الانحراف عن السنة الالهية ينتج قاروناً جديداً في العراق

سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دامت بركاته
سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دامت بركاته

 
ان العالم اليوم يعيش في خضم مشاكل عديدة وباشكال مختلفة، وبمقدار التداخل في مصالح الشعوب والدول، فان هذه المشاكل تتداخل فيما بينها ايضاً، فالعراق الذي يعيش مشاكله وازماته هو جزء من الشرق الاوسط الكائن في قارة آسيا وهي ضمن مجموعة القارات في العالم، وهو ما يسمى (القرية العالمية)، ومن لا يريد ان يفهم هذه الحقيقة، ويريد ان يفصل هذه المدينة او تلك الدولة عن العالم، فانه يسبح عكس التيار، وسيجد نفسه خارج التاريخ.

لكن ماهي جذور مشاكل العالم اليوم؟

جذور المشاكل في العالم

بالرغم مما بذلته وسائل الاعلام العالمية من إظهار الجوانب الايجابية من تطورات علمية وتكنولوجية، إلا ان قادة الدول الكبرى هم يعترفون بوجود المشاكل والازمات، فالاقتصاد العالمي يخيم عليه الركود، والاقتصاد الاوربي مهدد بالانهيار، حتى اليابان اصابها العجز في ميزانيتها التجارية لأول مرة منذ 31 سنة.
ان الاسلام ليس كتاب رسالة لمن مضى، انما هو دين العالم كله وللاجيال القادمة، والقرآن الكريم كتاب حياة لكل البشرية ارسله الله للناس جميعاً، فيجب ان نستنطقه و نلح بالسؤال عن المخرج، لان يجب ان نتذكر دائماً ان هنالك قوة أكبر وأقوى في العالم والوجود، فوق كل القوى الموجودة، ألا وهي قوة الله تعالى. لذا نقول: ان جذور مشاكل العالم نشأت عندما نسي هذا العالم ربه المهيمن عليه.

ان الله متكبر، وهو جبار السموات والارض، وهو ارحم الراحمين ولكنه عدل قائم بالقسط، فمن يشذ عن العدالة، شاء ام ابى سوف يصطدم بسنن الله تعالى، ومن مصاديق هذا الاصطدام المشاكل والازمات التي نلاحظها في العالم. فمشكلة البشرية اليوم اخلاقية قبل ان تكون سياسية او اقتصادية او ثقافية.

وعندما نقدم الاخلاق على سائر انواع المشاكل، بمعنى ان العالم حائر لا يعرف كيف يحل المشكلة...! ففي الوقت الذي يكدّ الانسان على سطح المعمورة ليل نهار ويعمل تأتي تكاليف وميزانية التسلح المهولة وتبتلع كل هذا الجهد البشري الكبير، ولهذا نجد اقتصاد العالم يترنح وينهار. واذا سألت: لمن سباق التسلح؟ ولمن تنفق كل هذه المليارات على مصانع السلاح وتكنولوجيا الصواريخ واسلحة الدمار الشامل، ومن يحارب من...؟! نجد ان البشر يحاربون بعضهم البعض، وإلا فان الانسان ليست له مشكلة مع القمر ولا مع المريخ...! وهذا هو مصداق فقدان قيمة الاخلاق في منظومة التعامل العالمية، وهذا دليل على بعد الانسان عن فطرته وعقله.

ورغم المحاولات منذ القرن الماضي لخفض ميزانيات التسلح او تقليل الترسانة النووية لدى الدول الكبرى من خلال معاهدات مثل (سارت 1)، و (سارت 2) وغيرها، بين كل من (الاتحاد السوفياتي) السابق، وامريكا، وحتى بين روسيا الحديثة وامريكا والمعسكر الغربي، لكنها تصاب بالفشل، لان سباق التسلح على قدم وساق، فالدرع الصاروخي الذي نصبته امريكا في تركيا يقابله درع صاروخي ستقدمه روسيا.

وهناك مشاكل سياسية في هذا العالم قائمة منذ اكثر من نصف قرن، و ما من مشكلة سياسية وقعت في العالم الا واستمرت باستثناء مشكلة او مشكلتين، ففي كرويا الشعب الكوري ما يزال يعاني الانقسام والتجزئة في دولتين منفصلتين بنظامين متعارضين تماماً، ولم تتمكن المنظمات الدولية من توحيد هذا البلد الذي خرج منهكاً من حرب مدمرة فرضتها الولايات المتحدة بداية عقد الخمسينات، كذلك الحال في جزيرة قبرص التي يتقاسمها السكان من اصول يونانية وبين المنحدرين من اصول تركية، وفي الشرق الاوسط تعد مشكلة اسرائيل الاكثر تعقيداً بين كل مشاكل العالم، وهي تتفاقم يوماً بعد آخر، وكذلك الحال في افريقا وفي سائر انحاء العالم. اما المشاكل الثقافية فحدث ولا حرج.
من هنا يمكننا القول: ان اساس مشاكل العالم يعود الى الكفر وعدم الايمان بالله. لان الانسان مكون من روح وجسد، ولابد من موازنة بين الاثنين، فاذا بقي في اطار الجسد، فانه لن يتمكن من ادارة مصالحه و شهواته ونزعاته، لذا هو بحاجة الى قوة اخرى اكبر من الجسد تهيمن عليه لادارة ما يعترض الجسد من مشاكل وهي قوة الروح، لكن حينما يفقد الروح هيمنته، فانه سينهار الانسان، ويمكن تشبيه العالم اليوم بسيارة كبيرة وضعت لها كوابح سيارة صغيرة، فعندما تريد تخفيف السرعة والتوقف فان هذه السيارة الكبيرة ستضغط على الكوابح المخصصة لايقاف السيارة الصغيرة، وهنا تحصل الكارثة. ان العالم شيء عظيم و واسع الابعاد، وهو يسير بسرعة مذهلة نحو المجهول، وفوق كل ذلك ليس لديه كوابح بحجمه تخفف من جموحه وتضمن له الامان والاستقرار.
قاروناً جديداً اليوم

