تدبرات سماحة المرجع المدرسي سورة الذاريات ( 5)

شبكة مزن الثقافية

بسم الله الرحمن الرحيم

 
[وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ﴿٧ إِنَّكُمْلَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ﴿٨ يُؤْفَكُعَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴿٩ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴿١٠ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ﴿١١ يَسْأَلُونَأَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ﴿١٢ يَوْمَ هُمْعَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴿١٣ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْهَـذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴿١٤].

ذكرناان القسم الالهي انتهى الى القول باختلاف البشر في القول فمنهم من أفك و منهمالخراصون و آخرون هم المتقون وحديثنا الليلة عن القسم الثاني وهم الخراصون.

  • كلمة الخراصون

لمتذكر هذه الكلمة في القرآن الكريم الا في هذه الآية المباركة، ولفهم ابعادها يجبان ننبه الى أن الله سبحانه وتعالى، خلق جميع الخلائق بشكل منظم ومتناسق ، فكلواحد من المخلوقات في هذا الكون مرتبط بالآخر وكل مخلوق لديه انجذاب لسائرالمخلوقات بحد ذاته ، وهنالك انظمة في داخل كل مخلوق تنظم هذه العلاقة بينه وبينسائر المخلوقات.

فالجاذبيةتربط الجمادات مع بعضها، واما النباتات  ففيكل واحدة منها مئات الانظمة لتنظيم حياتها ضمن المحيط الموجودة فيه.

اماالبشر،  وهو أكمل المخلوقات فهو لا يشذّ عنهذه القاعدة ايضاً ، ففي داخل كل واحد منا ، العشرات من الأنظمة التي تنظم علاقته معغيره من الناس ، ومع محيطه الذي يعيش فيه، و اذا ما اختل احد هذه الانظمة،  قدينقطع ارتباط البشر بمحيطه.

وإذااردنا ان نضرب مثلاً لذلك، فالعين مثلاً ، ترى حجم الامور و ابعادها والوانها ،وتميز بين الظلمة والنور، وكل هذه الامور تكون في طرفة عين ومن ثم تنسق البشر معمحيطه لكي لا يقع في الحفرة ويتجب المخاطر في الظلمة و...

  •  أنظمة الروح

والسؤالهنا هو ، ان الذي جعل في الانسان أنظمة للتعايش مع محيطه ، مثل معرفة الطريق ، اوالاهتداء الى الحقائق عبر السماع و... ألم يجعل نظاماً في فطرتي وعقلي لمعرفة طريقالجنة ؟

بلى، كما أن البشر يتمتع بانظمة مادية للعيش معمحيطه،  كذلك جعل الله فيه أنظمة روحية –معنوية- ،للاهتداء الى طريق الجنة،  والشاهدعلى هذه الانظمة الآيات المباركة.

  • الاستفادة من هذه الانظمة

هليجوز لي وأنا أملك عينين باصرتين بفضل الله تعالى أن أغمضهما و اسير؟

هليجوز لي وقد رزقني الله تعالى السمع ان اصم سمعي و لا استفيد منه؟

كمالا يجوز لي ذلك،  كذلك لا يجوز لي كبشر أنأترك تلك الانظمة الالهية في هدايتي و اسير فيما يرتبط بديني وعقائدي وآخرتي بالظنوالتخمين، فكما لا يجوز ان نعمل بالظن في امور مادية عابرة وحياة زائلة ، كذلك لايمكننا ان نعمل بالظنيات فيما يرتبط بحياة البقاء الابدية.

البعضيريد ان يعيش كما يشاء و يحصل على الجنة بما يشتهي هو ، لا بما يأمر به الله فيعمل، ولكن حسب هواه ، ثم - وكما في بعض الروايات-  ينسب ذلك الى الباري عزوجل، حتى ان الله يخاطبهقائلاً: "أَمَا وَجَدْتَ أَحَداً تَكْذِبُ عَلَيْهِ غَيْرِي"[1].

فالمصوبةمثلاً والذين خطب امير المؤمنين عليه السلام فيهم خطبة كاملة في نهج البلاغةوالذين قالوا أن الله يصحح كلما نقول ، فهم يعتمدون نفس الاسلوب ، فيقولون بأننانقرر المسير ، ثم يصوب الله تعالى ما وصلنا اليه.

[قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ]

هناربنا سبحانه وتعالى يتكلم عن هؤلاء بشدة فيخاطبهم بعبارة [قُتِلَ] والسؤال ما هو معنى كلمة"قتل" هنا؟

قالالبعض أن هذا نوع اللعنة وحيث جائت عبارة "الخراصون" على وزن بصيغةالفعالون فهم ، بفعلهم هذا استحقو اللعنة من الله تعالى والطرد من رحمته.

لكنماذا تعني اللعنة من الله تعالى؟ فاللعنة من البشر هو الدعاء باللعن عليه ولكنماذا لو كان اللعن من الله؟ هنالك اكثر من احتمال:

الأول: قد يكون من باب (خذ الغايات واترك المبادئ) حيث يجب ان نترك المبادئفيما يرتبط بالله سبحانه وتعالى فنقول ان اللعن هو نتيجة اللعن اي الطرد من الرحمةكما ان الله سبحانه وتعالى حينما يصلي على احد فانه يشمله برحمته.

الثاني: ليس هذا لعناً وانما هذا بيان حقيقة، فكما ان من يغلق عينهالباصرة سيصطدم بجدار او يقع في بئر وهذا السقوط او الاصطدام هو نيتجة طبيعيةلفعله، كذلك فان من يغلق منافذ بصيرته عن طرق الهداية فهو مقتول بالتاكيد، فهذا إخبارعن حقيقة موجودة وهو إنذار بأنهم سوف يخسرون، وكلمة "القتل" في اللغةالعربية ليست الموت وازهاق الروح فقط،  فلهامعنى أشمل من إزهاق الروح.

فكأنالباري عزوجل يريد ان يقول إن من يريد أن يسير بالظن في امور الدين فسوف يكون منالمقتولين، فهو من يقتل نفسه، لانه يخالف السنن الالهية التي اجراها في هذا الكون.

  •  
    من هم الخراصون؟

[الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ]

الصفةالأولى التي يبينها ربنا سبحانه وتعالى لهؤلاء،  والتي قد تعد من ابرز صفاتهم ، هي انهم قد غرقوافي السهو والغفلة، فمثلهم كمثل رجل احاط به الماء العميق من كل مكان ولا يستطيع انيخلّص نفسه ولكن الفرق بينهما انه في الماء وهم في السهو والغفلة.

السهو: بمعنى أنه يستطيع إدراك الامور ولكنه لا يدركها فهو لا يفقد القدرة علىالدرك وانما يغلق منافذ الإدراك.

غمرة: اي الماء الكثير ولكنها غمرة السهو.

ولعلالخراصون ليسوا كل من يعمل بالظن وانما الذين بنوا حياتهم على الخرص والظنونالفارغة ، فصار ذلك منهجم في التعامل مع الحقائق.

[يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ].

الصفةالثانية لهؤلاء أنهم ليسوا على يقين من أمر الآخرة بل أنهم يستهزئون بها.

فكلمة"أيان" تدل على استهزائهم بيوم الدين ، فلم يكن تسائلهم عن الزمناو المكان خالياً من الاستهزاء، ولفظة ( ايان) اشمل معنى من ( اين ) اذ ان كثرةالمباني دليل على كثرة المعاني، فتعني انهم كانوا يستهزئون فيسألون "أين"و "متى" تكون الآخرة.

  •  
    الحذر من وسواس الشيطان

احذروا أيها الأخوة! فنحن وهؤلاء سواء في هذه الصفة، فأول ما يلقي الشيطان فيريعنا في اذين قلوبنا، ونحن نستمع الى نصيحة مؤمن لنا بالآخرة والعاقبة ، يقولالشيطان لنا "أيان يوم الدين" ونحن نستمع اليه في مقالته فنقول بالستناما لا تعتقده قلوبنا الصاغية لابواق ابليس.

لماذايؤجل البعض حقوق الله وحقوق الناس؟ من الحول الى الحول؟ ولماذا لا نؤدي ما علينامن الحقوق والواجبات الشرعية؟ اليس كل ذلك بفعل الشيطان حين يقول لنا "أيانيوم الدين"؟

  • اختيار طريق الجنة

كاناحد العلماء يقول : حينما يرى الإنسان نفسه بين الدنيا والآخرة، بين الجنة والنار ويكونعلى مفترق طريق ، فليسرع في اختيار طريق الجنة، وليقدّم الآخرة على الدنيا لانه إذاسوَّف ـ لا سمح الله ـ سيوكله الله الى نفسه فتكون عاقبته الخسران و سيطرة وساوس الشيطانعليه.

