حق الصدقة
وَأَمَّا حَقُّ الصَّدَقَةِ فَأَنْ تَعْلَمَ أنَّها ذُخرُكَ عِنْدَ رَبكَ وَوَديعَتُكَ الَّتِي لا تَحْتَاجُ إلَى الإشْهَادِ، فَإذا عَلِمْتَ ذَلِك كُنْتَ بمَا اسْتَودَعْتَهُ سِرًّا أَوْثقَ بمَا اسْتَوْدَعْتَهُ عَلانِيَةً، وَكُنْتَ جَدِيرًا أَنْ تَكونَ أَسْرَرْتَ إلَيْهِ أَمْرًا أَعْلَنْتَهُ، وَكَانَ الأَمْرُ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ فِيهَا سِرًّا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَمْ تَسْتَظْهِرْ عَلَيْهِ فِيمَا اسْتَوْدَعْتَهُ مِنْهَا بإشْهَادِ الأَسْمَاعِ وَالأَبْصَارِ عَلَيْهِ بهَا كَأنَّهَا أَوْثقُ فِي نَفْسِكَ لا كَأنَّكَ لا تثِقُ بهِ فِي تَأْديَةِ وَديعَتِكَ إلَيْكَ، ثُمَّ لَمْ تَمْتَنَّ بهَا عَلَى أَحَدٍ لأَنّهَا لَكَ فَإذا امْتَنَنْتَ بهَا لَمْ تَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ بهَا مِثْلَ تَهْـجِينِ حَالِكَ مِنْهَا إلَى مَنْ مَنَنْتَ بهَا عَلَيْهِ لأَنَّ فِي ذلِكَ دَلِيلاً عَلَى أَنّكَ لَمْ تُرِدْ نفْسَكَ بهَـا، وَلَوْ أَرَدْتَ نفْسَكَ بهَا لَمْ تَمْتَنَّ بهَا عَلَى أَحَدٍ. وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ.
لا يمكن لمجتمع من المجتمعات أن ينمو نموا حقيقيا دون أن يكون مستعدا للبذل والعطاء، فبقدر العطاء يكون التقدم والازدهار. ولذا نرى الدول المتقدمة تولي أهمية خاصة بالقطاع التطوعي والجمعيات الخيرية والمنظمات غير الربحية، كما أن الشركات الكبرى في تلك الدول تساهم بشكل كبير في تمويل المشاريع الخيرية.
مثلا في العام 2008 قدمت شركة مايكروسوفت تبرعات للمنظمات غير الربحية بلغت قيمتها 498 مليون دولار، كما أنها ابتكرت نظاما تتبرع بموجبه بمبلغ 17 دولار عن كل ساعة يمضيها أحد موظفيها في عمل تطوعي.
وقد اهتم الإسلام بهذه المسألة اهتماما كبيرا، وركز على مفهومها الحقيقي حين وضع الإنفاق في سبيل الله في خانة المدخرات والودائع التي لا تضيع أبدا، بل إنها تزداد نموا وإنماء، حيث تبدأ بصاحبها فتطهره من الشح والبخل والأنانية وسوء الظن بالله تعالى، ثم تطهر المجتمع من الفقر والتفاوت الطبقي الفاحش، وتزرع فيه التكافل والتآزر والتعاون.
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَ?ِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَ?َنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿التوبة، 103﴾
وقد تكفلت الآيات البینات والروايات الشريفات بتبيان أهمية الصدقة الواجبة والمندوبة، ويكفي في ذلك أن الله تعالى يأخذها بنفسه كما أوضح ذلك القرآن الكريم:
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. ﴿التوبة، 104﴾
الصدقة تطفئ غضب الرب، وهي جُنة من النار، وتدفع ميتة السوء، وتنفي الفقر، وتداوي المرضى. يقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: " الصدقة تدفع البلاء، وهي أنجح دواء، وتدفع القضاء وقد أبرم إبراما، ولا يذهب بالأدواء إلا الدعاء والصدقة".
إذن الصدقات والتبرعات – إذا كانت لوجه الله تعالى- يجب أن تحسب في خانة الأرباح والعوائد في ميزانيات الأفراد والشركات. ولو تم أخذ هذا المفهوم حقيقة لتغير الحال، ولَبَحث المتمولون بأنفسهم عن أفضل جهات التبرع. يقول صاحب تفسير الأمثل في ذيل قوله تعالى:
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿سبإ، 39﴾
"جملة «فهو يخلفه» تعبير جميل يشير إلى أنّ ما ينفق في سبيل اللّه إنّما هو في الحقيقة تجارة وافرة الربح، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى تعهّد بأن يخلفه، ونعلم أنّه في الوقت الذي يتعهّد فيه الكريم بأداء العوض فإنّه لا يراعي المقدار الذي يريد تعويضه، بل إنّه يعوّض بأضعاف مضاعفة، بل بمئات الأضعاف.
طبعا فإنّ هذا الوعد الإلهي لا ينحصر بالآخرة، فإنّ ذلك مسلّم به، و لكن في الدنيا أيضا فإنّه يخلف ما أنفق بمختلف البركات. جملة هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ذات معنى واسع، و يمكن الإفادة منها من وجوه مختلفة".
لذا يركز الإمام عليه السلام في بيان حق الصدقة على أمرين هامين:
أولهما: الثقة بالله تعالى، وأنه خير شاهد وحفيظ، مما يعني عدم الحاجة إلى إشهاد أحد على ما يستودع لديه تعالى ليقين صاحب الصدقة بكفاية علم الله بالصدقة، ومن هنا تكون صدقة السر أوثق من صدقة العلانية من جهة خلوصها من شائبة الرياء. وكلما كانت الثقة أكبر كان العطاء أعظم، فمن أيقن بالخلف جاد بالعطية.
ثانيهما: عدم المن بالصدقة على الآخرين، لأن عائدها أولا لك قبل أن يكون للآخرين. لذا جعل الإمام المن إزراء بالنفس وتحقيرا لها أو (تهجينا) وفق تعبير الإمام، لأن المن يكشف أنك لا تحب نفسك لأنك – من حيث لا تريد – تمنع عنها ثواب الصدقة وبركتها.