تدبرات سماحة المرجع المدرسي سورة الذاريات ( 6)
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ إِنَّ الْمُتَّقينَ في جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ * آخِذينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنين ﴾
ذكرنا في الليالي الماضية ان الله قد قسّم الناس تجاه الايمان بالدين ، ثلاثة اقسام، فالمؤتفكة الذين قد افكوا عن الدين، كانوا الفئة الاولى ، حيث قال عنهم القران الكريم: ( يؤفك عنه من افك) ، وكانت الفئة الثانية ، اولئك الذين يعيشون في شك وريب وتردد تجاه الدين، والذين سماهم القرآن الكريم ( الخراصون ) ، والفئة الثالثة هم المتقون ، الذين يمدحهم القرآن الكريم ويعدهم بجنات وعيون.
- التقوى
ما هو التقوى؟ وكيف يكون الانسان متقياً؟ وما هي صفات المتقين؟
التقوى درع منيع ، وحصن حريز ، ودوحة نظرة دائمة الخضرة ووافرة الثمار، فالتقوى ، درعٌ وحصنٌ ودوحة.
وقبل توضيح هذه الامور الثلاثة لابد من بيان مقدمة هامة:
طريق الله ، طريق سهل لسالكيه، فمن يسير في هذا المسير ، فان السنن الالهية تسير معه ، وملائكة الله يرافقونه ، والطبيعة تتوافق معه ، فيكون مثله مثل من يسبح مع تيار الماء يسهل عليه الوصول الى هدفه، بينما الانحراف عن الله عزوجل فيعني الانحراف عن السنن الالهية ، وكذلك الانحراف مع الفطرة النقية المودعة في داخل المنحرف نفسه، كيف يكون كذلك؟
أ- بامكان الانسان ان يسأل ممن يعده متقياً في حياته ، يسأله عن كيفية وصوله الى ما هو عليه ، هل كان صعباً عليه ام يسيراً، فسيجيب انه كان سهلاً بتوفيق من الله عزوجل.
ب- اتساءل، من كان عند بئر يحاول عدم الوقوع فيه، ايسر امراً ، ام من يسقط في البئر ويحاول الخروج منها، من يقي نفسه من المرض ايسر حالاً ام ذلك المبتلى بالمرض ويحاول جاهداً الحصول على العلاج ، من يتقي دخول السجن افضل حالاً ام ذلك السجين الذي يحاول آيساً الخروج من السجن؟
التقوى هو الوقاية من السقوط في المهلكات ، الوقاية من غضب الرب، الوقاية من عذاب الرب ، الذي يسببه الانحراف والانجرار وراء مكائد ابليس واهواء النفس، فالتقوى تقوم على اساسين هما الرؤية المستقبلية ، والوقاية من الوقوع في الاخطاء.
فما دام الطريق معبداً و السالكون فيه كثيرون من اولياء الله الصالحين ممن عايشناهم بابداننا او قلوبنا عبر سماع اخبارهم ، مادام الامر كذلك ، فلماذا لا يسير الكثير من الناس في طريق التقوى؟
لأن هناك شيطاناً قد اقسم بعزة الله تعالى بأن يسعى في غواية الناس ، يقول الله تعالى عنه : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعين) ، فهو عدوٌ للأنسان قد حذر الله تعالى عباده من الانجرار وراء حبائله ، فقال تعالى : (أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَني آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبين) .
فهو يحاول جاهداً ان يجر الناس نحو الهاوية ، بمكائده ووساوسه ، المباشرة منها والغير مباشرة ( عبر شياطين الانس)، ومن هنا نجد ان القرآن الكريم يبتدأ بالتوكل على الله عزوجل عبر البسمله ، ويختتم بالاستعاذة بالله من شياطين الجن والانس.
وهنا تظهر اهمية التواصي عند المؤمنين الاتقياء ، حيث يتواصون بالحق والصبر والمرحمة ، - كما ورد في القرآن الكريم- فيحذر الواحد اخاه من الشيطان الرجيم.
وربما يتوهم البعض ان الطريق عاد صعباً عسيراً لا كما تصورناه سهلاً يسيراً، فكيف يمكن الجمع بين الفكرتين؟
لا يمكننا ان نتصور حركة اوطريقاً في الحياة الا مع وجود صعوبة ومشقة ، ولكن كون الانسان مع الحق يسهل عليه المسير ، بالمقارنة مع كونه مع الباطل والعياذ بالله ، فكون الانسان مع الحق مع عزيمة عالية وتوكل على الله عزوجل تذلل صعب الطريق وتسهّل عليه حزونته، بل نجد ان الكثير من الاعمال الشاقة تصير سهلة على الانسان.
- التقوى درع
ذكرنا ان التقوى درعٌ منيع ، لماذا؟
يحيط الدرع بالانسان فيمنعه من جراحات السنان، وكذلك التقوى تحيط بالانسان لتمنعه من ويلات المعاصي والآثام، فمن كان متقياً فانه لا يسقط في شراك المعاصي، فيمتنع الموظف المتقي من اخذ الرشاوي ، ويمتنع الشاب المتقي من السقوط في غواية فتياة الهوى ، بينما يلج الاخرون في ابواب المحرمات بكل سرعة ، ومن دون اي وازع او رادع، يقول تعالى : ﴿ يا بَني آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُواري سَوْآتِكُمْ وَ ريشاً وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون﴾ .
- التقوى حصن
كيف يكون التقوى حصناً حريزاً للانسان؟
لأن المتقي لا يكون وحده ، بل يعيش مع سائر المتقين ، ولذلك يكون في كهف اصحابه الصالحين ، وحصنهم المنيع ، فهم يقومونه اذا ما انحرف ، ويتواصون معه بالحق والصبر والمرحمة ، ولذلك فاننا لا نجد الحديث في القران الكريم ، عن اهل التقوى فردياً ، بل نجده بصيغة جمعية دائماً ، مثل قوله تعالى : ﴿وَ قيلَ لِلَّذينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذينَ أَحْسَنُوا في هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقين﴾ .
- التقوى دوحة
كما الدوحة الوارفة الظلال ، دائمة الخضرة ، يتهنأ بها الانسان ، ويرغد فيها عيشه ، كذلك التقوى ، يعيش المتقي الرفاهية في داخله قبل خارجه ، ويستفيد من تقواه لاخرته ودنياه.
ففي الاخرة قد وعد بجنات وعيون ، وزروع ومقام كريم ، وفي الدنيا ايضاً تجد التفاف الناس حوله ، ومحاولة الناس الوصول اليه بشتى الطرق، ففي التجارة يحاولون التعامل مع المتقي، ويحاول كل الناس ايداع اماناتهم لاهل التقوى ، و... بل ان اصحاب المال والسلطة يخضعون للمتقين ، فليس العيش الرغيد ان تمتلك ثروةً بل الاجمل ان يخضع لك اهل الثروة ، وليس العيش الهنيء ان تكون سلطاناً ، بل ان يخضع لك اهل السلطة ، ولا يكون ذلك الا لمن كان يعيش في روضة التقوى ، يتزود من خيراتها لدنيا واخرته ، يقول ربنا عزوجل : ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْباب﴾ .