فيجبأن نقول (كلا) وبقوة للباطل وللظلم والحرام ولا ندع الامر، ولا نتساهل معه اونسترسل مع الحرام، فعمر بن سعد حينما عرض عليه قيادة الجيش لم يخالف بادئ الأمر ،بل اجل الموضوع لغد وقال بأنه يفكر في الأمر ، و انتهى به الأمر الى قوله [أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ]حين انشد قائلاً:

يقولونان الله خالق نار وتعذيب وغل يدين       فانصدقوا فيما يقولون فاني اتوب للرحمن من سنتين

  • عاقبة الخراصون

[يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ]

لميجب ربنا سبحانه على تساؤلهم ذلك،  ولم يؤقتلهم وقتاً معلوماً لادخالهم النار، بل يذكر النتيجة مباشرة فيقول ان اليوم الذييتسائلون عنه هو اليوم الذي يفتنون فيه على النار.

ويفتنونهنا بمعنى يحرقون، فلنار جهنم،  زبانية مسيرةخمسائمة عام ، تاكل من حولها.

[ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَـذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ]

أنتمفتنتم أنفسكم في الحياة الدنيا وكنتم تريدون أن تكون الساعة قريباً، فهذا هو ماكنتم تريدونه.

النتيجة..

حينمانريد أن نختار طبيباً لأنفسنا نبحث جيداً  عن الطبيب الحاذق حتى لا نقع في الخطأ، وحينمانريد ان نبني داراً نبحث عن افضل مهندس في البلد لكي لا ينهدم الدار على رأسساكنيه.

هذافيما يرتبط بأمور الدنيا ، وهي زائلة كما سبق وان ذكرنا، فكيف بأمر الدين وامرالآخرة؟

اولاً: لا نكن ممن يبيع دينه بثمن بخس كسمرة بن جندب الذي باع دينهمقابل مبلغ مال، اخذها من معاوية ليقول حديثا يجعل فيه مثلبة لأمير المؤمنين (عليهالسلام) في تفسير آية مباركة.

ثانياً: يجب أن يبحث الإنسان بشكل جيد عمن ياخذ معالم دينه، وعقائده عمّن يأخذها؟،وما هي تلك العقائد التي يؤمن بها ، فلا تكن ـ لا سمح الله ـ ضعيفة ورخوة لان الظن[لا يغنيمن الحق شيئاً].

ثالثاً: يجب ان ننتبه ونحذر السهو واللهو، فغفلة ساعة قد تجلب ندامة عمر، فيجب دائماًأن استفيد من عقلي، فنحن لم نأتي الى هذه الدنيا لنسهو ونلهو بل جئنا لنمتحن..

رابعاً: الناس بعد الموت ثلاثة اقسام:

القسم الأول: يدخل نار جهنم قبل ان يرى قبراً او حساباً فيه، بل يكوندخوله الى النار مباشرة ، كما يذكر القرآن الكريم قوم النبي نوح عليه السلام حيثاغرقوا فادخلوا ناراً..

القسم الثاني: من يذهب الى الجنة مباشرة، وربما يشعر بعضهم بالجنة قبل ان يفارقوا الدنيا فيرون الملائكة و الحوركأصحاب الإمام الحسين عليه السلام بعد امتحان الإمام لهم، ليلة عاشوراء،  فأراهم الإمام (عليه السلام) منازلهم في الجنةفكانوا يوم عاشوراء في الجنة مع ان ابدانهم كانت في الدنيا.

القسم الثالث: من عليه بعد الموت حساب وكتاب و منكر ونكير ، ثم يغفل عنهالى يوم القيامة فبنفخة الصور يقوم،  فاذا هممن الاجداث الى ربهم ينسلون، وهنالك يبدأ الحساب، وكلامنا عن القسم الثالث.

حينمايغمى على احد، فهو لا يحس بالوقت حتى لو مرت سنة كاملة، كذلك هؤلاء فحين يغفل عنهملا يحسون بالزمن و الزمن يكون سريعاً فلا يتصور أحدنا أن[أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ] يكون بعيداً بل هي خطوة واحدة