البعثة النبوية في الخطبة الفاطمية
من أعظم المنن الإلهية على البشرية جمعاء بعثةُ النبي محمد التي غيرت وجه الكون وفتحت للعالم طريق السعادة المنشودة. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ (164) سورة آل عمران.
فكلمة (مَنَّ) توحي بعظيم النعمة الجميلة ذات الوزن الثقيل المُسداة من الله تعالى والمتمثلة في البعثة النبوية الشريفة، والتي مثلت النقلة النوعية الكبرى في المسيرة البشرية، حيث الإنقاذ من الضلال المبين بكافة مستوياته ومجالاته إلى عالم الهداية والرشد والتزكية والعلم والحكمة.
في خطبتها العصماء في مسجد أبيها، تتحدث فاطمة الزهراء وهي المحدثة العليمة عن البعثة وأهدافها وإنجازاتها التي تتمحور حول أفعال التنوير والكشف والتجلية والهداية والإنقاذ والتبصير، أو إخراج الناس من الظلمات إلى النور بحسب التعبير القرآني. تقول فاطمة متحدثة عن المهمة الصعبة التي استطاع النبي إنجازها في وقت قياسي:
" ابْتَعَثَهُ اللَّهُ إِتْمَاماً لِأَمْرِهِ، وَعَزِيمَةً عَلَى إِمْضَاءِ حُكْمِهِ، وَإِنْفَاذاً لِمَقَادِيرِ رَحْمَتِهِ، فَرَأَى الْأُمَمَ فِرَقاً فِي أَدْيَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِيرَانِهَا، عَابِدَةً لِأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً لِلَّهِ مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ اللَّهُ بِأَبِي مُحَمَّدٍ ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَى عَنِ الْأَبْصَارِ غُمَمَهَا، وَقَامَ فِي النَّاسِ بِالْهِدَايَةِ، فَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوَايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ."
وفي مقطع آخر من خطبتها تتحدث عن كيفية قيامه بالمهمة ونجاحه فيها، وما تحمله في سبيل تبليغ رسالته، والصدع بالحق بشيرا ونذيرا، مخالفا للسائد من مسلك المشركين وعبدة الأوثان، مدافعا عن الحق، داعيا إليه بالمنهج القويم، محطما الأصنام المادية والمعنوية التي تعيق تكامل الإنسان، حتى تحقق له ما أراد. تقول :
" فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، صَادِعاً بِالنِّذَارَةِ، مَائِلًا عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضَارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأَكْظَامِهِمْ، دَاعِياً إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، يَكْسِرُ الْأَصْنَامَ، وَ يَنْكُثُ الْهَامَ، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَ وَلَّوُا الدُّبُرَ، حَتَّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِيمُ الدِّينِ، وَخَرِسَتْ شَقَاشِقُ الشَّيَاطِينِ، وَطَاحَ وَشِيظُ النِّفَاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْبِيضِ الْخِمَاصِ"
وكي تستبين مقدار المعاناة والمكابدة النبوية من جهة، وعظمة الإنجاز من جهة أخرى، تُذكر فاطمة عليها السلام الناس بالأوضاع المتردية التي كانت عليها الحال قبل البعثة دينيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا ونفسيا؛ حيث كانوا على المستوى الديني والثقافي على شفا حفرة من النار، ولم تكن لهم على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي أية قيمة تذكر. إذ كانوا في حالة من الضعف والمهانة والذلة والفقر والخوف وسوء الحال. شربهم (الطرق) وهو الماء المتعفن القذر الذي خاضت فيه الإبل وبالت وبعرت، وأكلهم (القد) وهو الجلد غير المدبوغ.
تقول :
"وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، مُذْقَةَ الشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ، وَقَبْسَةَ الْعَجْلَانِ، وَمَوْطِئَ الْأَقْدَامِ، تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ الْوَرَقَ، أَذِلَّةً خَاسِئِينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذَكُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَ الَّتِي، وَبَعْدَ أَنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ".
إن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى استحضار نعمة البعثة وأهدافها وإنجازاتها، حيث ابتعدت الأمة عن مسارها الصحيح وعادت كما كانت في أسفل درجات التخلف الحضاري؛ سيادتها منتهكة، ومواردها مستباحة، لا تتمتع بأي أنواع الاستقلالية.