(سورة القصص) تبين ان المادة حينما تفقد الروح تقع في الهاوية. والقران الكريم كعادته ظاهره قصص وعبر و أمثال، لكن واقعه حِكم وعلم. (ظاهره انيق وباطنه عميق) كما جاء في الحديث الشريف.

وابرز مثال يورده لنا القرآن الكريم على مآل طغيان المادة على الروح، هو قصة (قارون) ذلك الشخص الذي كان من قوم موسى، وكان من بين المجموعة التي أنجاها الله تعالى بوجود نبي الله موسى عليه السلام، عندما حصلت معجزة شق البحر ونجاتهم وغرق فرعون وجنوده، ثم قاد موسى قومه من نصر الى نصر، وهذا الرجل استفاد من المرحلة الجديدة وكسب الاموال التي بدأت تتعاظم وتتزايد، لكنه طغى وبغى على قومه الذين كانوا مصلحين، رغم تحذيره له: "إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ"، بمعنى ان مكاسبك جاءت في ظل الامة المنتصرة التي فتح الله لها بقيادة نبيه موسى، "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ". فبدأوا ينصحونه بشكل محدود و واضح، لكنه أجاب: "انما اوتيته على علم من عندي"، بمعنى انه انكر بدايته التي كانت في درجة الصفر في عهد فرعون وقمعه واستعباده له ولقومه.

ان ظاهرة (قارون) لم تنته مع قوم بني اسرائيل في تلك الفترة الزمنية من التاريخ، انما تكررت مع الزمن، حتى وصلت الى يومنا الحاضر. فهناك من لم يكن يجرؤ على ان ينبس ببنت شفه ضد نظام صدام، ولم يحرك ساكناً، واذا به اليوم يدّعي انه يمتلك القوة والمقدرة وانه هو الذي أوجدها وأنشأها بكد يده وعرق جبينه...!! وينسى الشعب وينسى الشهداء وينسى عوائل الشهداء وينسى كل التضحيات الجسام.

ويأتي الجواب الإلهي بان هنالك من كان قبلك أشد قوة واكثر جمعاً للاموال والامكانات، لكن الله اهلكه واباده بطغيانه وكفره. فالذي يفكر انه وصل الى نهاية الطريق ، فان سنة الله تعالى تؤكد ان من الممكن جداً ان يعود (صدام) آخر ويبيد من يدعي الملكية لنفسه، لان امثال الطاغية البائد كثيرة في العالم. والحديث القدسي يقول: (الظالم سيفي انتقم به وانتقم منه). وفي نهاية الآية الكريمة يقول تعالى: "وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ"، بمعنى يوم العقاب ونزول الغضب الالهي لن تكون ثمة فرصة للاعتذار او التبرير، ففي محكمة الله لا تمييز ولا استئناف، لان الله تعالى هو الحاكم وهو الشاهد وهو كل شيء.
راية الاصلاح تنطلق من المدن المقدسة
السؤال اليوم:
من الذي يقوم بالدور الحضاري والريادي لاعادة العالم الى رشده؟
لقد بعث الله رسوله الكريم وهو خاتم النبيين المصطفى محمد صلى الله عليه وآله، ولن يأتي بعده نبي، والامام علي عليه السلام يقول: (ان الله بعث هذا القران ولا ينزل بعده قرآن آخر). بمعنى ان الذي عندكم ارجعوا اليه لعلكم ترشدون... لكن ربما يقول قائل: ليخرج لنا مصلح من الصين او من جنوب افرقيا او من كوبا او من كوريا، نقول كلا، فهذا لن يكون، لان الاصلاح لن يأتي إلا من مسيرة الاصلاح الممتدة منذ اربعة عشر قرن من الزمن، وهي المسيرة الرسالية التي انطلقت من مكة وصدح بها النبي الاكرم صلى الله عليه وآله. وهي اليوم متمثلة برجال من هذه الامة وبالذات من محبي اهل البيت وتحديداً من المدن المقدسة التي تحتضن الصالحين من محبي اهل البيت، هؤلاء هم الذين يرفعون راية الاصلاح في العالم. وربما يكون الشعب العراقي هو من يرفع هذه الراية العظيمة.

