أجوبة المسائل الشرعية العدد (86) شهر(محرم الحرام) 1426 هـ
عام هجري جديد، ومحرم جديد، تتوهج فينا وفي قلوب الإنسانية المعذبة والمظلومة والمحرومة ومع أول لحظاته أحزان وأحلام كربلاء. فأهم ما في عاشوراء _وكل ما فيها مهم_ أنها كانت ملحمة إنسانية (مثالية)، وفوق (ما ينبغي)، جسدتها ثلة من المؤمنين، يقودهم الإمام الحسين بروحه الإنسانية المحبة للآخرين والحريصة عليهم، إذ إنه قد أذن لأصحابه بالانصراف، وأن يتركوه وحيداً فريداً في وسط أكثر من ثلاثين ألف من جيش يزيد، إلا أنهم أبوا ذلك، إذ إن عشقهم للحسين لم يترك لهم ولو لحظة تفكير بتركه، فقد نصروا الحسين بقلوبهم وأرواحهم قبل أن ينصروه بأجسادهم ونسائهم وأبنائهم، كما إن الحسين عليه السلام قد جذبهم إليه وأعشقهم نفسه بقلبه وروحه.
في مشهد كربلاء الدامي قلب آخر وقف مع الحسين وأثار الهمم والعزائم في أنصار الحسين، من شيوخ وشباب ونساء وأطفال، إنه قلب زينب الكبير، زينب التي كانت بدفئها وشجاعتها وصبرها قوة فاعلة في ثبات الأنصار أمام جيش يزيد، وفي الوقت نفسه كانت ثباتاً للمبدأ العاشورائي أمام يزيد نفسه، ومن بعده، وحتى يومنا هذا، وفيما بعد.
إن أعجب ما في عاشوراء أنها ولدت في أجواء الظلم الذي لا يقاربه ظلم كل الطغاة العتاة، الذين لطخوا صفحات مريرة وحزينة من التاريخ بسواد أحقاد نفوسهم المريضة، وبدماء الآلاف من الأنبياء والأولياء والملايين من الشهداء، وهو ما أعطى لكربلاء ميزة تجعلها فريدة وحيدة غريبة مثل صاحبها، فعاشوراء تطرح للعبرة والاعتبار كمثل لا يمكن تكراره اعتماداً على حجم الخسائر العظيمة التي بذلت فيها، لا أن تستحضر -كما يحدث بين حين وآخر- لتشبيهها بِحَدَثٍ يحدث في زمننا الذي نعيشه.
من هنا أضحى الانتماء إلى الحسين كعقيدة توحيد، ومبدأ إنساني، ومنهج ثوري، وخط رسالي إصلاحي، ليس بالأمر اليسير... فالانتماء إلى الحسين عليه السلام يستوجب فروضاً لا يمكن الحياد عنها قيد شعرة ولو للحظة، وهذا لا يدرك إلا بتأمل الحسين في مسيرته الإلهية العاشورائية من مكة، وما قبلها إلى كربلاء، وما بعدها... تأملاً يمتزج فيه العقل بالعاطفة، والقلب بالمنطق، والروح بالجسد...
في كل عام تتجدد رحلة عاشوراء الحسين حيث يعيش العاشقون للحسين فيها إيمان الحسين بالله وتضحيته الكبرى لأجل الحفاظ على الإسلام الأصيل، وأخلاق الحسين، ومبادئ الحسين، وإنسانية الحسين، لينطلقوا في ربوع الأرض، فينشروا المحبة والسلام بين الناس، ويدفعوا الظلم عن كل مظلوم، وما ذلك كله إلا استجابة عملية وعاطفية وإنسانية لنداء الحسين: (أما من ناصر ينصرني..) ذلك النداء المدوي الذي يستصرخ فينا قيم الأمانة والإخلاص، لأن نحمل راية عاشوراء التي ما رفعت إلا لخلاص الإنسانية جمعاء من الظلم والآلام والمعاناة والحرمان، تمهيداً لقيام دولة الإسلام والعدل والسلام، بظهور المنتظر الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، فعاشوراء عندنا ولاء وانتماء، وعاشوراء لنا دين ودنيا، وعاشوراء فينا شهادة وحياة.