حق الدائن
وَأمّا حَقُّ الغَرِيمِ الطَّالِب لَكَ، فَإنْ كُنْتَ مُوسِرًا أَوفَيتَهُ وَكَفَيتَهُ وَأَغْنَيتَهُ وَلَمْ ترْدُدْهُ وتَمْطُلْهُ فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - قَالَ - "مَطْلُ الغنيِّ ظُلْمٌ". وَإنْ كُنْتَ مُعْسِرًا أَرْضَيتَهُ بحُسْنِ القَوْلِ وَطَلَبتَ إلَيهِ طَلَباً جَـــمِيلاً وَرَدَدتَهُ عَنْ نفْسِكَ ردًّا لَطِيفًا، وَلَمْ تَجْمَعَ عَلَيْهِ ذهَابَ مَالِهِ وَسُوءَ مُعَامَلَتِهِ فَإنَّ ذلِكَ لؤمٌ. ولا قُوَّةَ إلاّ باللهِ.
أصبحت الديون واحدة من أكثر المشاكل التي تؤرق الدول والأفراد على حد سواء، وذلك نتيجة للسياسات الاقتصادية الخاطئة التي أنتجت هذه الأزمات الخانقة. لن نتحدث هنا عن أمريكا وأزمة الديون السيادية، ولا عن أزمة ديون منطقة اليورو التي كادت تصل ببعض دولها إلى حد الإفلاس، ولا عن مأساة المديونية في دول العالم الثالث التي ترتفع من عام لآخر، كما يتزايد حجم أعبائها بشكل مستمر، حيث تعجز هذه الدول عن تسديد الفوائد المتراكمة فضلا عن أصل القروض.
سنكتفي بالحديث في المجال الفردي، حيث المشكلة مستفحلة يدركها القريب والبعيد. فالكثير من الناس غارقون في الديون المستعصية الحل؛ يستدينون ليسددوا، ويسددون ليستدينوا، كما أن هناك أرقاما مخيفة للديون المتعثرة والمشكوك في تحصيلها بسبب المماطلة أو عدم القدرة على الوفاء.
ولم يعد المرء اليوم يستدين عند الضرورة فقط، بل صار يستدين لكل شيء في كل وقت؛ للسفر ولاقتناء الكماليات ولمصاريف الزواج غير الضرورية كالحفلات وغيرها ولمجاراة الحالة الاجتماعية، و....
لقد شددت الروايات الشريفة على حصر الدين في الحاجات الضرورية فقط، ونهت عنه في غيرها، كما أوضحت الآثار السلبية الكارثية له. فعن رسول الله : "إياكم والدين، فإنه هم بالليل وذل بالنهار". وعن الإمام الصادق : "خففوا الدين، فإن في خفة الدين زيادة العمر". وعن الإمام الكاظم : "من طلب هذا الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله عز وجل، فإن غلب عليه فليستدن على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله) ما يقوت به عياله". وحثت آية الدين، وهي أطول آية في القرآن الكريم، على كتابة الدين وتحديد موعد سداده حفظا للأموال والحقوق. فالثقة وحدها لا تكفي، إذ ضاعت كثير من الديون بسبب عدم كتابتها اعتمادا على الثقة التي قد لا تكون في محلها، أو بسبب وفاة الشخص الموثوق.
يتحدث الإمام هنا عن حق الدائن أو (الغريم الطالب لك) بحسب نص الرسالة، وهو محصور بين حالتين: حالة اليسر وحالة الإعسار، ولكل حالة حقها. ففي حالة كون المقترض قادرا على السداد ينبغي عليه أن يبادر بوفاء دينه، وأن لا يقوم بالمماطلة والتسويف، وأن يكفي الدائن عناء مطالبته والركض وراءه لتحصيل دينه. أما في حالة عدم قدرته على السداد بسبب الظروف المادية العسيرة الخارجة عن الإرادة، فعليه أن لا يتهرب من الدائن، أو يرده عند المطالبة ردا عنيفا قاسيا لا يتلاءم مع حقه كدائن وحقه كصاحب معروف أيضا. المطلوب من المديون المُعسِر أن يعمل بجد على إرضاء الدائن بالكلمة الطيبة الصادقة التي تكشف عن رغبة حقيقية في الوفاء منعت تحقيقها ضائقة مالية واقعية، وبالوصول معه إلى صيغة تفاهمية جديدة تعيد جدولة الدين، وتكفل سداده، وتحفظ كرامة الدائن والمديون.
إن مما يؤسف له أن المماطلة في تسديد الديون والتعامل غير اللائق مع الدائن أصبحا سلوكا سائدا في معاملاتنا اليومية، مما جعل الناس يُحجِمون عن تقديم القروض الحسنة للآخرين لقضاء حاجاتهم بسبب تراكم التجارب المريرة اللئيمة التي جمعت بين ذهاب المال وسوء المعاملة، فقطعت سبيل المعروف. والجميع يحفظ الكثير من قصص المماطلة التي أدت إلى إفلاس الدائن، وربما وفاته بسبب ما لقيه من معاملة مسيئة مجحفة من مديونيه.
من هنا تأتي أهمية التنبيه على حقوق الدائن، حتى تستمر عجلة الحياة بصورة طبيعية، فالاقتراض أمر لا بد منه في أي مجتمع. وهو ما أكدت عليه الرواية التالية:
عن معاوية بن وهب: قلت لأبي عبد الله إنه ذكر لنا أن رجلا من الأنصار مات وعليه ديناران دَينا فلم يُصَل عليه النبي وقال: صَلوا على صاحبكم حتى ضمنهما عنه بعض قرابته؟.
فقال أبو عبد الله : ذلك الحق، ثم قال: إن رسول الله إنما فعل ذلك ليتعظوا وليرد بعضهم على بعض، ولئلا يستخفوا بالدين، وقد مات رسول الله وعليه دين، ومات الحسن وعليه دين، وقتل الحسين وعليه دين.