المواطنة في وثيقة المدينة
وثيقة المدينة أو صحيفة المدينة هي الوثيقة التي ذكر المؤرخون أن النبي أعدها بعد مدة وجيزة من قدومه المدينة المنورة، والتي كما يقول العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي " لم تقتصر على تنظيم علاقات المسلمين مع غيرهم، وإنما تعرض جانب كبير – بل هو الجانب الأكبر – منها إلى تقرير قواعد كلية، وأسس عملية للعلاقات بين المسلمين أنفسهم" كما اعتبرها " من أهم الوثائق القانونية، التي لا بد أن يدرسها علماء القانون والتشريع بدقة متناهية، لاستخلاص الدلائل والأحكام منها، وأيضا لمعرفة الغايات التي يرمي لها الإسلام، والضوابط التي يرتضيها، ومقارنتها بغيرها".
وقد نالت هذه الوثيقة اهتماما كبيرا في السنوات الأخيرة، خصوصا مع ارتفاع وتيرة الحديث عن المواطنة، حيث واجه الإسلاميون سؤال المواطنة الذي تم إنتاجه في بيئة غير إسلامية، فارتبط بالغرب والديمقراطية والعلمانية، مما جعل الإسلاميين المتبنين لمفهوم المواطنة - بما تعنيه من الحرية والمساواة والمشاركة السياسية والمسؤولية الاجتماعية المشتركة – يبحثون عن تكييف أو تأصيل لهذا المفهوم، فكانت وثيقة المدينة هي الأساس لذلك.
في مقال له بعنوان (وثيقة المدينة ودستور المواطنة) حاول الدكتور علي جمعة تأصيل حق المواطنة اعتمادا على تلك الوثيقة. يقول الدكتور جمعة: "ولقد عرف الإسلام هذا الحق ورسخه منذ أربعة عشر قرنًا، فحين هاجر الرسول إلى المدينة وجد فيها عقائد مختلفة وقبائل شتى، تشكلت بعد استقراره إلى فئات ثلاث في ذلك المجتمع الجديد،هم:المسـلمون، واليهود، والعرب المشركون، ويتألف المسلمون من المهاجرين والأنصار الذين يتألفون بدورهم من الأوس والخزرج، وهو ما يمثل نسيجا غريبا ومخالفا لتقاليد العرب وأعرافهم في ذلك الوقت في الجزيرة العربية.
وفي ظل ذلك التنوع أراد الرسول أن يؤسس دولة قوية يسودها السلام والتعاون والمشاركة بين جميع أطيافها على مختلف مشاربهم.
ومن هنا جاءت وثيقة المدينة كأول دستور للدولة المدنية في العالم، يحدد ملامح دولة الإسلام الجديدة، ولا يفرق بين مواطنيها من حيث الدين أو العرق أو الجنس."
أما راشد الغنوشي فقد حاول في مقال له بعنوان (الإسلام والمواطنة) تفكيك العلاقة والارتباط بين المواطنة والعلمانية من جهة وبينها وبين الدولة القومية من جهة أخرى، معيدا للأذهان تجربة المواطنة في الدولة الإسلامية الأولى، متكئا على وثيقة المدينة أيضا. يقول الغنوشي: "وفي السياق الإسلامي تمتّع أهل ديانات وأعراق مختلفة بحقوق المواطنة أو بكثير منها في ظل حكومات إسلامية عبر تاريخ الإسلام الذي برئ من حروب الإبادة والاضطهاد الديني أو العرقي، بدءا بدولة المدينة التي تأسست على دستور مكتوب اعترف بحقوق المواطنة لجميع المكونات الدينية والعرقية للسكان باعتبارهم" أمة من دون الناس" حسب تعبير دستور المدينة المعروف باسم "الصحيفة" (سيرة ابن هشام) حيث نصت على أن "اليهود أمة والمسلمين أمة" (أي أمة العقيدة) وأن "المسلمين واليهود أمة" (هي أمة السياسة أو المواطنة) بالتعبير الحديث أي شركاء في نظام سياسي واحد يخولهم حقوقا متساوية باعتبارهم أهل كتاب وأهل ذمة أي مواطنين حاملين لجنسية الدولة المسلمة من غير المسلمين."
واعتبر الدكتور يوسف القرضاوي وثيقة المدينة أساسا في عملية المواطنة التي حاول تأصيلها أيضا مستخدما مدخلا لُغَويا لذلك، حيث يقول: " قرر فقهاء المذاهب المختلفة جميعاً : أن غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، وهم الذين يعبَّر عنهم في الاصطلاح الفقهي بـ (أهل الذمة( يعدُّون من (أهل دار الإسلام). فهم من (أهل الدار) وإن لم يكونوا من (أهل الملَّة).
وفي اجتهادي: أن كلمة (أهل الدار) هذه تمثِّل مفتاحاً للمشكلة، مشكلة المواطنة، لأن معنى أنهم (أهل الدار) أنهم ليسوا غرباء ولا أجانب، لأن حقيقة معناها: أنهم أهل الوطن، وهل الوطن إلا الدار أو الديار؟ وإذا ثبت أنهم أهل الوطن، فهم (مواطنون) كغيرهم من شركائهم من المسلمين. وبهذا تحلُّ هذه الإشكالية من داخل الفقه الإسلامي، دون الحاجة إلى استيراد مفهوم المواطنة من سوق الفكر الغربي."
ويمكننا في هذا الصدد رصد العديد من المحاولات المشابهة لما ذكرنا بين الإسلاميين لا سيما الحركيين منهم مثل حسن الترابي ومحمد سليم العوا وغيرهما.
أخيرا ينبغي أن لا نغفل هنا ما قام به الشيخ النائيني (رحمه الله) من تأصيل فقهي لمسألة المواطنة في رسالته التي تحدثنا عنها سابقا (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)، حيث ذهب إلى أصالة الحرية وأصالة المساواة، ودافع عن هذين الأصلين الطيبين كما سماهما دون أن يتكئ على وثيقة المدينة.