ضد الطائفية
مع اشتداد السعار الطائفي البغيض الذي تعيشه المنطقة، والذي يؤذن بكارثة سوداء لونها لا تسر الناظرين إذا لم يقم علماء الأمة ومثقفوها بالدور التاريخي المطلوب منهم في لجم المسعورين وتوعية الأمة بالأخطار المحدقة نتيجة التخندق المذهبي الذي أفقد البوصلة رشدها حتى صار العدو صديقا والأخ عدوا.
مع اشتداد هذا السعار أعتقد أن من المفيد جدا استدعاء الشخصيات الوحدوية ومواقفها التاريخية التي عملت على وأد الفتنة الطائفية والتصدي لها بكل ما تستطيع، ودفعت من أجل ذلك ضريبة عالية من كظم الغيظ وضبط إيقاع الشارع في الأوقات العصيبة ومواجهة المكائد والدسائس والمؤامرات التي تعمل على تفجير الأوضاع خدمة لمصالح القوى المتربصة بالبلاد والعباد.
ومن بين الأسماء اللامعة في هذا الصدد المرجع الديني الكبير الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي (1815-1895م) (1230-1312 هـ) المعروف بالمجدد الشيرازي والمشهور بفتوى التنباك. نظرا لبعض الظروف انتقل هذا المرجع من النجف إلى سامراء حيث مرقد الإمامين العسكريين لتتحول في عهده إلى مركز للمرجعية الشيعية العليا. بالطبع لم يتم ذلك من فراغ، ولكنه جاء حصيلة جهوده الإصلاحية والاجتماعية في تلك المدينة، إذ كان شديد الاهتمام بأحوال الناس كل الناس وأمور معاشهم، وساعد على تحسين أحوال المزارعين وتخفيف أعبائهم، وكان يمد يد العون للفقراء والمحتاجين، وقام بعدة مشاريع، فبنى سوقاً ومدرسة كبيرين ومرافق عامة أخرى وجسراً على نهر دجلة في سامراء.
أثار حضوره الكبير حفيظة بعض الطائفيين الذين لا تروق لهم حالة التآلف والانسجام بين الطوائف الإسلامية، ولقي ذلك هوى في نفس والي بغداد العثماني الذي قام بإرسال أحد المشايخ المعروف بطائفيته المقيتة إلى سامراء سنة 1893 م، مما أدى إلى تأجيج الأوضاع وتأزيمها. تعرض النجل الأكبر للإمام الشيرازي إلى الضرب المبرح حتى كاد يفقد حياته، وتعرض هو نفسه إلى رشقه بالحجارة مما أسفر عن حالة من التوتر والاحتقان الطائفي عمت العراق بأسره، وكادت تؤدي إلى التدخل الأجنبي الذي يستثمر مثل هذه الأوضاع. غير أن الإمام الشيرازي لم يفقد توازنه، وأدرك بنظره الثاقب مآرب القنصل البريطاني في بغداد الذي سارع إلى القدوم لسامراء مبديا استعداده لاتخاذ ما يلزم بهذا الشأن. رد عليه السيد الشيرازي بالقول: "إن الحادث مجرد عمل صبياني عفوي وقع من قبل صبيان كانوا يلعبون في الطريق ، فلا حاجة لأن تدس بريطانيا أنفها في ما لا يعنيها من الأمور". وكذلك فعل مع القنصل الروسي أيضا هذا الموقف جعل من السيد الشيرازي محل إجلال وإكبار من كافة أبناء السنة في سامراء.
موقف وحدوي آخر قام به هذا العالم الكبير حين أفتى في إحدى السنين بالعيد بناء على رؤية الهلال من قبل أحد أبناء السنة في مدينة سامراء بعد أن أعطى أوصافا دقيقة للهلال.
موقف ثالث ينقله حفيده السيد رضي الشيرازي، يقول:
عندما شرع السيد الميرزا الشيرازي ببناء مدرسته الدينية العلمية الكبرى في مدينة سامراء، وهي من جملة المنشآت التي أقامها في هذه المدينة خلال سنوات إقامته فيها، تشجّع المسلمون السُنّة بدورهم لبناء مدرسة دينية لعلمائهم، ولكنهم لم يتمكنوا من إتمام بناءها نظراً لأنهم كانوا يفتقدون المال اللازم لها ولم يكن أمامهم من حيلة سوى الرجوع إلى السيد الشيرازي لطلب مساعدة مالية منه، وعندما التمسوا منه مثل هذه المساعدة قام على الفور بتلبية طلبهم وزوّدهم بمنحةٍ مالية سخيّة، وكانت هذه اللفتة الكريمة منه عاملاً من عوامل الانسجام والوئام بين سكان المدينة.
هذه بعض مواقف هذا الرجل العظيم نستحضرها اليوم لتنشيط الذاكرة الإسلامية التي أفسدها العفن الطائفي الذي يجد بيئته المناسبة في غياب العقل وسيادة الجهل والذي تغذيه الديكتاتورية لضمان بقائها واستمرار عبثها بمقدرات الأمة.