فيما مضى من الزمن كنت اتحاشى اطلاق كلمة (العظيم) – والعظمة لله تعالى- على الشعب العراقي، وهي نسبية طبعاً. لكن بعد الزيارة الاربعينية الماضية قلت: (ان شعب العراق عظيم)، و استطعت بان اقنع نفسي بامور تتناسب مع هذه الكلمة لهذا الشعب. وقبل عشرنن عاماً قلت: اني أرى ما يجري على العراق من معاناة و دماء ومآسي، يشكل تمهيداً لدور ما قُدر لهذا الشعب، وهذه قناعتي مبنية من خلال دراستي لسنن الله في التاريخ والتي يبينها القران الكريم، ولا املك علم الغيب، لكن هذا ما افهمه وأرى اننا يوماً بعد آخر نقترب من ذلك اليوم.
وبالحقيقة انا عاجز ان أشكر الشعب العراقي على مجيئهم الى كربلاء المقدسة و زيارتهم المليونية لسيد الشهداء عليه السلام، والله على ما اقوله شهيد. سألت زائراً قادماً من اميركا مشياً على الاقدام: ماذا رأيت: قال لي: (رأيت الامة الاسلامية باكملها). و اميركي آخر سألته نفس السؤال: قال: (ان الذي تتكلمون عنه انه سيأتي يوم و يظهر وهو امام اسمه الحجة المنتظر والناس في ذلك اليوم سيتجاوزون القيم المادية ويتعاملون مع بعض بالقيم المعنوية، وقد رأيت مقدمات هذا في العراق في زيارة الاربعين للامام الحسين عليه السلام). كما تضمنت مسيرة الاربعين هذه السنة زائرين من اليمن ومصر و السعودية والكويت ومن مخلتف المناطق، واقول بصراحة ولمن ينبغي ان يفهم هذه الكلمة: ان الزائرين هذه السنة والسنين الماضية ليس كلهم من الريف والطبقة الضعيفة، وهم لهم الشرف بان يأتوا الى زيارة الامام الحسين، لكن كان هنالك الاطباء واساتذة الجامعات جاؤوا سيراً على الاقدام، بمعنى ان الزائرين يحملون الثقافة الحسينية التي نرجو ان تعمّ العالم بأسره. وهذه الثقافة هي التي أمنت الاجواء الاجتماعية للزيارة المليونية، فلم تحدث مشكلة بين زائر وآخر رغم الزحام الشديد في المدينة المقدسة، ولم نلحظ إمرأة بحجاب ضعيف. وكل ما ظهر على صعيد الواقع، لم يكن سوى التلاحم والتفاهم والتعاون والمحبة المشتركة، وكل هذه تجسيد للثقافة؟

ان من ينكر وجود الثقافة في مدينة ابي عبد الله الحسين او في مدينة الامام امير المؤمنين او في مدينة الكاظمية او مدينة سامراء او من سرداب الغيبة، ينكر التحول الاجتماعي الكبير الذي تحول في مكة والجزيرة العربية التي كانت قابعة وسط صحراء الجهل والتخلف، لكنها شعت وانطلقت الى الآفاق بظهور نور الاسلام ونور الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله، واذا بالعالم كله تنور بنور النبي . من هنا نقول: ان العالم اليوم بحاجة الى ثقافة الهية والى قيم ربانية والى أناس يحملون هذه القيم في انفسهم ويطبقونها على انفسهم ومن ثم يطورنها الى العالم.

وتأكيداً لما ذكرناه في الاسبوع الماضي، باننا نرد على من يقول بوجود الطائفية في العراق، وسيثبت لكم حوادث التاريخ ذلك، فأي شخص اراد ان يمزق الامة الاسلامية الى طوائف مختلفة فشل واندحر ، لان الله ارادها امة واحدة، وهو سبحانه وتعالى سماها "خير امة اخرجت للناس"، وقد جعلها تعالى كذلك حينما قال: "وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا"، فهل يمكن ان يأتي انسان ضعيف ويخالف ارادة الله تعالى؟ مستحيل... والتاريخ شاهد من يزيد والى بني أمية والى بعض خلفاء بني العباس والى سائر الحكام، لكنهم جميعاً ما استطاعوا ان يمزقوا الامة، وفي زيارة الاربعين وجدنا من ابناء السنة في كربلاء وقد زاروا الامام الحسين عليه السلام، وأقاموا في المخيمات بين كربلاء والنجف، وأقاموا الصلاة كلٌ على طريقته ، وهذا دليل على ان روح الامام الحسين اكبر محاولات التمزيق والتفرقة بكثير جداً. لذا حينما نقول (العراق) بمعنى العراق كله، وانشاء الله يأتي ذلك اليوم الذي يجد هذا الشعب دوره الحضاري والريادي في التغيير والاصلاح على طريق الحسين.