حق الجار
وَأمّــا حَقُّ الجَارِ فَحِفْظُهُ غَائِبًا وَكَرَامَتُهُ شَاهِدًا ونُصْرَتُهُ وَمَعُونتُهُ فِي الحَـالَينِ جَمِيعــاً. لا تَتَّبعْ لَهُ عَوْرَةً ولا تَبحَثْ لَهُ عَنْ سَوْءَة لِتَعْرِفَهَا، فَإنْ عَرَفْتَهَــــــا مِنْهُ عَنْ غَيْرِ إرَادَةٍ مِنْكَ وَلا تَكَلُّفٍ كُنْتَ لِمَا عَلِمْتَ حِصْناً حَصِيناً وَسِتْرًا سَتِيرًا، لَوْ بَحَثتِ الأَسِنَّةُ عَنْهُ ضَمِيرًا لَمْ تَتَّصِلْ إلَيْه لانطِوَائِهِ عَلَيهِ. لا تَسْــتَمِعْ عَلَيهِ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَـــمُ. لا تُسَلِّمْهُ عِنْدَ شَديدَةٍ، ولا تَحْسُدْهُ عِنْدَ نِعْمَةٍ. تُقِيلُ عَثْرَتهُ وتَغْفِرْ زَلَّتَهُ. ولا تَدَّخِرْ حِلْمَكَ عَنْهُ إذَا جَهِلَ عَلَيْكَ، ولا تَخرُجْ أَنْ تَكُونَ سُلَّمًا لَهُ. تَرُدُّ عَنهُ لِسَانَ الشَّتِيمَةِ، وَتُبْطِلُ فِيهِ كَيْدَ حَامِلِ النَّصِيحَةِ، وَتُعَــــــاشِرَهُ مُعَاشَرَةً كَرِيمَةً. وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ.
في تنظيمه للعلاقات الاجتماعية، اهتم الإسلام بحسن الجوار اهتماما شديدا، ولا أدل على ذلك من قول رسول الله : "ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". كما أكد القرآن على هذه العلاقة في وصية من وصاياه الخالدة التي تؤسس لمنهج (الدين المعاملة). يقول تعالى: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36) سورة النساء.
قال بعض المفسرين إن المراد من الجار ذي القربى قد يشمل الجار القريب نسبا، أو الأقرب دارا، أو الأقرب من الناحية الدينية أو العقائدية. ويقابله الجار الجنب أي البعيد نسبا، أو البعيد دارا، أو البعيد دينا أو عقيدة. وقد توسع الشارع في مفهوم الجار ليستوعب دائرة كبيرة تحيط بالدار من جهاتها الأربع. فعن الإمام علي : "حريم المسجد أربعون ذراعا، والجوار أربعون دارا من أربعة جوانبها"، كما أعاد صياغة مفهوم حسن الجوار أيضا؛ فقد ورد عن الإمام الكاظم :"ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى"، إذ إن كف الأذى مطلوب من الإنسان تجاه أي أحد ولا يختص بالجار، أما الصبر على الأذى فهو مرحلة متقدمة يحتاجها الإنسان كثيرا في علاقاته بجيرانه، حيث تكثر موارد الاحتكاك اليومي التي قد تتسبب في الخلافات والنزاعات.
حقوق الجار كما بينها هذا المقطع الشريف من رسالة الحقوق يمكن أن نضعها في النقاط التالية:
1- حفظه أثناء غيابه؛ ويكون ذلك بالمحافظة على أهله وعرضه وماله وولده.
2- إكرامه أثناء حضوره؛ باحترامه وتوقيره وإعطائه المكانة اللائقة.
3- تقديم النصرة والمعونة له في حال غيابه أو حضوره. وكما هو معلوم فإن النصرة والمعونة عنوانان يشملان الكثير من المصاديق التي يتجلى فيها الدعم المادي أو المعنوي أو كلاهما.
4- عدم التفتيش عن سلبياته، والعمل الجاد الحريص بكل الوسائل على ستر ما قد يظهر لك منها دون قصد منك. وقد عبر الإمام عن المبالغة الشديدة في ستر العورات أبلغ تعبير حين قال: "كُنْتَ لِمَــــا عَلِمْتَ حِصْنـــاً حَصِينـــاً وَسِتْرًا سَــــــــــــتِيرًا، لَوْ بَحَثتِ الأَسِنَّةُ عَنْهُ ضَمِيرًا لَمْ تَتَّصِلْ إلَيْه لانطِوَائِهِ عَلَيهِ".
5- عدم التجسس عليه.
6- الوقوف بجانبه في الأزمات والمحن والشدائد، وعدم حسده في حالة الرخاء.
7- إعانته على تصحيح أخطائه، والتجاوز عنها.
8- مقابلة إساءته بالإحسان، وجهله بالحلم.
9- المساندة له برد أي شتيمة عليه، وإبطال أي مكيدة ضده خصوصا تلك التي تتلبس بثوب النصيحة.
10- المعاشرة الكريمة له. وهذا عنوان عريض يصلح أن يكون المظلة الكبرى لكل ما سبقه.
وقد ضرب الإمام بنفسه لنا أروع الأمثلة في حسن الجوار، كما في الرواية التاريخية التالية: إن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي كان واليا على المدينة لعبد الملك بن مروان، وقد أساء جوار الإمام ولحقه منه أذى على حد تعبير الراوي، فلما مات عبد الملك، عزله الوليد بن عبد الملك، وأوقفه للناس، لكي يقتصوا منه، فقال: والله إني لا أخاف إلا علي بن الحسين، فمر عليه الإمام، وسلم عليه، وأمر خاصته أن لا يتعرض له أحد بسوء، وأرسل له: " إن كان أعجزك مال تؤخذ به، فعندنا ما يسعك، ويسد حاجتك، فطب نفسا منا، ومن كل من يطيعنا "، فقال له هشام بن إسماعيل: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وفي صحيفة دعائه المعروفة بالصحيفة السجادية، خصص الإمام السجاد دعاء لجيرانه وأوليائه يحفل بالمضامين التربوية الراقية التي تبين حقوق الجوار. يقول عليه السلام: "وَوَفِّقْهُمْ لإِقامَةِ سُنَّتِكَ، وَالأَخْذِ بِمَحاسِنِ أَدَبِكَ في إِرْفاقِ ضَعيفهِمْ، وَسَدِّ خَلَّتِهِمْ، وَعِيادَةِ مَريضِهِمْ، وَهِدايَةِ مُسْتَرْشِدِهِمْ، وَمُناصَحَةِ مُسْتَشيرِهِمْ، وَتَعَهُّدِ قَادِمِهِمْ، وَكِتْمانِ أَسْرارِهِمْ، وَسَتْرِ عَوْراتِهِمْ، وَنُصْرَةِ مَظْلُومِهِمْ، وَحُسْنِ مُواساتِهِمْ بِالْماعُونِ، وَالْعَوْدِ عَلَيْهِمْ بِالْجِدَةِ وَالإفْضالِ، وَإِعْطاءِ ما يَجِبُ لَهُمْ قَبْلَ السُّؤالِ".