حق الحج
وَأَمَّا حَقُّ الحَجّ أَنْ تَعْلَمَ أَنّه وِفادةٌ إلى رَبّكَ، و فِرارٌ إليه من ذُنوبكَ وفيهِ قبولُ تَوبتِكَ وقَضاءُ الفَرضِ الَّذي أوجَبَه الله عَليك.
الرحلة لا تزال مستمرة في رحاب رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين عليهما السلام، وحديثنا اليوم عن حق الحج.
الحج كما هو معلوم فريضة يجب أداؤها مرة واحدة في العمر، وما زاد كان تطوعا. يقول تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ ?َفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾﴿آلعمران، 97﴾
وكما هو الأمر في سائر العبادات، فقد يؤدي المسلم الحج عارفا بحقه، مستحضرا مضامينه العالية وأهدافه السامية، وقد يؤديه دون أدنى معرفة به، غير مهتم بمراميه، وشتان بين الاثنين.
إن كل فعل من أفعال الحج يرمي إلى معنى عميق لا يصل إليه إلا القليل، ولذا قال الإمام الصادق عليه السلام: ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج!. الملايين من المسلمين يأتون للحج كل عام، يحضرون هذا الموسم الإلهي الكبير الذي تتجلى فيه معاني المساواة الحقة بين الغني والفقير والأبيض والأسود والأصفر والأحمر، ومعاني الوحدة الإسلامية، ومعاني التذلل والخشوع لله عز وجل، ومعاني العبودية والخضوع والتسليم لرب إبراهيم عليه السلام، ومعاني الرضا واليقين بضيافة الله وكرم وفادته، ومعاني إعادة تكوين الشخصية من جديد ليعود المرء نقيا طاهرا من الذنوب كما ولدته أمه. هذا الموسم الإلهي تغيب معانيه فترى الكثير من الحجاج في الطواف وفي المسعى وفي الرمي وبقية الشعائر وكأنهم في حلبة صراع يتدافعون ويتشاجرون، يغضبون لأدنى سبب، ويتشاتمون لأتفه الأشياء، وهم مع ذلك يطلبون من الله المغفرة والرضوان.
يقول الإمام الباقر عليه السلام مذكرا بأهداف الحج الحقيقية: " ما يُعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم تكن فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله تعالى، وحلم يملك به غضبه، وحسن الصحابة لمن صحبه".
إن الإرشاد الديني في الحج لا ينبغي أن يقتصر على بيان الأحكام الفقهية للحج مع أهميتها وضرورتها، ولكن ينبغي معها التركيز على إيصال فلسفة الحج ورسالته كما يريدها الشارع المقدس. ويكفينا هنا التأمل في هذه القطعة العرفانية الرفيعة التي وردت عن الإمام الصادق عليه السلام، وهي رسالة موجهة إلى كل حاج نتمنى من أصحاب حملات الحج أن يقدموها هدية للحجاج إسهاما في توعيتهم. نختار منها:
" ثمّ اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبَك، والبسْ كِسوةَ الصِّدق والصفاء والخضوع والخشوع.
وأحرِمْ عن كلّ شيء يمنعك من ذِكر الله، ويحجبك عن طاعته.
ولبِّ بمعنى إجابةٍ صافية خالصة زاكية لله عزّوجلّ في دعوتك، متمسّكاً بالعروة الوثقى.
وطُفْ بقلبك مع الملائكة حول العرش، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت.
وهَروِلْ هرباً من هواك، وتبرّياً من جميع حولِك وقوّتك.
واخرُجْ عن غفلتك وزلاّتك بخروجك إلى «مِنى»، ولا تتمنَّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه.
واعترِفْ بالخطايا بـ «عرفات»، وجدّدْ عهدك عند الله بوحدانيّته، وتقرّب إلى الله واتّقِه بـ «مُزدَلَفة».
واصعدْ بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل. واذبَحْ حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة.
وارمِ الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات. واحلقِ العيوبَ الظاهرة والباطنة بحَلْق شَعرك.
وادخلْ في أمان الله وكنَفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم.
وزرِ البيتَ متحقّقاً لتعظيم صاحبه، ومعرفة جلاله وسلطانه.
واستلم الحجر رضاءً بقسمته، وخضوعاً لعزّته. وودّع ما سواه بطواف الوداع.
وأصفِ روحَك وسرّك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على «الصفا». وكنْ ذا مروّةٍ من الله، نقيّاً أوصافُك عند «المَرْوة».
واستقم على شرط حجّتك، ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربّك وأوجبت له إلى يوم القيامة.
فهنيئاً لمن عاد من حجّه وهو من التوّابين المتطهّرين، تيقّظ شعوره برقابة الله على أعماله وأقواله، ونما في قلبه شعور الخشية من الله عزّوجلّ وحبّ الخير للناس، والترفّع عن الدنايا، والتنزّه عن الرذائل والخطايا".