرة المدى.
2- كل علم لا يقود إلى صلاح الإنسان ونجاته هو جهل وإن بدا في صورة العلم لأنه يشكل حجابا بين الإنسان وبين معرفة ربه. لذا رد الله على قارون ادعاءه العلم بقوله تعالى في استنكار وتعجب: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا)، كأنه يقول: فأين ذهب علمه؟ ولماذا ذُهِل عما علم من سنن التاريخ التي أهلكت الطاغين قبله ممن تفوقوا عليه قوة وثروة؟
3- عندما تحين لحظة العذاب، فإنها تأتي بغتة من دون موعد سابق، ولا يجري حينها أي استجواب للمجرمين الذين لم يحسبوا لها حسابا. هذه واحدة من سنن الله التاريخية التي ينبغي أن يستحضرها قارون وأمثاله.
4- المجرم هو المنقطع عن الحق إلى الباطل كما جاء في مجمع البحرين. وقارون دخل في زمرة المجرمين ببغيه وتطاوله على قومه، وانصرافه عن الإذعان للحق الذي دعاه إليه المخلصون منهم. وهو مثال لكل المجرمين المتطاولين بثرواتهم على الآخرين.
5- طرح صاحب تفسير الأمثل سؤالا مهما حول التوفيق بين قوله تعالى: (وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) وقوله تعالى: (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وأجاب على ذلك بجوابين:
الأوّل: إنّ المواقف في يوم القيامة متعددة، ففي بعضها يقع السؤال والجواب وفي بعض المواقف لا حاجة للسؤال، لأنّ الحجب مكشوفة، وكل شيء واضح هناك.
الثّاني: إنّ السؤال عادة نوعان .. «سؤال تحقيق» و «سؤال توبيخ» فليس في يوم القيامة سؤال للتحقيق، لأنّ كل شيء هناك مكشوف عيانا وواضح دون لبس. ولكن يوجد هناك سؤال توبيخ وهو بنفسه نوع من العذاب النفسي للمجرمين.